الصُّهيونيَّة المسيحيَّة: محرّك سياسات “ورثة كورش” تجاه العالم الإسلامي – 2 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
الأصول التاريخيَّة للتراث اليهودي-المسيحي
كما سبقت الإشارة بالتفصيل في دراسة “مخطوطات البحر الميِّت وعقيدة بني إسرائيل الحقيقيَّة”، شنَّ القس الألماني مارتن لوثر حملة على كاثوليكيَّة روما مطلع القرن السادس عشر؛ اعتراضًا على ما رآه من تجاوزات أخلَّت بصحيح العقيدة. أمَّا عن الداعم الأكبر لتلك الحملة، فكان اليهود، ممَّن أقنعوا لوثر بأنَّ تصحيح العقيدة كان يوجب الاستناد إلى العهد القديم، وأرادوا كذلك تصفية حسابهم مع الإمبراطوريَّة الرومانيَّة-مدمِّرة الهيكل الثاني وطاردة بني إسرائيل من الأرض المقدَّسة. غير أنَّ لوثر فطن إلى خداع اليهود في نهاية الأمر، وبعد أن بدأت حملته بمقاله الشهير “المسيح وُلد يهوديًّا” (1523 ميلاديًّا)، أنهاها بمقال “عن اليهود وأكاذيبهم” (1543 ميلاديًّا). لعلَّ من أهم نتائج حملة لوثر التصحيحيَّة إنهاء استئثار كاثوليكيَّة روما بقراءة الإنجيل وتفسيره؛ فقد بدأت ترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللغات السادة حينها.
دخلت البروتستانتيَّة إلى إنجلترا منتصف القرن السادس عشر، بتشجيع من الملك هنري الثامن، لأسباب شخصيَّة بحتة، من بينها عدائه مع صهره السابق، ملك إسبانيا، الذي كانت الكنيسة الكاثوليكيَّة تحت سُلطته. وظهرت فرقة البيوريتانيِّين، أو الطهوريِّين، في القرن السابع عشر، بدافع تطهير الكنيسة الأنغليكانيَّة من بقايا التأثيرات الكاثوليكيَّة. أسفر الانسلاخ التام عن الكاثوليكيَّة نزعة لاستكشاف طبيعة المعتقَد اليهودي، وقراءة تاريخ بني إسرائيل، ممَّا أدَّى بدوره إلى ظهور اهتمام بنبوءات العهد القديم، ومفاهيم عهد الربِّ لأبراهام العبراني بمملكة من نهر مصر إلى نهر الفرات، وأرض الميعاد، واصطفاء الربِّ لبني إسرائيل على سائر الأمم. ولعلَّ من نتائج الانجذاب إلى العنصر اليهودي في أوروبا إثارة التعاطف مع اليهود، بشأن طردهم من الأرض المقدَّسة واضطهاد الأمم لهم، وإن كانت العقيدة البروتستانتيَّة قد وجدت لذلك تفسيرًا، وهو أنَّه عقوبة إلهيَّة على قتلهم يسوع الناصري، وإصرارهم على رفض فكرة كونه المخلِّص الموعود في أسفار العهد القديم. أدَّى الاهتمام بالعقيدة اليهوديَّة في أوروبا إلى حالة من الربط بين العهدين القديم والجديد، من حيث التبشير بالمخلِّص الموعود، الذي سيحكم العالم من مملكة على الأرض المقدَّسة. وقد تنامى لدى علماء اللاهوت المسيحي اهتمام بدراسة التلمود والتاريخ اليهودي؛ وأسفر ذلك كلُّه عن انتشار عقيدة انتظار المخلِّص، كما أسفر عن اقتناع أوروبا بالحتميَّة التاريخيَّة التي تحمِّل اليهود دورًا محوريًّا في تنفيذ خطَّة الربِّ، وقد انتقل ذلك الاعتقاد إلى الفكر الأمريكي لاحقًا.
أثار هذا التقارب بين الفكرين اليهودي والمسيحي، وما أسفر عنه من تكوُّن عقيدة المسيحيَّة الأصوليَّة، انتقادًا واسعًا في وسط المثقَّفين العرب والغربيِّين، ومن بينهم جورجي كنعان، الذي ينقل عنه شعبان رأيه في أحد مؤلَّفاته “إنَّ أكبر عمليَّة تزييف في التاريخ تتم بصمت وتآمر هي عمليَّة تهويد المسيحيَّة” (ص48). ويشير الباحث السوري ندرة اليازجي إلى وجود تبايُن كبير بين المسيح الذي تتناوله نبوءات العهد القديم وبين يسوع الناصري، الشخصيَّة المحوريَّة في العهد القديم، مثيرًا مسألة في غاية الحساسيَّة، وهي أنَّ “المسيح في التوراة مصطلح يكتنفه الغموض”، وأنَّ “النبوءات لا تنطبق على مَن وُلد في بيت لحم من عذراء”، كما جاء في كتابه رد على اليهوديَّة واليهوديَّة المسيحيَّة (1978).
يؤدِّي ما سبق طرحه إلى الاستنتاج بأنَّ الفكر المسيحي الجديد الناشئ في الغرب لتحقيق أهداف معيَّنة، قد أدَّى إلى تكوُّن ما يُعرف بـ “المسيحيَّة الغربيَّة”، التي اصطُلح على تسميتها التراث اليهودي-المسيحي، ثمَّ الصهيونيَّة المسيحيَّة. يلخِّص شعبان هذه المسألة في عبارة موجزة “المسيحيَّة الغربيَّة إذن هي مؤسسة غربيَّة المنشأ والتطوُّر، وهذا ما جعل عددًا من المفكِّرين يقولون: إنَّ الغرب قد اختطف المسيحيَّة، وعمل فيها تشويهًا وتحريفًا عبر القرون لكي تستجيب لظروفه وأطماعه الآنيَّة والمستقبليَّة” (ص49). يعني ذلك أنَّ الغرب تبنَّى مجموعة من الأساطير التوراتيَّة التي رأى فيها مغنمًا آنيًّا، بفرض سيطرته على العالم من خلال فرض فكرة الحتميَّة التاريخيَّة والدور الإلهي الملقى على عاتقه لنشر المسيحيَّة وتهذيب الهمج من الأغيار، ومستقبليًّا، بالترويج لفكرة أنَّ الخلاص يوم الدينونة هو للمؤمنين بالمخلِّص وحدهم، حيث سيبيد المخلِّص الأمم الأخرى. وكان المفكِّر اليهودي الأمريكي ألفريد ليلينتال من أكثر معارضي فكرة الوطن القومي لليهود على الأرض المقدَّسة، كما جاء في كتابه The Zionist Connection: What Price Peace-الرابطة الصهيونيَّة: ما ثمن السلام (1978)، وينقل عنه شعبان قوله “إنَّ صانعي الأساطير قد استغلُّوا العبرانيِّين والإسرائيليِّين والشعب اليهودي بالقول باستمراريَّة تاريخيَّة لهذه الأساطير” 486-487 (ص50). يضع ليلينتال يده على صُلب المشكلة، وهو سيطرة اليهود على منابع المعرفة الأكاديميَّة والإعلاميَّة، وكتمهم أيَّ صوت يندِّد بممارساتهم الوحشيَّة ضد الشعب الفلسطيني، مستغلِّين بذلك سلاح “معاداة الساميَّة” في إرهاب الساعين إلى نشر الحقيقة.
فهمنا ممَّا سبق أنَّ الولايات المتَّحدة قد تبنَّت الفكر المسيحي المتصهين بدافع نفعي، وكان إيمانها بعقيدة الحتميَّة التاريخيَّة والتدبيريَّة الإلهيَّة من أهم أسباب مباشرتها دورها في الشرق الأوسط، باعتبارها الداعم الأكبر لدولة إسرائيل، والمساند الأوَّل لمسألة تأسيس الهيكل الثالث على ما يُطلق عليه جبل الهيكل، أي الصخرة المعلَّقة، موضع مصلَّى قبَّة الصخرة في المسجد الأقصى. وقد أعرب المؤرِّخ الديني الأمريكي تيموثي ويبر، في مقاله “How Evangelicals Became Israel’s Best Friend -كيف أصبح الإنجيليُّون أصدقاء إسرائيل المقرَّبين” (1998) عن قلقه من استناد بلاده إلى عقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة (Dispensationalism)، التي تعتبر جزءً لا يتجزَّأ من عقيدة الصهيونيَّة المسيحيَّة، في استشراف المستقبل وتوجيه السياسة الدوليَّة. باختصار، تقوم التدبيريَّة الإلهيَّة-تُعرف كذلك بالقدريَّة-على أساس تقسيم التاريخ الإنساني إلى 7 حُقب زمنيَّة، وصلت البشريَّة إلى الحقبة السادسة فيها، وهي “دور الكنيسة والنعمة”، وهي الحقبة الممهِّدة لمجيء المخلِّص وحُكم الألف عام. وفقًا لموسوعة ويكيبيديا الرقميَّة، يصرُّ الأصوليُّون على أنَّ الأرض المقدَّسة هي موقع مملكة الألف عام، مما يستلزم فرض السيطرة عليها، استعدادًا لمجيء المخلِّص. يتعارض ذلك مع اعتقاد الكنيسة التقليديَّة بأنَّ إسرائيل الكبرى في آخر الزمان هي مملكة سماويَّة، يُوصل إليها بالسمو الروحاني؛ من ثمَّ، فلا علاقة لها بالأرض المقدَّسة.
يتطرَّق الدكتور بهاء الأمير في كتابه اليهود والحركات السريَّة في الكشوف الجغرافيَّة وشركة الهند الشرقيَّة البريطانيَّة (2019)، الذي سبقت الإشارة إليه، إلى تأثُّر البروتستانتيَّة، أصل العقيدة الصهيونيَّة في المسيحيَّة، بحركة الصليب الوردي (Rosicrucian)، الذي ظهرت في أوروبا، بوصفها امتدادًا لحركة فرسان الهيكل. ويدلِّل الأمير على تأثُّر لوثر بحركة الصليب الوردي باتِّخاذه شعارًا لحركته يشبه شعار حركة الصليب الوردي، هو عبارة عن صليب يتوسَّط قلبًا يقع بداخل وردة، ويُعرف بـ “ختم لوثر”.
تأثير التراث اليهودي-المسيحي في تكوُّن الفكر الأمريكي
يبدأ الدكتور فؤاد شعبان هذا القسم من دراسته بالإشارة إلى “دور الدين في الحياة الأمريكيَّة”، من خلال التذكير بعقد قُدَّاس في الكاتدرائيَّة الوطنيَّة الأمريكيَّة، بعد أيَّام من تسلُّم الرئيس جورج دابليو بوش الحُكم، في يناير 2001 ميلاديًّا، في نفي تامٍّ لما يُثار عن اتِّباع السياسة الأمريكيَّة فِكرًا علمانيًّا (ص61). تطرَّق الموعظة التي ألقاها القُس فرانكلن جراهام، نجل القس والمبشِّر الإنجيلي الشهير والمستشار الروحي لعدد من رؤساء أمريكا، إلى النموذج المثالي الذي قدَّمه أنبياء بني إسرائيل للبشريَّة، مشيرًا على الأخص إلى الملك داود، ذلك القائد الإسرائيلي العظيم، الذي مهَّد لتأسيس دولة عالميَّة، حكمها نجله، سليمان، بعد تأسيس الهيكل الأوَّل. كأنَّما أراد جراهام التذكير بالدور الذي فرضته التدبيريَّة الإلهيَّة على رؤساء أمريكا، ورثة كورش، كما أطلق عليهم المؤرِّخ بول تشارلز مركلي، في كتابه آنف الذِّكر (2004)، في تأسيس مملكة إسرائيل الموعودة وإعادة بناء الهيكل، ترقُّبًا لظهور المخلِّص. ما يثبت هذا الافتراض هو تشبيه القُس فرانكلن جراهام تنصيب جورج دابليو بوش رئيسًا على أمريكا بتنصيب داود ملكًا على إسرائيل. واستنادًا إلى ما جاء في سفر التكوين عن أنَّ مباركة الربِّ للأمم مرهونة بمباركة الأمم لنسل أبراهام، رأس سلالة بني إسرائيل، “وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ»” (سفر التكوين: إصحاح 12، آية 3)، ذكَّر جراهام الحضور بأنَّ أحباب إسرائيل هم أحباب الربِّ، وأعداؤها هم أعداؤه.
يلقي شعبان الضوء على أهمِّ الأفكار التي حملها المهاجرون الإنجليز الأوائل إلى أمريكا الشماليَّة، والنابعة من إيمانهم بعقيدة الطهوريَّة البروتستانتيَّة، يأتي على رأسها: 1-التدبيريَّة الإلهيَّة، أو خط الربِّ لتسيير الكون، وراء هجرتهم إلى العالم الجديد؛ أي أنَّها تستتبع أداءهم دورًا بارزًا في تأسيس مملكة الرَّبِّ. وسبقت الإشارة إلى تشبيههم أنفسهم بأسباط بني إسرائيل عند عبورهم البحر وخروجهم من مصر إلى أرض كنعان؛ 2-الاعتقاد في وجود عهد بينهم وبين الرَّبِّ، أسند الرَّبُّ إليهم بموجبه مهمَّة هداية العالم إلى الخلاص وإنقاذه من الضلالات، وهذا ما فتح المجال أمام دور الكنيسة الإنجيليَّة في نشر تعاليم المسيح. اعتبر المهاجرون الطهوريُّون أنفسهم بمثابة حُجَّاج انتقلوا إلى العالم الجديد ضمن الخطَّة الإلهيَّة لتأسيس مملكة إسرائيل؛ ومن هنا اصطُلح على تسميتهم الآباء الحجَّاج (Pilgrim Fathers). برَّر هذا الاعتقاد المجازر التي قام بها المهاجرون ضدَّ المواطنين الأصليِّين لأمريكا الشماليَّة، الذين أطلقوا عليهم الاسم المسيء “الهنود الحمر”، بأنَّ شبَّهوا أنفسهم ببني إسرائيل في حربهم مع سكَّان أرض كنعان، التي قادها النبي يشوع، وصيُّ موسى وخليفته.
اعتاد الوعَّاظ والسياسيُّون في بداية الحملات الاستيطانيَّة على الاستعارة من الكتاب المقدَّس في مواعظهم وخطبهم، في تأكيد على أهميَّة الدور الذي لعبه العامل الديني في توجيه السياسة الأمريكيَّة في مهدها. ومن بين عبارات الكتاب المقدَّس التي مارست تأثيرًا فارقًا في توجيه الفكر الأمريكي الناشئ، الإشارة إلى بني إسرائيل باعتبارهم “الشعب الذي دخل في عهد مع الله”. تكرَّرت في العهد الجديد الإشارة إلى التفويض الإلهي لشعبه المختار لتأسيس كنيسة الرَّبِّ، ولعلَّ هذه الآية في رسالة بطرس الأولى خير مثال “وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ شَعْبُ اقْتِنَاءٍ” (رسالة بطرس الأولى: إصحاح 2، آية 9)؛ وتعبر هذه الآية في رسالة بولس الرَّسول إلى أهل روميَّة عن نفس المضمون “وَإِنْ كَانَتِ الْبَاكُورَةُ مُقَدَّسَةً فَكَذلِكَ الْعَجِينُ وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ مُقَدَّساً فَكَذلِكَ الأَغْصَانُ” (رسالة روميَّة: إصحاح 11، آية 16). وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ كلمة كنيسة مشتقَّة من الكلمة اليونانيَّة Eklessia، التي تشير إلى تجمُّع بني إسرائيل؛ وكأنَّما بناء الكنيسة هو بهدف جمع الناس لتشكيل وحدة دينيَّة، تؤمن برسالة واحدة، وتعبد ربًّا واحدًا، في خطوة تمهيديَّة لمجيئه، كما أنَّ في اجتماع بني إسرائيل في الأرض المقدَّسة استعداد لمجيء المخلِّص. من هنا، تحتَّم بناء الكنائس التبشيريَّة بقرب مجيء المسيح في شتَّى بقاع الأرض، ضمن عهد الربِّ لشعبه المفوَّض، وتلك كانت عقيدة كولومبوس اليهودي قبل نشأة الصهيونيَّة المسيحيَّة.
أمريكا بوصفها صهيون الجديدة
ارتبط في الذهنيَّة الأمريكيَّة منذ عهد المهاجرين الأوائل تشبيه أمريكا بمدينة القدس، الواقعة على جبل صهيون، واعتبارها منارة للعالم. وتجد الكاتب الأمريكي رالف والدو ايمرسون يقول عن أمريكا “آخر محاولة للعناية الإلهيَّة لإنقاذ الجنس البشري”، كما ينقل عنه شعبان (ص82). ويتَّفق الكاتب هيرمان ملفيل، حيث يرى أنَّ الأمريكيين قد أسسوا حضارتهم الجديدة، بعد تحرُّرهم من تراث الأمم السابقة التي احتكُّوا بثقافاتها. في كتابه Redburn: His First Voyage-ريدبورن: رحلته الأولى (1849)، يعبِّر ملفيل عن إيمانه بعقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة، بإشارته إلى المهمَّة الإلهيَّة المسندة إلى الشعب الأمريكي “الشعب الخاص المختار…إسرائيل هذا العصر” في نشر التحضُّر والرقي في العالم، وفي هذا يقول “سوف تتبعنا بقيَّة الأمم قريبًا. فنحن روَّاد هذا العالم، نحن الحرس في الخطوط الأماميَّة، أرسلنا الله إلى قفار الجاهليَّة لكي نشقَّ طريقًا جديدة في هذا العالم الخاص بنا. إنَّ البشريَّة تتطلَّع إلى ما كتب الله لعرقنا أن يمنحها. لا شكَّ أنَّ المسيح السياسي قد نزل فينا” (ص217).
يزخر الخطاب السياسي في العقود الأولى لحياة المهاجرين الطهوريِّين إلى أمريكا، بالاستعارات من الكتاب المقدَّس، وازداد الأمر في فترة الصراع المسلَّح ضدَّ الإنجليز، خلال سنوات حرب الاستقلال، حيث جرى تشبيه الأمريكيين أنفسهم ببني إسرائيل في صراعهم مع فرعون والمصريين، وقد نظَمَ الشاعر تيموثي دوايت عام 1771 ميلاديًّا ملحمة شعريَّة عن تلك الفترة، أطلق عليها “The Conquest of Qanaan”، أو غزو كنعان، استند فيها إلى سفر يشوع في العهد القديم، في تناوُله صراع بني إسرائيل مع سكَّان الأرض المقدَّسة، حتى غزوها وأخضعوها بالكامل لسلطانهم، وكان التشبيه هذه المرة لخصم الأمريكيين، الذين شبَّههم دوايت ببني إسرائيل وشبَّه قائد معركة الاستقلال جورج واشنطن بالنبي يشوع، بالفلسطينيين القدماء. ويبدو أنَّ انتصار الأمريكيين على خصهم، وتأسيس دولة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة أواخر القرن الثامن عشر، قد شجَّعهم على التحوُّل من التشبيه المجازي إلى الواقع العملي؛ ففكرة “إسرائيل هذا العصر” تحوَّلت إلى سعيٍ جدِّي أطلقته جماعات دينيَّة، إلى استعادة الأرض المقدَّسة.
ظهرت أوائل القرن التاسع عشر، مجموعة من المذاهب الدينيَّة المنبثقة عن البروتستانتيَّة، اشتركت جميعها في الإيمان بألفيَّة المسيح، وفي السعي إلى إطلاق حملات تبشيريَّة تجوب العالم، وبخاصَّة العالم الإسلامي، الذي ارتبطت به أمريكا وقتها تجاريًّا. ومن بين أهم دوافع نشر المسيحيَّة في العالم الإسلامي ترقُّب علامات الساعة، والاعتقاد في قُرب حلول مملكة الربِّ، وليس من المنطقي انتظار مجيء المخلِّص دون تهيئة الأجواء لذلك. كان إسقاط دولة الخلافة العثمانيَّة من بين أهم الأهداف؛ لإزالة الرابط الرمزي لمسلمي العالم، والتخلُّص من السيطرة المسلمة على الأرض المقدَّسة، ولن نعيد الإشارة إلى مؤامرات اليهود وأتباع الماسونيَّة العالميَّة لإسقاط الدولة العثمانيَّة، وكيف أسفر نجاح خططهم عن احتلال الأرض المقدَّسة بلا مقابل، بعد أن عرض تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونيَّة، على السلطان عبد الحميد الثاني تسديد ديون دولته، في مقابل الموافقة على منح اليهود حقي تأسيس وطن قومي لهم هناك. وكان سقوط دولة الخلافة من بين العلامات الفارقة عند حركات الصهيونيَّة المسيحيَّة.
مساعي الأصوليين لاستعادة الأرض المقدَّسة من “الكفَّار”
منذ بداية القرن التاسع عشر، بدأت مساعي الأصوليين من أتباع المذهب الطهوري، إلى استعادة الأرض المقدَّسة، التي اعتبروها حقًّا لهم تكفله النصوص الدينيَّة. وكان القس هيمان همفري من بين المنادين بالزحف المقدَّس إلى المشرق الإسلامي واستعماره، وفق العقيدة الاستيطانيَّة التي يكشف عنها سفر يشوع، “كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى” (سفر يشوع: إصحاح 1، آية 3). في موعظة له تحت عنوان “أرض الميعاد”، ألقاها في 29 سبتمبر من عام 1819 ميلاديًّا، نادي همفري بالعمل الجدِّي لغزو أرض كنعان، مستعرضًا تاريخ تلك الأرض، ومشيرًا إلى عهد الربِّ لأبرام وذريَّته من أبناء الذبيح، إسحق بمُلك أبدي على تلك الأرض-سبق دحض هذا الزعم وإثبات بطلان هذا العهد. يعترف القس الأصولي في هذه الموعظة بأنَّ آثام بني إسرائيل حالت دون سيطرتهم الدائمة على الأرض المقدَّسة، مشيدًا ببسالة يشوع بن نون في معاركه في مواجهة الفلسطينيين القدماء، إلى أن أسس دولة لبني إسرائيل، وطرد منها الأغيار.
غير أنَّ سيطرة بني إسرائيل ومُلكهم على الأرض المقدَّسة لم يدوما، حيث دبُّ الضعف في دولتهم، إلى أن أُسقطت أكثر مرَّة، وطُردوا بلا رجعة بعد خراب الهيكل الثاني على يد الرومان، في القرن الأوَّل الميلادي. يبدو أنَّ همفري قد تشجَّع على المناداة باستعادة الأرض المقدَّسة بفضل القوَّة المتزايدة للولايات المتَّحدة، ونفوذها المتزايد في العالم الإسلامي، وقد تضمَّنت موعظة “أرض الميعاد” ما يوحي بذلك “المساحات الشاسعة من أملاك الكنيسة ما زالت تحت سيطرة الكفَّار (يقصد المسلمين) … والمسيحيَّة اليوم تمتلك القوَّة والموارد التي ستمكِّنها باسم الله، ودون تأجيل، أن ترفع علمها على كلِّ أرض يمتلكها الكفَّار”. هذا، وأوكل همفري إلى المؤسسة التبشيريَّة في بلاده مهمَّة استعادة الأرض المقدَّسة، من خلال إشعال حماسة المسيحيين ممَّن لن يتقاعسوا عن تلبية نداء الكنيسة، مردِّدين بصوت واحد “من أجل صهيون لن نلزم الصمت…ومن أجل القدس لن نخلد إلى الراحة”.
النشاط الاستيطاني الأمريكي في الأرض المقدَّسة
يتطرَّق شعبان إلى انطلاق حملات مسيحيَّة، لم تقتصر على المبشِّرين ولا اليمينيِّين، بل شارم فيها معتدلون، إلى الأرض المقدَّسة في القرن التاسع عشر، بهدف تأسيس مستوطنات. كان الخطاب الديني لعلماء اللاهوت من أشد العوامل المحفِّزة لتلك الهجرة، ومن أشهر ما قيل في هذا الصدد في أعمال كبار المبشِّرين، ما ورد في كتاب جون باركلي المعنون The City of the Great King: Jerusalem As It Was, As It Is, and As It Is To Be-مدينة الملك العظيم: أورشليم كما كانت، وكما هي، وكما ستكون (1858) “إنَّ جمعيَّة التبشير المسيحيَّة الأمريكيَّة-التي تعمل تحت رعايتها بعثة التبشير في القدس-في مبادرتها لتنفيذ المشروع التبشيري، قررت بالإجماع، وبحكمة واعية، حسب تقاليد تلامذة المسيح، أن تمنح الخلاص لإسرائيل، والشعب النبيل الذي انبثقت منه؛ لأنَّ القدس هي لليهود“، كما ينقل عنه شعبان (ص106). ومن نماذج دعوات المبشِّرين إلى نشر المسيحيَّة في القدس، دعوة موسى ستيوارت خلال موعظة ألقاها عام 1819 ميلاديًّا، أمام جماعة من المبشِّرين كانوا على استعداد للتوجُّه إلى المشرق الإسلامي إلى “الذهاب إلى القدس، ورفع علم الصليب هناك من جديد“.
اعتقد المستوطنون الأمريكيُّون في قُرب مجيء المخلِّص، وكثرت رحلات المستكشفين إلى العالم الإسلامي، وفي مخيِّلة هؤلاء جميعًا أنَّهم أوشكوا على الوصول إلى الخلاص. ويستعرض شعبان نموذج لرسالة من إحدى هؤلاء المهاجرين، تتحدَّث فيها عن تجربتها بعيدًا عن موطنها وأسرتها، والرسالة نُشرت عبر مجلَّة The Monthly Gospel Visitor-زائر الإنجيل، وهي مجلَّة تبشيريَّة شهريَّة، في عددها 12، الصادر عام 1859 ميلاديًّا؛ تقول المهاجرة ليديا ماريَّا شولر في رسالتها، المؤرَّخة بتاريخ 10 مايو 1854 ميلاديًّا، والمرسلة من سهول شارون “عندما شعرت بعبء الخطايا التي اقترفتها، ولم أجد أحدًا يستطيع أن يزيح هذا العبء عن صدري سوى ذلك الذي روى بدمه هذه الأرض، ناداني وقال لي: تعالي وسأمنحك الراحة والخلاص”. يضيف شعبان في تناوُله لكتابات شولر عن تجربتها الاستيطانيَّة، أنَّ المبشِّرة الأمريكيَّة تعكس في تأمُّلاتها عن المدينة العتيقة أنَّ الفكر التبشيري الأمريكي كان مدفوعًا برغبة عارمة في “استعادة” المدينة ذات الطابع الديني، والتي “دنَّسها المحتلُّون” (ص110).
(المصدر: رسالة بوست)