الصهيونية.. الجذور والتطور والمآل
إعداد صلاح الدين العواودة
مصطلح “صهيون”، أو “تسيون”، هو اسم القدس في كتاب “التناخ” الذي يعتبر كتاب التاريخ الأول لليهود، ومصطلح “أحباء صهيون” يشير إلى مجموعة من المنظمات التي نشأت في عام 1881م على خلفية المذابح الروسية لليهود، واجتمعت في مؤتمر عام 1884م، وقد أنشئت المجموعات الأولى في أوروبا الشرقية بهدف تنظيم الهجرة إلى فلسطين، والاستيطان هناك، وبقي معظمها بعيداً عن السياسة، وفي عام 1890م أطلق مصطلح “الصهيونية” الحديث على النشاط الصهيوني من قبل المفكر “نتان بيرنبويم”، وفي عام 1897م أحصت لجنة “أوديسا” أكثر من 4 آلاف عضو في هذه الجمعيات، وبمجرد إنشاء الحركة الصهيونية، انضمت إليها معظم جمعيات أحباء صهيون.
الحركة الصهيونية نشأت كثمرة لظروف دولية وسياق تاريخي بأوروبا في ذروة عصر النهضة
نشأت الحركة الصهيونية كثمرة لظروف دولية وسياق تاريخي بأوروبا في ذروة عصر النهضة، وذروة الاعتزاز بالدولة القومية الأوروبية التي نشأت على أنقاض الإمبراطوريات الدينية، وفي ذروة الشعور القومي الموصل إلى العنصرية التي كانت أحد تجلياتها المعاداة الأوروبية للسامية، وفي ظل الاندفاع الأوروبي لاحتلال واستعمار القارات الأخرى وإنشاء المستعمرات فيها، ليس من قبل الدول فقط؛ بل من قبل أشخاص وعائلات أحياناً، ولدت فكرة دولة لليهود، وفكرة تحويل اليهودية إلى قومية، والتفكير بإقامة مستعمرة بالتعاون مع الدول العظمى في تلك المرحلة التي تعتبر نتاجاً طبيعياً لروح المرحلة الثقافية والسياسية والاجتماعية.
في مقدمة كتابه «دولة اليهود»، يقول «تيودور هرتزل»: إن القضية هي مشكلة اليهود في العالم التي يجب أن تحل، مؤكداً أن أنشطة أحباء صهيون ما هي إلا رد فعل لمعاداة السامية، و«هرتزل» الصحفي النمساوي الذي كان متشرباً بالثقافة النمساوية والألمانية العلمانية، الذي كان يكره حقيقة كونه يهودياً، بل رفض
.. وتميزت على مر السنين بالتطور وفقاً للأحداث على الساحة الدولية والإقليمية
الالتزام بالتقاليد اليهودية لدرجة رفضه ختان ابنه «هانس»، عندما غطّى محاكمة «درايفوس»، الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتهم بالخيانة في فرنسا عام 1894م، استشعر حجم الكراهية لليهود في أوروبا، وكان يشاهد اليهود كيف يضطرون لتنصير أبنائهم من أجل الحصول على فرصة للتعليم والعمل كنظرائهم من مواطني الدول الأوروبية، فكان هدفه حل مشكلة اليهود والحصول على دولة يكون اليهودي فيها متساوي الحقوق، ولم تكن فلسطين في حينه خياره الوحيد، بل وأول ما فكر فيه، وفقاً لمذكراته، كان تنصير اليهود بشكلٍ جماعي حتى يستطيعوا الاندماج في المجتمعات الأوروبية النصرانية.
وعندما بدأ الحديث مع أقرانه من اليهود العلمانيين، وكانوا قلة نادرة، حول إقامة دولة خاصة باليهود، لم يحدد بقعة جغرافية محددة، بل طرح بدائل عدة؛ من بينها الأرجنتين وأوغندا، ولكن أصدقاءه نصحوه بأن يختار فلسطين؛ لما للديانة اليهودية من ارتباط بها، وقالوا له: إن اليهود لن يتوافقوا على مشروع وطن لهم غير فلسطين.
أما عن اليهود عموماً وفي أوروبا خصوصاً، ففي تلك الفترة وكما في القرون السابقة، عاشوا كجاليات دينية منغلقة محافظة على تقاليدها الدينية التي حالت دون اندماجهم في المجتمعات الأوروبية الآخذة بالتحرر والابتعاد عن مظاهر التدين، ولا سيما أن اليهود عموماً كانوا يُمثلون من خلال رجال الدين الذين كانوا يقودونهم ويشكلون حياتهم وعلاقتهم بالمحيط، وفي ظل هذا كله رفض عموم اليهود فكرة «هرتزل» رفضاً مطلقاً، بل إن مجمع الحاخامات في النمسا منع «هرتزل» من عقد المؤتمر الصهيوني الأول في فيينا؛ مما اضطره لعقده في بازل بسويسرا عام 1897م، الذي اتفق فيه المؤتمرون على تأسيس الحركة الصهيونية وبدء العمل في المشروع الصهيوني.
اليهود عاشوا كجاليات منغلقة على تقاليدها الدينية التي حالت دون اندماجهم بالمجتمعات الأوروبية
التنفيذ
تم الاتفاق في مؤتمر «بازل» على أن الوجهة هي فلسطين، وأنه لا بد من دولة عظمى لتتبنى المشروع، فتم التوجه أولاً إلى القيصر الألماني الذي رفض الفكرة، ثم تم التوجه إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني الذي صدَّهم أيضاً، وكان رده حازماً وحاسماً؛ أنه لا يمكنه أن يبيعهم فلسطين ولا جزءاً منها بحالٍ من الأحوال؛ وهو ما جعلهم يفكرون بالبدائل الأخرى بشكل جدي، حتى إنه بدأ العمل فعلاً على إنشاء مستوطنات في الأرجنتين ما زالت بقاياها شاهدة حتى اليوم.
ولكن، ما كانت العقلية الاستعمارية الأوروبية لتضيع الفرصة التي تشكلت أمامها؛ فكان مؤتمر «كامبل» في لندن عام 1905م، الذي أوصى بإنشاء «الدولة العازلة» (إسرائيل) في فلسطين، فوجد ضالته في الحركة الصهيونية التي بدأ العمل معها ابتداء من خلال تسهيل الهجرات وجمع المال وعقد المؤتمرات مروراً بخدمة اليهود في فلسطين عبر القنصليات هناك، وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى وتشكيل الكتائب العبرية الصهيونية التي شاركت في احتلال فلسطين، وشكلت الأساس لعصابات «الهاجاناة» و«الإيتسل» الإرهابية المسلحة فيما بعد، مروراً باتفاقية «سايكس بيكو»، و«وعد بلفور» عام 1917م، وإعلان الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920م.
وتميزت الحركة الصهيونية على مر السنين بالتطور وفقاً للأحداث على الساحة الدولية والإقليمية، وتميزت سياستها بالواقعية الطموحة دون التقيد بقيود أيديولوجية لاجمة، فتساوقت مع المصالح البريطانية في عموم سياساتها، وتفاوضت وعقدت الاتفاقيات والتحالفات مع قوى إقليمية عربية، فأنشأت المؤسسات السياسية الممثلة للاستيطان في فلسطين بالتعاون مع سلطات الانتداب، وحصلت على الدعم اللازم لاستقدام المهاجرين وبناء المستوطنات وتأسيس جيش صهيوني نظامي تحت مسمى «الهاجاناة» بذريعة الدفاع عن المستوطنات الناشئة، كما أنشأت الوكالة اليهودية لتستخدمها كغطاء لعملها في أوساط اليهود في العالم الرافضين للصهيونية، وأقامت مكاتب لها ولا سيما في لندن، واستطاعت كسب ود القيادة البريطانية من خلال قبولها بمقترحات بريطانيا للحل مع الفلسطينيين.
تمثلت الواقعية الصهيونية بالتعاطي مع المشاريع المقدمة للحل من قبل القيادة الرسمية للحركة (اليسارية) الممثلة بـ«دافيد بن جوريون» و«حاييم وايزمان»، التي تعارضت في مجملها مع الجوانب الأيديولوجية التي آمن بها الجناح اليميني في الحركة الصهيونية المسمى «الصهيونية الإصلاحية» بزعامة «جيبوتنسكي»، الذي مثَّل الأقلية ولم يستوعب التنازلات للبريطانيين لدرجة حمله السلاح ضدهم والقتال من خلال عصابة «الإيتسل»، وعصابة «الليحي» بقيادة «إبراهام شتيرن».
قبلت القيادة اليسارية -وهي القيادة الرسمية للحركة والمتمتعة بالأغلبية في المؤسسات السياسية- بالمشاريع المقترحة التي أعطت الحركة الصهيونية أجزاء فقط من فلسطين خلافاً لما أراده الجناح اليميني وهو فلسطين والأردن، وصولاً إلى قرار التقسيم في 29/11/1947م، الذي أعطى غالبية فلسطين للحركة الصهيونية؛ حيث اندلعت المواجهات مع الفلسطينيين بناء عليه وصولاً إلى حرب عام 1948م وإعلان قيام «إسرائيل» على أكثر من %78 من فلسطين الانتدابية.
اليسار الصهيوني أسَّس «إسرائيل» بخليط من الفكر الاشتراكي وكثير من الإمبريالي مع أسطورة قومية مصطنعة
وقد كان قبول الحركة الصهيونية بدولة دون القدس وعاصمتها في «تل أبيب» محل انتقاد من الجناح اليميني وهو الأقلية، حيث رأى أن أرض «إسرائيل» التاريخية هي الخليل وبيت لحم ورام الله ونابلس، حيث كانت ممالك داود، وسليمان، ومن قبلهما مسكن إبراهيم، وإسحق، ثم مملكة «الحشمونائيم»، وهي ممالك لم تقم على الساحل الفلسطيني الذي قامت عليه دولة «إسرائيل» عام 1948م، وهنا تظهر الواقعية السياسية من جهة والحركة الحالمة والطموحة من جهة أخرى، ولا سيما في مسألة القدس التي نص قرار التقسيم على تدويلها التي كانت تفاصيل القرار بشأنها ستجعلها تؤول إلى «إسرائيل» بعد عدة سنوات وبشكل قانوني دون احتلال.
أسس اليسار الصهيوني «إسرائيل» بخليط من الفكر الاشتراكي الذي جند الدعم السوفييتي من جهة، وكثير من الفكر الإمبريالي الذي سـخَّر الغرب الرأسمالي للتمويل والحماية من جهة أخرى، مع أسطورة قومية (دينية علمانية) مصطنعة، وتبنٍّ للقيم السياسية الغربية المتمثلة في النظام السياسي البرلماني الذي وضعت قواعده على عين بريطانيا منذ عشرينيات القرن العشرين، فنص إعلان الاستقلال على أن «إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية يتمتع فيها المواطنون بالمساواة دون فرق»، ولأن الغالبية الساحقة كانت علمانية، بل ومعادية للدين؛ كانت مظاهر وسمات النظام تميل إلى الديمقراطية على حساب اليهودية.
مع مرور السنوات واستقدام الملايين من اليهود المتدينين في غالبيتهم، تحول الطابع إلى الديني إلى اليمين، حتى علا اليمين إلى السلطة عام 1977م لأول مرة، ولم يستطع اليسار العودة للسلطة منفرداً إلا عام 1992م ثمرة للانتفاضة الأولى التي وضعت القضية الفلسطينية على رأس سلم المواطن «الإسرائيلي»، وحكم اليسار حتى مقتل رئيس الوزراء «إسحق رابين»، في 5/11/1995م، على خلفية توقيعه اتفاق «أوسلو»، وعلى وقع العمليات الفدائية التي نفذتها المقاومة، وكان القاتل من اليمين الصهيوني الذي صعد للحكم بعده بقيادة «بنيامين نتنياهو» الذي يقود «إسرائيل» نحو اليمين ونحو التدين ونحو الاستفراد في السلطة، وهو ما يسمى «جمهورية نتنياهو اليمينية» في طريق قيام مملكة «إسرائيل» الدينية التوراتية قبل الخراب الثالث الذي يردد التحذير منه «نتنياهو» ليل نهار، الذي نسأل الله أن يكون قريباً بأيدينا وأيدي المؤمنين!
______________________________
المصادر
1 – أمين محمود، في ذكرى قرار تقسيم فلسطين، جريدة الغد، 29/11/2020.
2 – محسن صالح، وثيقة كامبل بنرمان.. حقيقية أم مزيفة؟! الجزيرة، 12/9/2017.
3 – الدولة اليهودية، تيودور هيرتزل، ترجمة: محمد فاضل، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2007، ص7.
4 – مركز مدار، وثيقة الاستقلال، 27/12/2020.
(المصدر: مجلة المجتمع)