مقالات مختارة

الصمت كلمة

قد لا يكون هذا زمن الرويبضة الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: « سَيَأْتِى عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ.. ».
قد لا يكون هذا زمنه مع أن المؤشرات كلها تدل على أن زمننا مشمول بهذا الوصف، والأكيد أن زمننا يتيح من خلال وسائل التواصل الحديثة ظهور رويبضات كثر يتكلمون في كل شيء: الفقه والسياسة والفن والرياضة والفلسفة والحضارة والمجتمع.. موسوعات معرفية تمضي جل وقتها في الثرثرة على مواقع التواصل، وتُجيّش الأنصار والمعجبين، وتحصد آلاف بل ملايين المتبنّين؛ تجمع الأخبار تلملمها من هنا وهناك -صحت أم لم تصح- ثم تعيد إنتاجها وتطرحها في سوق الكلام لتستهلك بسرعة الضوء فتنصع الثقافة الرويبضية والموقف الرويبضي.
شهدتُ -وشهد معظمنا مثلي- صناعة خبر من هذا النوع: حادث سير أدى إلى جرح سوريين (ولبنانيين كذلك)، تم استثماره في إنتاج فتنة سورية لبنانية والزعم أن الجرحى هم ضحايا إساءة الشعب اللبناني إلى السوريين النازحين ومستهلك الكلام مخدوع مغرر به.
ليست هذه دعوة إلى محاربة الكلمة، فلا أحد يجرؤ على إنكار تأثير الكلمة ففي حنايا كل واحد منا تعشش كلمات التقطها من أبٍ مربٍّ أو عالم فقيه، أو حتى من عابر سبيل.. وبالكلمة ينعقد الإيمان وبالكلمة ينحل.. التوبة كلمة، والتقوى كلمة، والدعوة كلمة، والأمر بالمعروف كلمة، والنهي عن المنكر كلمة.
لكن الصمت كذلك كلمة.
ومن المواقف الصامتة الناطقة سكوت الجاهل عن فتوى حتى يسأل لأن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (116:النحل).
وها هو الرويبضة يورد المسلمين المهالك ويتوعّدهم بغضب الله؛ لأنهم خالفوا رؤيته ومن المواقف الصامتة سكوتٌ عن خبر حتى يتبيّن لأن الله يقول: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6:الحجرات) .
ومنها سكوت الداعية عن الشر؛ لأن السكوت عن الشر صدقة.
ومنها سكوت الحكيم عن الردّ كي لا تكون فتنة، كما روى البخاري تعليقاً: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).
وللمسلم في محكمات الشريعة وثوابتها التي تجمع المسلمين وتعصمهم من ويلات التفرق مستمسكين بحبل الله المتين، كفاية عن تفاصيل لسنا أهلها إما لضعف اطّلاعنا على ملابساتها، أو لقلة فقهنا في أحكامها، ومن يدري؟ فرب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه، والأيام حبلى.. والله يدبر الأمر ويتولاه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى