الصّوفيّة المعاصرة.. أنواعها؛ ومنهجيّة الحكم والتقييم
بقلم محمد خير موسى
بعيدًا عن السّجالات والمعارك التي تحبّها وتتغذّى عليها شرائح من المنتمين للتيّارات الإسلاميّة، وبعيدًا عن التحيّز المسبق للصّوفيّة أو ضدّها؛ فإننا نحتاج إلى نقاشٍ هادئٍ موضوعيّ حول الصّوفيّة المعاصرة.
خللٌ منهجيّ في الحكم والتّقييم
من أكبر الأخطاء المنهجيّة في نقاش الجماعات والتيّارات الفكريّة المعاصرة عدمُ تحرير الموضع والإطار المقصود بالحكم والتّقييم، وإطلاق الحكم العامّ وتنزيلُه على مكوّنات مختلفةٍ فيما بينها في الحقيقة متشابهةٍ في الأصل، أو متناقضةٍ في المضمون متّحدةٍ في الاسم.
ومن تجلّيات هذا الخلل المنهجيّ؛ إطلاق التّقييمات على الصّوفيّة المعاصرة بالجملة دون تفريقٍ أو تحديدٍ وتخصيص.
كأن يقول قائل: الصّوفيّة يؤمنون بهذا التوجّه، أو الصّوفيّة يتبّنون الموقف السّياسيّ الفلانيّ، أو الصّوفيّة يعتقدون الاعتقاد العلّاني تجاه أنظمة الحكم أو تجاه الجماعات غير الصّوفيّة، أو الصّوفيّة يلتزمون بالسّلوك الفلانيّ تجاه الثّورات الشعبيّة على الأنظمة السياسيّة.
ومن مجافاة الإنصاف عدم مراعاة تطوّر الصّوفيّة المعاصرة وتحوّلاتها الفكريّة وانقسامها، والبقاء في إطلاق الحكم على الصّوفيّة المعاصرة بناءً على ما في بطون كتب التّراث القديمة التي تحدّث أهلها عن الصّوفيّة التي كانوا يعاينونها، فمن البؤس المنهجيّ استجلاب القول التّاريخيّ للحكم على حالةٍ معاصرة دون مراعاة الفروق أو دون اطلاع على الجماعة المعاصرة وما تحمله من أفكار وتوجّهات.
والصّوفيّة اليوم تطوّرت حتّى غدت صوفيّاتٍ مختلفةً فيما بينها، وجلّها يدّعي أنّه عنوان التّصوّف الحقّ على الرّغم من أنَّ الأمر فيما بين كثيرٍ من مكوناتها تجاوز حدّ التّناقض الفكريّ وصولًا إلى العداء السّلوكيّ.
أنواع الصّوفيّة المعاصرة
من خلال ملاحظة الواقع الصّوفي في العالم اليوم يمكنني تقسيم الصّوفيّة المعاصرة إلى أربعة أنواع على النّحو الآتي:
أولًا: الصّوفيّة العلميّة
وهي صوفيّةٌ ترتكزُ على الحالة المدارسيّة المسجديّة، وتقوم على البناء العلميّ للفرد، وتجمع بين البناء العلميّ والصّفاء الرّوحيّ من منابع التّصوف وكتبه ورموزه، دون الإغراق في الانتماء لطريقة صوفيّة معيّنة، وتتميّز بالبعد عن الشّطح الصّوفيّ.
ومن أشهر معاقل الصّوفيّة العلميّة في العالم الإسلاميّ الأزهر الشّريف الذي بقي يمثّل المرجعيّة العلميّة الأبرز في العالم الإسلاميّ حتّى بعد محاولات إخضاعه للسياسة ابتداءً من عصر عبد النّاصر إلى اليوم.
وكذلك يمثّل جامع الزّيتونة في تونس أحد أبرز معاقل الصّوفيّة العلميّة، وفي سوريا يمكن اعتبار جماعة زيد بن ثابت في دمشق التي أسّسها الشّيخ عبد الكريم الرّفاعي، وجماعة الفتح الإسلامي التي أسّسها الشّيخ صالح فرفور، وجماعة القبيسيّات النّسائيّة التي أسّستها الآنسة منيرة القبيسي وجماعة حيّ الميدان التي أسّسها الشّيخ حسن حبنّكة الميداني من أبرز جماعات الصّوفيّة العلميّة في سوريا.
ثانيًا: الصّوفيّة الطُّرُقيّة
وهي الصّوفيّة التي تنتسب إلى الطّرق الصّوفيّة، ولا يمكن حصر عدد الطّرق الصّوفيّة في العالم الإسلاميّ بسهولة، ويعبّرُ أصحابُ الطّرق الصّوفيّة عن تسويغهم كثرة هذه الطرق بعبارة تتردّد كثيرًا على ألسنتهم منسوبة إلى الإمام الغزالي ويقولها جلّ الرموز من علماء الصّوفيّة “إلى الله طرائق بعدد أنفاس الخلائق” وتختلفُ هذه الطّرق من بقعةٍ جغرافيّة إلى أخرى، بحيث نجد أنّ بعض البلدان لها طرقها الصّوفيّة الخاصّة، غير أنّ الطرق الصّوفيّة الرّئيسة في عموم أنحاء العالم الإسلامي يمكن ردّها إلى ثلاث طرق رئيسة وهي:
الطريقة النّقشبنديّة:
وقد نشأت في القرن الثامن الهجري على يد محمد بهاء الدين شاه نقشبند المُتَوفّى سنة 791هــ، وهو الذي تُنسب إليه الطريقة.
ويقول أصحاب الطريقة النقشبندية: إن طريقتهم كانت تسمى “الصدّيقية” نسبةً إلى أبي بكر الصديق، ثم سُميت “الطّيفورية” نسبةً إلى أبي يزيد البسطامي واسمه طيفور.
كانت الطريقة مقصورة الانتشار في بخارى وما جاورها لكونها المدينة التي عاش فيها مؤسسها نقشبند، ثم انتشرت في بلاد الشام بعد ذلك عن طريق الشيخ خالد النقشبندي بعد أن تلقّى الطريقة من الشيخ عبد الله الدهلوي.
تنتشر الطريقة النقشبندية في أماكن كثيرة خصوصًا في بلاد القوقاز وبخاري وسمرقند وشبه القارة الهندية سابقًا وذلك لأنّ سادات الطريقة النقشبندية من تلك البلاد. كما تنتشر الطريقة في تركيا والبوسنة وأنحاء إفريقيا ومعظم البلاد العربية خصوصاً في بلاد الشام.
وأهمّ ما تتميّز به النّقشبنديّة عن غيرها من الطرق الصّوفيّة “الرّابطة الشّريفة”، ويقول الشيخ خالد النقشبندي عنها:”الرابطة هي من أعظم أسباب الوصول بعد التمسّك التام بالكتاب العزيز وسنة الرسول”
والرّابطة كما يعرّفها الدّكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه “هذا والدي” قبل أن يشنّع عليها ويحكم عليها بأنّها ضربٌ من البدع المنكرة والضّلال الذي يجب رفضه؛ فيقول:
“معنى الرّابطة فيما يقرِّره ويحرص عليه كثيرٌ من مشايخ الطّريقة النّقشبنديّة؛ هو أن يبدأ المريد في أوّل توجّهه إلى ذكر الله عزّ وجلّ فيتصوّر شيخه ويجعل من تصوّره هذا فاتحة ذكره لله عزّ وجلّ، ويوصي هؤلاء الشّيوخ مريديهم بهذا العمل على أنّه ضرورة لا بدّ منها، ووجه ضرورته في نظرهم أنّ المريد لا يستطيع أن يستلهم ذكر الله عزّ وجلّ إلّا إذا تصوّر الشّيخ أولًا، إذ أنّه هو الذي يمكِّنه من دخول الحضرة الإلهيّة ذاكرًا ومراقبًا”
الطريقة الشّاذليّة
مؤسسها أبو الحسن الشاذلي، ولد بقرية عمارة قرب مرسية في بلاد المغرب، سنة 593 هـ، وانتقل إلى تونس، ثم دخل العراق، ثم ذهب إلى مصر، ونزل بالإسكندرية، مات في صحراء عيذاب بصعيد مصر، سنة 656 هـ في طريقه إلى الحج، ومن أبرز تلاميذه ابن عطاء السكندري صاحب الحكم العطائيّة الكتاب الأكثر شهرة عند عموم الصّوفيّة بمختلف مدارسهم وطرقهم.
يقول الإمام الذّهبي في ترجمته بكتابه ” تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام”:
“وهو رَجُل كبير القدر، كثير الكلام، عالي المقام، لَهُ شِعر ونثْر فيه مُتشابهات وعبارات، يُتكَلَّف لَهُ فِي الاعتذار عَنْهَا، ورأيت شيخَنا عمادَ الدين قد فَتَرَ عَنْهُ فِي الآخر، وبقي واقفًا فِي هذه العبارات، حائرًا فِي الرجل، لأنه كَانَ قد تصوف عَلَى طريقته؛ ثمّ يقول: وكان الشّاذلي ضريرًا، ولخلْق فيه اعتقادٌ كبير، وكان مالكيًّا”
والشّاذليّة تنتشر في مصر وسوريا وفلسطين والأردن واليمن وجزر القمر والمغرب العربي
الطريقة الرّفاعيّة
تنسب الطّريقة الرفاعية إلى أحمد الرفاعي بن سلطان علي، ويوصل أتباعه نسبه إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق إلى علي بن أبي طالب. ولد أحمد الرفاعي في قرية “حسن” بالقرب من “أم عبيدة” بالعراق 512 هـ وتوفي سنة 578 هـ ودفن في قرية “أم عبيدة”.
قال الذهبي في “سير أعلام النّبلاء” مترجمًا للإمام الرفاعي:
“الإمام القدوة، العابد، الزاهد، شيخ العارفين، أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة الرفاعي المغربي ثم البطائحي، وكان قدم أبوه من بلاد المغرب وسكن البطائح في قرية “أم عبيدة” وهي قرية من قرى واسط بالعراق. ثم توفي وأم أحمد حامل به”
ثمّ يقول الإمام الذهبي في كتاب “العبر في خبر مَن غبر” في الحديث عن الرّفاعي:
“وكان إليه المنتهى في التواضع والقناعة ولين الكلمة والذلّ والانكسار والإزراء على نفسه وسلامة الباطن ولكنّ أصحابَه فيهم الجيّد والرديء، وقد كثر الزّغل فيهم، وتجدّدت لهم أحوال شيطانيّة منذ أخذت التتار العراق؛ من دخول النيران وركوب السباع واللّعب بالحيات، وهذا مَا عرفه الشّيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشّيطان”
على أنّ هناك طرقًا صوفيّة منتشرة في بلدان عدّة منها الخلوتيّة والقادريّة والأحمديّة والتيجانيّة والسّنوسيّة
وهناك طرق صوفيّة تختصّ ببلدان معيّنة أو إقليم جغرافيّ محدّد، ففي السّنغال ــ على سبيل المثال ــ توجد الطرق القادريّة والتيجانيّة غير أنّ السنغال تختصّ بالطريقة المريديّة التي اسّسها الشّيخ السّنغالي أحمد بامبا.
وفي البوسنة تنتشر الطريقة النقشبنديّة والطريقة الخلوتيّة غير أنّ البوسنة تختصّ بالطريقة الحمزويّة التي أسّسها الشّيخ البوسنيّ حمزة بالي أورلوفيتش
وعموم الطرق الصّوفيّة تعتمد منهج الذّكر في التزكية غير أنّها تتسم بنسبة عالية في اعتمادها على الوعظ المستند إلى كرامات الشيخ وتقديسه والارتباط به والتعصب له، إضافة إلى تلبّس المريدين باعتقاداتٍ تميل إلى الخرافات تحت عنوان الكرامات، ويفشو الجهل في نسبة واسعة بين المريدين مما يسهم في انتشار البدع والمنكرات في طقوسهم وسلوكيّاتهم.
ومن الملاحظ أنّ المدن تحتضن الطرق الأقلّ خرافةً كالنّقشبنديّة والشّاذلية، بينما الأرياف والبوادي تنتشر فيها الطرق الزّاخرة بالخرافة كالرّفاعيّة وما فيها من ضرب الشيش واللعب بالحيّات وابتلاع النار وأكل الزّجاج وغير ذلك.
النّوع الثّالث: الصّوفيّة الشّعبيّة
ومصطلح “التصوّف الشّعبي” ذكرته المستشرقة الألمانيّة الشّهيرة آنا ماري شيمل (توفيت 2003م) في كتابها “الأبعاد الصّوفيّة في الإسلام وتاريخ التصوّف” وهي تتحدّث عن انتشار التصوّف في المجتمع التركي لا سيما في العصر العثماني.
وما أقصده “بالصّوفيّة الشّعبيّة” هو أن يصبحَ التصوّف طابعًا عامًا للمجتمع ولا يقتصر فقط على مريدي الطرق، وهذا ما كانت عليه كثيرٌ من المجتمعات الإسلاميّة وما زالت، فالمجتمع التركي والسوري والمصري والأفغاني والباكستاني والقوقازي والسوداني هي مجتمعات صوفيّة، بمعنى أن ثقافة التصوّف هي الثّقافة الغالبة في الواقع الاجتماعي عند الإنسان البسيط العاديّ الذي لا يعرف الطرق الصّوفيّة ولا ينتمي إليها.
وهذا التصوّف الشّعبي عادةً يتّسم بالصّدق مع البساطة والجهل والالتزام بالطقوس الصّوفيّة دون معرفة دلالاتها أو معانيها.
ومن ذلك ممارسة زيارات القبور بقصد التبرّك والنّذور عند أضرحة الأولياء بقصد جلب الحبيب أو حدوث الحمل أو صلاح الأولاد.
ومن ذلك أيضا انتشار ثقافة الاحتفالات بالمناسبات الدّينيّة المختلفة وفي مقدّمتها المولد النبويّ بحيث تغدو هذه الاحتفالات طقسًا شعبيًّا عامًا لا ارتباط له بمدرسة صوفيّة أو طريقة بعينها.
النّوع الرّابع: الصّوفيّة الحركيّة
وهي ليست حالةً صوفيّة مستقلّةً قائمةً بذاتِها بل هي جزءٌ من الإسلام الحركي، ويتجلّى بأوضح صوره في جماعة الإخوان المسلمين، فالجماعة ليس لها طابعٌ واحدٌ في التوجّه الصّوفي أو السّلفي، وقد حاول مؤسسها الإمام حسن البنّا المقاربة في ذلك بتعريف الجماعة أنّها “دعوةٌ سلفيّة وطريقةٌ سنيّة وحقيقةٌ صوفيّة” غير أنّ الجماعة بقيت مصبوغة بالصّبغة الدّعويّة والتوجّه العام للمجتمع الذي تنبت فيه.
فالإخوان في المجتمعات التي يغلب عليها الطابع الصّوفي كأفغانستان والعراق وأوروبا ومصر مصبوغون بالصبغة الصّوفيّة العامّة، وهم في المجتمعات ذات الطابع السّلفيّ كإخوان الخليج مثلًا مصطبغون بالصّبغة السلفيّة الهادئة.
ففي سوريا ــ على سبيل المثال ــ يصطبغ إخوان دمشق بالصّبغة السّلفيّة، بينما إخوان حماة وإخوان حلب ينتمون للمشرب الصّوفيّ بشكلٍ ظاهر.
وهذه الصّوفيّة التي تمتزج بالجماعة الحركيّة تنتج لنا نموذجًا مختلفًا من التصوّف المعاصر وهو ما يمكننا تسميته الصّوفيّة الحركيّة.
وبعد بيان أنواع الصّوفيّة المعاصرة؛ فعودًا على بدءٍ نجدّد التّأكيد أنّ أوّل خطوات المنهج التقييميّ السليم هو البعد عن إطلاق الأحكام التعميميّة، ثم التعامل التفكيكيّ الهادئ لعناصر الصّوفية المعاصرة والحكم على كلّ عنصرٍ؛ فلكلّ نوعٍ من أنواع الصّوفيّة المعاصرة عناصره، بل داخل النّوع الواحد عناصر تصل حدّ التناقض في المواقف، فتعميم الحكم الذي ينطبق على أحدها عليها جميعًا خللٌ منهجيّ يتمّ غضّ الطّرف عن التّعامل به في بعض الأحيان بطريقة متعمّدةٍ إنفاذًا للحنق الحزبيّ أو الانتماء الفكريّ المخالف والمخاصم.
