الصُّهيونيَّة المسيحيَّة: محرّك سياسات “ورثة كورش” تجاه العالم الإسلامي – 5 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
عهد الربِّ لأبراهام محور عقيدة الصهيونيَّة المسيحيَّة
كما سبقت الإشارة، يشكِّل عهد الربِّ لأبراهام، الأب المؤسس، آنف الذِّكر (سفر التكوين: إصحاح 12، آيات 1-3)، الأساس لعقيدة الصهيونيَّة المسيحيَّة، ويعتبر الكاتب أنَّ هذا العهد، والمعروف بـ “عهد الرحمة”، بمثابة “قرار من الربِّ بالخلاص للناس” (ص20). يتكوَّن هذا العهد من شقَّين: الناس والأرض؛ أمَّا عن الشقِّ الأوَّل، فهو قرار الربِّ بتخليص البشر من خطاياهم من خلال مباركتهم أبراهام ونسله؛ وأمَّا عن الثاني، فهو مرتبط بأرض كنعان، التي وهبها الربُّ لأبراهام ونسله. يعني ذلك أنَّ اصطفاء الربِّ لأبراهام مرتبط باصطفائه للأرض، مما يعني أنَّ التخلِّي عن أحد الشقَّين يستتبع التخلِّي عن الآخر. بعبارة أوضح، إنكار أحقِّيَّة نسل أبراهام في أرض كنعان يعني الحرمان من الخلاص. يُذكر أنَّ الحديث عن هذا العهد تكرَّر في الكتاب المقدَّس بعهديه؛ فإلى جانب سفر التكوين، ذُكر العهد في سفر التثنية (إصحاح 1: آية 8)، وسفر يشوع (إصحاح 24: آية 3)، وسفر أخبار الأيَّام 1 (إصحاح 16: آيات 13-22)، ومزمور 105 (آيات 6-15)، وسفر ارميا (إصحاح 33: آيتان 25-26)، وإنجيل لوقا (إصحاح 1: آيات 68-79)، وسفر أعمال الرُّسُل (إصحاح 7: آيات 1-8)، وسفر العبرانيين (إصحاح 6: آيات 13-22). تشير النصوص آنفة الذِّكر في الكتاب المقدَّس إلى العهد الأبدي الذي قطعه الربُّ لأبراهام وذريَّته بمُلك متعاقب على الأرض المقدَّسة، وإن كان هناك اعتراف بأنَّ الأرض مِلك للربِّ، وبأنَّه يمكنه إخراج بني إسرائيل منها في حالة العصيان، كما ذُكر في سفر حزقيال (إصحاح 11: آيات 7-12)، وفي حالة التمرُّد، كما جاء في سفر التثنية (إصحاح 28: آيات 63-68)، وسفر حزقيال (إصحاح 5: آيات 7-17).
ويرى الكاتب أنَّ إسرائيل جعلها الربُّ “نورًا للأمم”، وأوكل إليها مهمَّة تخريج أسباب الخلاص للبشريَّة، وهذا يستدعي بعض المعاناة في سبيل تحقيق هذا الهدف، خاصَّة وأنَّ الشيطان-عدو الربِّ في الكتاب المقدَّس-يجتهد في إعاقة وصول بني آدم إلى الخلاص. تلا عهد الربِّ لأبراهام عهدان آخران لجيلين لاحقين من نسله: عهد الربِّ إلى موسى، وعهده إلى داود. أمَّا عن العهد الموسوي، أدان البشريَّة على إثمها، مما استلزم عصمة يسوع من الآثام في حياته لكي يفي بمتطلَّبات الشريعة، ويخلِّص البشريَّة من اللعن (رسالة بولس لأهل روميَّة: إصحاح 2، آية 29؛ رسالة أهل كولوسي: إصحاح 2، آية 11). في حين نصَّ عهد الربِّ لداود على احتفاظ داود وذريَّته بمُلك أبدي على الأرض المقدَّسة، وبالسلطة الدينيَّة كذلك، ويتحقق ذلك في فرد من نسله يكون الوسيط بين الربِّ والبشر، وقد تحقق ذلك في يسوع، الذي أطاع ربَّه، حتَّى في صلبه على خشبة وموته ميتة مهينة. بهذه الطاعة، استحق يسوع أن يصير “الراعي الصالح” للأمم، ومحاكمها جميعها يوم الدينونة (مزمور 110؛ رسالة بولس لأهل أفسس: إصحاح 1، آيات 15-23؛ رسالة بولس لأهل فيلبي: إصحاح 2، آيات 5-11؛ رسالة العبرانيين: إصحاح 5، آيات 5-10).
يوضح الكاتب أنَّ عهد الربِّ لأبراهام لم يكن فقط بذريَّة تبارك الأمم، إنَّما كذلك بأرض تكون محل الهداية والخلاص، مضيفًا أنَّ المجيء الأوَّل ليسوع، باعتباره المخلِّص لدي المسيحيِّين، كفل الشقَّ الأوَّل من العهد-الخلاص يكون بالالتحام الروحي بيسوع-وسيكفل مجيئه الثاني الشقَّ الثاني، وهو تأسيس مملكة الربِّ على الأرض المقدَّسة. يجدر التذكير بأنَّ بني إسرائيل طُردوا من الأرض المقدَّسة مرَّتين، الأولى على يد نبوخذ نصَّر عام 586 قبل الميلاد، والثانية على يد قوَّات القائد الروماني تيطس عام 70 ميلاديًّا. يعد الربُّ بعودة أخيرة لبني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة، ويستتبع تلك العودة مجيء المخلِّص، ولكن بشرط الإيمان والإخلاص في التوبة، كما ذُكر في “يَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ السَّيِّدَ يُعِيدُ يَدَهُ ثَانِيَةً لِيَقْتَنِيَ بَقِيَّةَ شَعْبِهِ، الَّتِي بَقِيَتْ، مِنْ أَشُّورَ، وَمِنْ مِصْرَ، وَمِنْ فَتْرُوسَ، وَمِنْ كُوشَ، وَمِنْ عِيلاَمَ، وَمِنْ شِنْعَارَ، وَمِنْ حَمَاةَ، وَمِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ” (سفر اشعياء: إصحاح 11، آية 11)، وفي “يَقُولُ الرَّبُّ، وَلاَ يُقَالُ بَعْدُ: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. بَلْ حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَصْعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ وَمِنْ جَمِيعِ الأَرَاضِي الَّتِي طَرَدَهُمْ إِلَيْهَا. فَأُرْجِعُهُمْ إِلَى أَرْضِهِمِ الَّتِي أَعْطَيْتُ آبَاءَهُمْ إِيَّاهَا” (سفر دانيال: إصحاح 16، آيتان 14-15).
أهم نتائج خرج بها الكاتب:
1-تشير عقائد الصهيونيَّة المسيحيَّة، وعلى رأسها الحتميَّة القدريَّة، إلى أنَّ الكنيسة حلَّت محلَّ دولة إسرائيل في كفالة الخلاص للأمم، ولكن ستأتي مرحلة تسبق سنوات محنة اليهود (Tribulation Years)، يتحوَّل فيها اهتمام الربِّ من الكنيسة إلى دولة إسرائيل؛ لكي تعاود مباشرة دورها في تحقيق الخلاص للبشريَّة.
2-ينبغي أن يستند الدَّعم الكنسي لإسرائيل إلى “صهيونيَّة الكتاب المقدَّس”، التي تقوم على عقيدة العهد، والإيمان بأنَّ الخلاص مرهون بمباركة أبراهام وذريَّته؛ والعهد من شقَّين، أحدهما مرتبط بالخلاص، والآخر متعلِّق بميراث الأرض المقدَّسة في تلك الذريَّة الواجب مباركتها. يوضع في الحسبان في هذا السياق، أنَّ يسوع قد حقَّق الخلاص بمجيئه الأوَّل، وتنبغي عودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة، ليؤسس يسوع في مجيئه الثاني مملكة الربِّ؛ فتنعم البشريَّة بالسلام والرخاء في ظلِّ حُكمه ألف عام.
3-لا يمكن أن يكون للصهيونيَّة المسيحيَّة أجندة خفيَّة تسعى إلى إشعال معركة مجيدو؛ فهي معركة يتنبَّأ بها سفر رؤيا يوحنَّا اللاهوتي، وتُعتبر آخر محاولة للتمرُّد البشري على الربِّ.
4-من المتوقَّع أن يهلك ثلثا اليهود في سنوات المحنة، وسيبقى الثلث الأخير لإعلاء كلمة الربِّ. لا يستدعي ذلك من اليهود الجزع، إنَّما الصبر والجلد، موقنين بأنَّ شقاءهم سيزول مع مجيء المخلِّص، الذي سيكون كما وعد الرب، ماحيًا للخطايا، ورابطًا على القلوب، وملكًا عادلًا.
الفكر الصهيوني المسيحي وتبرير الاستعمار الغربي/الاحتلال الإسرائيلي
يتضمَّن كتاب The Bible, Zionism, and Palestine-الكتاب المقدَّس والصهيونيَّة وفلسطين (2016)، مجموعة من المقالات، شارك بها متخصِّصون في الدراسات اللاهوتيَّة والسياسيَّة، يتبعون عدَّة جامعات بريطانيَّة. يشير محرِّر الكتاب، مايكل جي. سانفورد، وهو أستاذ في دراسات الكتاب المقدَّس في جامعة شفيلد البريطانيَّة، إلى أنَّ الدافع الأساسي وراء تقديم هذا المؤلَّف هو ما أظهرته نتائج مؤتمر حمل نفس عنوان الكتاب، عُقد في الفترة ما بين 24 و26 مايو من عام 2012 ميلاديًّا، عن وجود حاجة إلى عقد نقاش بين العلاقة بين عقيدة “الأرض المقدَّسة” والسياسة العالميَّة. تقدِّم المقالات دراسات عن نواحٍ لم تلقَ الاهتمام الكافي من الباحثين فيما يتعلَّق بالصهيونيَّة من مختلف جوانبها، خاصَّة مع الاستدلال بما ورد في الكتاب المقدَّس على صحَّة بعض العقائد المبرِّرة للجهود اليهوديَّة لتأسيس مملكة الربِّ على الأرض المقدَّسة.
يتناول الدكتور مارك فيني، وهو محاضر في مجال دراسات الكتاب المقدَّس في جامعة شفيلد، ومهتم بدراسة الأساس الديني للصراع في الشرق الأوسط، في مقال عنوانه “Christian Zionism, the US, and the Middle East-الصهيونيَّة المسيحيَّة، والولايات المتَّحدة، والشرق الأوسط”، تقارب العلاقات الأمريكيَّة-الإسرائيليَّة في هذه الآونة. يتساءل فيني عن سرِّ الدعم الأمريكي لإسرائيل، على المستوى العسكري والاقتصادي والسياسي، والذي يدفع أمريكا إلى الاعتراض على أيِّ قرار أممي يهدِّد المصالح الإسرائيليَّة، برغم أنَّ أمريكا لا تجني الكثير من هذا الدعم. تمدُّ أمريكا حليفها اليهودي بأحدث المعدَّات اللازمة للأغراض الاستخباراتيَّة والحربيَّة، وكأنَّما أرادت أن تقول للعالم أنَّ ما يمسُّ أمن إسرائيل القومي يمسُّ أمن أمريكا ذاتها، كما تصبُّ في اقتصاده مليارات الدولارات. وبسبب هذا التقارب مع إسرائيل، وقعت أمريكا في مأزق يصعب الخروج منه، وهو تحقيق المعادلة الصعبة، بكسب ثقة العالم الإسلامي، مع ضمان تحقُّق المصالح الإسرائيليَّة على حساب تأسيس دولة فلسطينيَّة. لا يجد الباحث تفسيرًا لهذا التقارب الشديد، الذي كلَّف أمريكا الكثير، سوى بممارسة الصهيونيَّة المسيحيَّة تأثيرًا قويًّا على العقليَّة الأمريكيَّة عبر القرون القليلة الماضية، أي منذ هجرة الطهوريِّين إلى العالم الجديد في القرن السابع عشر، وهذا ما يتناوله بالتفصيل.
يذكِّرنا مايكل فيني بأنَّ هجرة أتباع الحركة الطهوريَّة، المنبثقة عن المذهب البروتستانتي شديد التمسُّك بعقائد العهد القديم، كان لها الأثر الأكبر في تشكيل سياسة الدولة الأمريكيَّة الناشئة، في القرن الثامن عشر للميلاد. هجر الطهوريُّون العلمانيَّة في بلادهم، وآثروا العودة إلى أصول الدين، ورأوا في أنفسهم شعبًا مختارًا، تمامًا مثل بني إسرائيل لمَّا خرجوا من مصر وعبروا البحر إلى الأرض المقدَّسة. كان جون آدامز، ثاني رؤساء أمريكا (1797-1801)، أوَّل من نادى بعودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة، في تأكيد منه على إيمانه بعقيدة تأسيس مملكة الربِّ في آخر الزمان، ليحكم منها المخلِّص العالم. استطاع الصهاينة الأمريكيُّون عام 1891 ميلاديًّا، استمالة المئات من صفوة العاملين في مجال البزنس والسياسة، لإقناع الرئيس الأمريكي بنجامين هاريسون للضغط على الدولة العثمانيَّة للسماح لليهود بالعودة إلى فلسطين، وكان الدور الأكبر في ذلك للإنجيلي الأصولي وليام بلاكستون، أب الصهيونيَّة، كما يراه بعض المؤرِّخين.
بعد سقوط الدولة العثمانيَّة عام 1922 ميلاديًّا، قررت عصبة الأمم-نواة منظَّمة الأمم المتَّحدة-وضع فلسطين بالأراضي الواقعة تحت الانتداب البريطاني، وباركت أمريكا القرار، برغم عدم انضمامها إلى دول عصبة الأمم، فيما عُرف بـ “الاتفاق الأنجلو-أمريكي بشأن فلسطين”، الصادر عام 1924 ميلاديًّا. جاء هذا الاتفاق نتيجة لضغوط العاملين في مجال البزنس في أمريكا، ممَّن أرادوا حصَّة في الفرص التجاريَّة في الأراضي الواقعة تحت الانتداب البريطاني في الشرق الأوسط. لم يدَّخر الصهاينة الأمريكيُّون، خلال عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، جهدًا من أجل حشد دعم رجال الدين والسياسة لقضيَّتهم. وفق ما ورد في كتاب The Politics of Christian Zionism, 1891-1948-سياسات الصهيونيَّة المسيحيَّة، 1891-1948 (1998) لبول تشارلز مركلي، تأسَّست عام 1932 ميلاديًّا، لجنة فلسطين الأمريكيَّة (The American Palestine Committee-APC)، مطالبة باستعادة اليهود ميراثهم التاريخي للأرض المقدَّسة؛ وقد انضمَّ إلى تلك اللجنة خلال عشر سنوات العشرات من أعضاء البرلمان، والمشرِّعين، والكُتَّاب، والمعلِّمين. لم يتوقَّف نشاط الصهاينة المسيحيِّين عند ذلك الحدِّ؛ فقد أسَّس فريق منهم المجلس المسيحي بشأن فلسطين (Christian Council on Palestine-CCP) عام 1942 ميلاديًّا، بهدف اجتذاب رجال الدين إلى حركتهم. في العام ذاته، عَقَد مجموعة من الصهاينة المسيحيِّين مؤتمرًا في فندق بالتيمور في مدينة نيويورك، اختُتم بالإعلان عن ضرورة تأسيس دولة يهوديَّة في فلسطين، بإجماع المشاركين. عُرف هذا الإعلان لاحقًا بـ “برنامج بالتيمور”، وقد نشأت عنه حركة مؤيِّدة للمطالبات الصهيونيَّة بدولة يهوديَّة تستعيد الميراث الموعود، وقد انضمَّ إليها سياسيُّون بارزون من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، من بينهم هاري ترومان، الذي صار رئيسًا لأمريكا (1945-1953)، وقد شهدت رئاسته تأسيس إسرائيل في 15 مايو 1948 ميلاديًّا، بعد قرار الأمم المتَّحدة بتقسيم فلسطين الصادر في 29 نوفمبر 1947 ميلاديًّا، وكان ترومان من أوائل المعترفين بالدولة الإسرائيليَّة الناشئة.
أسفرت الاضطرابات الاجتماعيَّة داخل أمريكا، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، عن صحوة دينيَّة في اتجاه المسيحيَّة المحافظة والأصوليَّة، خشية الانحدار الأخلاقي. كما سبقت الإشارة، لم يعد السياسيُّون الأمريكيُّون يخشون التصريح بانتماءاتهم الدينيَّة، وقد تقدَّم إلى مقعد الرئاسة عددٌ من المنتمين إلى التيَّار الأصولي، من بينهم جيمي كارتر، ورونالد ريجان. يشير مارك فيني إلى أنَّ ريجان جعل ضمن أولويَّاته تأسيس جيش على أتمِّ استعداد لمعركة مجيدو، بدفع من التعاليم الدينيَّة التي تلقَّاها عن أشهر المبشِّرين الإنجيليِّين، على رأسهم جيري فالويل وبات روبرتسون. وقد ذكر عضو بارز في اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، وفق ما نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكيَّة، بتاريخ 14 أبريل 1984 ميلاديًّا، في مقال تحت عنوان “Does Regan Expect a Nuclear Armageddon?-هل يتوقَّع ريجان معركة مجيدو نوويَّة؟”، أنَّ الرئيس الأسبق والنائب العام في إدارته كانا يدعوان كي تندلع معركة مجيدو، مما يعكس دور النبوءات الدينيَّة في تشكيل السياسات الأمريكيَّة، وبخاصَّة ما يتعلَّق منها بالشرق الأوسط.
تراجَع دعم الليبراليِّين الأمريكيِّين لإسرائيل في أعقاب عدوانها على الدول المجاورة في 5 يونيو من عام 1967 ميلاديًّا-حرب الأيَّام الستَّة-بينما ازداد دعم المحافظين، المستندين في توجُّهاتهم السياسيَّة إلى نبوءات الكتاب المقدَّس عن آخر الزمان، والذين تعتبر عقيدة تأسيس مملكة الربِّ على جبل صهيون من أهم العقائد المكوِّنة لفكرهم. أسهم التقدُّم شديد السرعة لإسرائيل في زحفها الاستيطاني، وانتصارها المذهل على العرب عام 1967 ميلاديًّا، في حشد مزيد من التأييد لسياساتها بين الأمريكيِّين، ممَّن رأوا أنَّ موقع الهيكل صار في أيدي اليهود، بعد احتلالهم البلدة القديمة في القُدس. وأصبح الشعور بقرب نهاية الزمان، وحلول مملكة الربِّ، من أهم محفِّزات الصحوة الدينيَّة في أمريكا، ويثبت ذلك المبيعات الهائلة التي حققتها مؤلَّفات تتناول أحداث آخر الزمان. ولا شكَّ في أنَّ الإيمان بمعتقدات الصهيونيَّة المسيحيَّة لعب دورًا كبيرًا في الدعم المتواصل للإدارات الأمريكيَّة المتعاقبة للجانب الإسرائيلي، في الصراع الدائر في فلسطين. يتجلَّى ذلك في تغاضي البيت الأبيض عن النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفَّة الغربيَّة، ويطبِّق الإسرائيليُّون مبدأ انتهاز الفرص والتحايل حتَّى تحقيق الأهداف بغضِّ النظر عن ردِّ فِعل الأطراف الأخرى.
ويرى مارك فيني أنَّ ردَّ الفعل الأمريكي تجاه التدخُّل الإسرائيلي في الضفَّة الغربيَّة وغزَّة يبلور تأثير الصهاينة المسيحيِّين على توجيه السياسة الرسميَّة الأمريكيَّة. على سبيل المثال، اضطر الرئيس جورج بوش إلى مطالبة أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، عام 2002 ميلاديًّا، لإيقاف عدوانه المتواصل على الشعب الفلسطيني، وكان ذلك استجابة للنداءات والمطالبات الدوليَّة. بينما اعتُبر ردُّ شارون، بأنَّ عدوانه يندرج تحت مسمَّى الدفاع عن النفس، ردًّا معهودًا ومتوقَّعًا، كان ردُّ اليمين المسيحي في أمريكا مفحمًا؛ فقد ذكر دونالد فاجنر في مقاله “Marching to Zion: The Evangelical-Jewish Alliance-السير إلى صهيون: التحالف الإنجيلي-اليهودي” (2003)، أنَّ اللوبي الداعم لإسرائيل، بالتنسيق مع اليمين المسيحي، أرسل أكثر من 100 ألف رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى الرئيس بوش؛ لحثِّه على عدم تقييد التحرُّكات الإسرائيليَّة. وبالفعل، نجحت الضغوط الصهيونيَّة في إثناء بوش عن موقفه؛ فلم يحرِّك ساكنًا في مواجهة شارون، الذي أكمل عدوانه. ينطبق الأمر ذاته على موقف بوش من خطَّة السلام المقترَحة عام 2003 ميلاديًّا لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، المعروفة بـ “خارطة الطريق” (Road Map)؛ حيث شنَّ اليمين المسيحي وقتها حملة ضغط لإثناء الرئيس عن التصديق على تلك الخطَّة؛ فسحب بوش تأييده للخطَّة تدريجيًّا. ويعلِّق مارك فيني على ذلك، بأنَّ اليمين المسيحي يعمل على إيقاظ الإيمان بعقيدة المجيء الثاني للمسيح، التي تستوجب تأسيس مملكة بالحدود الجغرافيَّة، التي يذكرها الكتاب المقدَّس لآخر دولة لبني إسرائيل على الأرض المقدَّسة، في القرن الأوَّل الميلادي.
يجدر بنا في السياق ذاته الإشارة إلى دراسة قيِّمة، أعدَّها الباحث رامي هيجا، أستاذ علم الاجتماع في عدد من الجامعات الأمريكيَّة، عنوانها “The Armageddon Lobby: Dispensationalist Christian Zionism and the Shaping of US Policy Towards Israel-Palestine-لوبي معركة مجيدو: الصهيونيَّة المسيحيَّة القدريَّة وتشكيل السياسة الأمريكيَّة تجاه إسرائيل-فلسطين” (2006)، يتناول فيها تاريخ الصهيونيَّة المسيحيَّة في أمريكا، مع التطرُّق إلى تأثير عقائد تلك الحركة على السياسات الأمريكيَّة المتعلِّقة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. يعترف الباحث بالنجاح الذي أحرزه اللوبي المرتقب لمعركة مجيدو في أمريكا في إسكات أيِّ صوتٍ مندِّد بالاعتداءات الإسرائيليَّة على الفلسطينيِّين، وإن كان لذلك تأثيره السلبي، المتمثِّل في إحباط مساعي التفاوض، مما يعني استمرار حالة التوتُّر الأمني في إسرائيل.
يشير الباحث إلى أنَّ التحالف بين الصهاينة المسيحيِّين واللوبي الداعم لإسرائيل في أمريكا قديم، ولكن التطوُّرات التي شهدها الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تستدعي فحص طبيعة هذا التحالف عن قُرب. يلعب اللوبي الصهيوني المسيحي دورًا لا يمكن تجاهُله في توجيه الناخب الأمريكي، وهدفه الأساسي هو تشكيل قاعدة جماهيريَّة مناصرة لإسرائيل، تؤمن بنبوءات الكتاب المقدَّس، وبعقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة، التي ترتبط بتحقُّق تلك النبوءات. يُطلق على الصهاينة المسيحيِّين في أمريكا العديد من الألقاب، من بينها “لوبي معركة مجيدو” و “الإيباك المسيحي”، في إشارة إلى جماعة الضغط اليهوديَّة الأعلى تأثيرًا في أمريكا. تعاني إسرائيل منذ تأسيسها من نظرة المجتمع الدولي السلبيَّة، وخاصَّة بعد قرار الأمم المتَّحدة 3379، الصادر عام 1975 ميلاديًّا، الذي اعتبر الصهيونيَّة من أشكال العنصريَّة والتمييز. لذلك، فهي تحتاج إلى تحسين صورتها دوليًّا، ولكن دون تنازلات سياسيَّة أو أرضيَّة. استجابةً لهذه الحاجة، نشأ اليمين المسيحي في أمريكا، وتأسست منظَّمات يهوديَّة أيقنت حينها أنَّ التحالف مع الصهيونيَّة المسيحيَّة بإمكانه تحسين صورة إسرائيل على المستوى الدولي، اعتمادًا على السياسات الأمريكيَّة.
قلقًا من غياب الحشد الجماهيري لفصيلهم السياسي، شعر المسيحيُّون المحافظون بضرورة وجود كيان مُعترف به يتولَّى هذه المهمَّة؛ فأسس القسُّ والمبشِّر الإنجيلي جيري فالويل نهاية السبعينات من القرن الماضي منظَّمة الأغلبيَّة الأخلاقيَّة (Moral Majority)، بهدف حشد الكنيسة لمساندة مواقف سياسيَّة واجتماعيَّة تخدم مصالح التيَّار المحافظ. نجحت المنظَّمة، بفضل زعيمها شديد التأثير، في اجتذاب آلاف الكنائس والملايين من أتباعها، لتؤسِّس بذلك كتلة مسيحيَّة، تُعرف اليوم بـ “اليمين المسيحي”. أظهرت الدراسات أنَّ هذه الحركة أصبحت الأكبر من نوعها في أمريكا، مستأثرةً بالكتلة التصويتيَّة الأكبر للحزب الجمهوري. جدير بالذِّكر أنَّ زعيم حزب الليكود ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، مناحيم بيجين، قد دعا كلًّا من جيري فالويل وزميله بيلي جراهام إلى عشاء فاخر، ليقدِّم لهما ميدالية جابوتنسكي المئويَّة، وهي ميدالية سُمِّيت على اسم فلاديمير جابوتنسكي، الزعيم الصهيوني اليميني، تُهدى لمَن يُعتبر صديقًا مدى الحياة لإسرائيل. ويرى الباحث أنَّ إهداء الميدالية إلى المبشِّرين الداعمين للكيان الصهيوني يمثِّل البداية الرسميَّة لتحالف اليمين المسيحي مع إسرائيل.
يتأسَّف الباحث على أنَّ العالم يشاهد المآسي التي يلاقيها الفلسطينيُّون كلَّ يوم، دون أن يتحرَّك لهم ساكن، بينما يواصل الصهاينة المسيحيُّون دعمهم لإسرائيل وتبرير أعمالها العدوانيَّة. وقد صار من الواضح أنَّ “من خلال نفوذ لوبي الصهاينة المسيحيِّين، يمكن لإسرائيل تنفيذ أهدافها، رغم أنف الاحتجاج والقانون الدولي” (ص93). وبرغم أنَّ الدراسات الحديثة قد أثبتت تفضيل المواطنين الإسرائيليِّين الانسحاب من مستوطنات الضفَّة الغربيَّة، يدعم الصهاينة المسيحيُّون انتشار المستوطنات في الضفَّة الغربيَّة والعنف المتزايد ضدَّ الفلسطينيِّين. من المثير للدهشة أنَّ الحركة الصهيونيَّة المسيحيَّة تدعم إسرائيل بالمال والنفوذ؛ ومع ذلك، فمن عقائدها أنَّ ثلثي اليهود سيهلكون فيما يُعرف بـ “سنوات المحنة الكبرى”. يعني ذلك أنَّ الصهيونيَّة المسيحيَّة في سعيها إلى تحقيق نبوءات الكتاب المقدَّس، فهي تحمل لليهود في ذات الوقت تهديدًا بفناء غالبيَّتهم.
(المصدر: رسالة بوست)