نموذج الحكم التعميميّ في فكرة الحلول والاتحاد
ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك ضرورة لمراجعات نقديّة وشرعيّة لسلوك الجماعات وأهل الطرق في الصّوفيّة المعاصرة، والوقوف على ما فيها من مخالفات شرعيّة وبدع دخيلة، على أن يكون ذلك بإنصافٍ وتوازنٍ بقصد الإصلاح لا الهدم ولا الإلغاء.
وإنّ من أكثر ما ترمى به الصّوفيّة أنّها منحرفة العقيدة كونها تؤمن بعقيدة الحلول والاتّحاد، والحقيقة أنّ هذا الحكم التعميميّ يعدّ نموذجًا على مجانبة الإنصاف والتّوازن في الكثيرِ من النقد الموجّه للصّوفيّة المعاصرة.
إنّ عامّة أهل التّصوّف يرفضون الحلول والاتّحاد حتّى أولئك الذين يرميهم خصوم الصّوفيّة بأنّهم من أهل الحلول والاتّحاد، ومن يقولون بالحلول والاتّحاد فريق قليلٌ من الصّوفيّة لا يساوي شيئًا حقيقيًّا في خارطة وجودهم، ومع ذلك يتمّ تعميم هذه الفكرة بطريقة غير منهجيّة تهدف إلى الشيطنة لا تبيين الحقائق، ولو نظرنا في بعض ما قاله أعلام الصّوفيّة لرأينا موقفهم الواضح من ذلك.
فالشيخ عبد الوهاب الشعراني يقول في كتابه “اليواقيت والجواهر”: “ولعمري إِذا كان عُبَّاد الأوثان لم يتجرؤوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله؛ بل قالوا: “ما نعبدهم إِلا ليقربونا إِلى الله زلفى”، فكيف يُظَن بأولياء الله أنهم يدَّعون الاتحاد بالحق على حدٌّ ما تتعقّله العقول الضعيفة؟! هذا كالمحال في حقهم، إِذ ما مِن وليٌّ إِلا وهو يعلم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وأنها خارجة عن جميع معلومات الخلائق، لأن الله بكل شيء محيط”
وها هو محيي الدّين بن عربي المعروف عند أهل التصوّف بالشّيخ الأكبر بينما يحلو لفريق من خصوم الصوفيّة تسميته الشيخ الأكفر يقول في “الفتوحات المكيّة”: “اعلم أن الله واحد بالإِجماع، ومقام الواحد يتعالى أن يحلّ فيه شيء، أو يحلّ هو في شيء، أو يتّحد في شيء”
ويقول في موضع آخر من “الفتوحات المكيّة”: “من قال بالحلول فهو معلول، فإِنّ القول بالحلول مرضٌ لا يزول، وما قال بالاتّحاد إِلا أهل الإِلحاد، كما أنّ القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول”
ومثل هذا الاعتراض والإنكار نُسب إلى أبي الحسن الشّاذلي والإمام الغزالي وغيرهم من أعلام التصوّف.
فعندما يتمّ تكرار أسطوانة أنّ الصّوفيّة يؤمنون بالحلول والاتّحاد للتدليل على ضلالهم يكون ذلك نابعًا من الجهل العارم بحقيقة مساحة وجود القول بالحلول والاتحاد داخل الجسم الصّوفيّ عمومًا، أو ناتجًا عن الرّغبة في الإلغاء نتيجة التعصّب للتيارات المخالفة والمخاصمة، وهذا لا تستسيغه طباع الباحثين عن الحقّ.
والآن يغدو من الضّروريّ الحديث عن موقف الصّوفيّة المعاصرة من الاحتلال الأجنبيّ والاستبداد السّياسيّ الدّاخليّ وتقييم هذه المواقف، وهل الصّوفيّة المعاصرة هي مطيّة الاحتلال والاستبداد حقًّا؟ وهذا ما سنجيب عنه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم