مقالاتمقالات مختارة

الصراع مع الباطل

بقلم فضيلة د. عبدالوهاب بن لطف الديلمي ( عضو رابطة علماء المسلمين )

هذا أوان العودة إلى الله تعالى.. الصراع مع الباطل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد.
فإن الله عز وجل حين اختار محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليختم به رسالاته عز وجل، واصطفاه رسولاً إلى الناس كافة، وجعل رسالته خالدة إلى يوم الدين، أنزل عليه كتاباً هو أصل هذا الدين، به يَعرف الخَلق خالقهم، ويعرفون كيف يعبدونه، وما هي الحقوق الواجبة له سبحانه عليهم، وإليه يحتكمون، وبه يتخلقون ويتأدبون، وفيه سرُّ قوَّتهم وعزهم ونصرهم.
منه تُستقى كل العلوم والمعارف التي تتوقف عليها هداية البشر، وبالتأمل في القرآن يعرف الناس نظرة القرآن إلى الإنسان والحياة، والوجود، كما يعرفون نظرته إلى الفطرة الإنسانية، وإلى الفرد والأسرة، والمجتمع، وإلى العلاقات: بين هذه، وكذا العلاقات بين الحاكم والمحكوم، وبين الدولة المسلمة وغير المسلمة، ويستبينون منهجه في الحرب والسِّلم، وتشريعاته في جوانب الاقتصاد، والحُكم، والعدل، وإرسائه لقواعد التعامل في البيع والشراء، والعهود والعقود، والنكاح والطلاق، ودعوته إلى الإحسان إلى الوالدين وذوي القربى، والجار، وحمايته للحق الخاص والعام.
ودعوته إلى الأخذ بالقوة، وإلى العقل والفكر والتأمل والتبصر، والتحرر من التبعيّة، وإلى السعي في الأرض وعمارتها.
وحثه على المحبة والأخوة بين المؤمنين، وحصره الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وتحذيره من الميل والموالاة لأعداء الإسلام.
لقد جعل الله عز وجل هذا القرآن ميسَّراً لمن أراد الانتفاع به، واستحثَّ العقل البشري إلى المسارعة إلى ذلك، فقال سبحانه:
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر } [القمر:17].
ونعى على الذين عطّلوا عقولهم فلم يستفيدوا منها، قال سبحانه: (وَمَثَلُ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا كَمَثَلِ الَّذِيْ يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُوْنَ.)[البقرة:17].
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنفال:55].
كما نعى على الذين لا يتدبرون القرآن، ولا يتأملون ما فيه: من أحكام ومواعظ، وعبر وآداب، وأخلاق، ليهتدوا بكل ذلك في حياتهم.
قال سبحانه: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد:24].
لقد أصبحت صلة المسلمين اليوم بالقرآن: الغالب عليها صلة العقوق والهجر إلا من رحم الله تعالى، وإلاّ مجرد تمتمات، وترديد للألفاظ دون وعي ولا إدراك، ولا تدبّر ولا فهم ولا تطبيق، هذا إذا وُجد مَن يحافظ على قراءته، وقد نعى الله سبحانه على الأمم مِن قبلنا الذين قطعوا صلتهم بالكتب السابقة، إلا مجرد القراءة والتلاوة دون علم ولا فهم ولا إدراك لما تحتويه من علوم، قال تعالى:
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [البقرة:78] أي: إلا تلاوة مجرّدة عن المعرفة، كما قال كثير من المفسرين في تفسير “الأماني”.
روى الإمام أحمد( ) عن زياد بن لبيد رضي الله عنه، قال: ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فقال: «وذاك عند أوان ذهاب العلم»، قال: قلنا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونُقرِئه أبناءَنا، ويُقرئُه أبناؤُنا أبناءَهم إلى يوم القيامة؟ قال: «ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنتُ لأَراك من أفقه رجل بالمدينة، أوَليس هذه اليهود والنصارى يَقرأون التوراة والأنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء»؟.
ورواه الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يُختلس العلم من الناس حتى لا يقدرون منه على شيء». فقال زياد بن لبيد الأنصارى… الحديث( ).
إن المسلمين اليوم في حاجة ماسة –لا إلى مجرد حفظ القرآن وتلاوته- فهذا أمر يقوم به كثير من الناس، ويجد عناية من كثير من المؤسسات التي تُعنى بتحفيظ القرآن الكريم، وقد أصبحت أعداد كثيرة من شباب المسلمين وشابّاتهم يحفظون القرآن الكريم، لكن الواجب أن ينضم إلى ذلك تجديد الاستجابة الصادقة إلى ما يدعو إليه القرآن، في مثل قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].
وقال سبحانه:
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29].
إذاً لابدّ من العناية بالتدبر والتذكر وحسن الفهم والتطبيق، والدعوة إلى ما جاء به القرآن الكريم، فالمسلمون لا ينقصهم المنهج السّوي الذي يهديهم إلى الطريق القويم، فكتاب الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت:42] هو منهجهم، وهو الذي لا يرقى إليه منهج، ولا نظرية، ولا قانون، ولا دستور بشري، قال تعالى:
(وَلَقَدۡ جِئۡنَـٰهُم بِكِتَـٰبٍ۬ فَصَّلۡنَـٰهُ عَلَىٰ عِلۡمٍ هُدً۬ى وَرَحۡمَةً۬ لِّقَوۡمٍ۬ يُؤۡمِنُونَ) [الأعراف:52].
(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1].
(الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ)(3) [إبراهيم:1-3].
إي وربي يبغونها عوجاً، لا يريد الكفار، ولا أولياؤهم الذين يسيرون على دربهم وفي فلكهم، وينهجون نهجهم أن يسير أحد من عباد الله في هذه الأرض على هدىً ونور من ربهم، إنه يؤذيهم أن تبقى روح الجهاد حيَّة في نفوس المؤمنين، إذ به يتحقق النصر والعزة والسيادة لدين الله وعباده الصادقين، وتنطمس ظلمات الطغيان والفساد والجبروت والتسلط والقهر.
ويؤذيهم كذلك أن تظل المساجد عامرة بالعُبّاد، وطلاب العلم، وحُفَّاظ كتاب الله الكريم، والمواعظ، والذكر، وتلاوة القرآن، لأنَّ ذلك من أنجح السُبُل لبناء شخصية المسلم السويَّة التي لا تعرف الزيغ في عقيدتها، ولا سلوكها، ولا عبادتها، ولا أخلاقها، وذلك بحفظ الله لها ما حفظت دينه.
ويحزنهم كذلك أن يروا المجتمعات المسلمة طاهرة نظيفة من تلوث المعاصي، نقية من الرذائل، منصرفة عن اللهو واللعب إلى معاني الرجولة والكرامة والعفّة والطُهر.
ويؤذيهم كذلك أن يروا المرأة المسلمة: محافظة على عفتها، متنزّهة عن الانغماس في الأرجاس، ذات حياء وأدب، لا تلوي على جريمة، ولا تهتم بمحقرات الأمور وسفاسفها، جُلّ همها في عبادة ربها، وطاعة زوجها، وتربية أولادها، وقيامها بشؤون منزلها، وصيانتها لعرضها، إنه المعقل والحصن الذي يسعى أصحاب الشهوات إلى هدمه، ليهدموا بذلك كل شيء في حياة المسلمين، فلا تبقى أسرة متماسكة، ولا أولادٌ أقوياء في إيمانهم وأخلاقهم وسلوكهم، ولا ذكور تتمثل فيهم الرجولة والغيرة على الدين والعِرض.
إن المعركة القادمة التي لا نشك في وقوعها في المستقبل القريب بين أولياء الدجال وأنصاره من اليهود وغيرهم، وبين أولياء الله عز وجل الذين بهم يَنصر الله دينه، ويخذل عدوّه، سيظهر بالتمايز بين الناس.
فالكريم على الله سبحانه هو الذي يكرّمه سبحانه بحفظه من الوقوع في الفتن التي تهوي بالمرء الهشّ في إيمانه في مكان سحيق، حتَّى تتخطفه الأهواء والشهوات والشبهات، ودعوات الضلال والزيغ، فمن حفظه الله من ذلك سخره سبحانه لنصرة دينه، والدفاع عن الحق حين يقلُّ أنصاره، ويكفر أعداؤه.
واليهود اليوم يَسعون جادّين من خلال أجهزة الإعلام التي وصل تطورها إلى ما يسمى بالقنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي، يسعون من خلالها إلى إفساد عقيدة المسلمين، ومسخ هويتهم، حتى يكثر أنصارهم، فإنه لا يناصر اليهود ولا يقف معهم إلاَّ من أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن الرشاد.
وبيوت المسلمين اليوم مليئة بهذه الأجهزة التي تدمّر كل أفراد الأسرة، وتشد كل فرد إلى الشهوات، وتجعل الأغبياء مولعين بما عند أعدائهم، مُغرمين بها، معرضين عن الهدى الإلهي.
واليهود يعرفون أنهم لا يستطيعون أن يكسبوا لأنفسهم أنصاراً إلاَّ ممن تدَمرت أخلاقهم، وحيل بينهم وبين كتاب ربهم وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأصبح تفكيرهم وهمهم وسعيهم في الظفر بالشهوات والملذّات، وفنون الراحة والترف.
هذه هي الغاية التي يسعى إليها أعداؤكم من خلال أجهزة الإعلام في كل بقاع العالم، وهم بذلك يطبقون قول المشركين لبعضهم ما حكى الله عز وجل عنهم بقوله:
(وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) [فصلت:26].
إن الذين ينشرون الفساد اليوم بأموال المسلمين، وفي ديار المسلمين، باسم إحياء الثقافة القومية، أو المسرح، أو السينما، أو الفن، أو غير ذلك من الأسماء، إلى جانب محاولتهم الجادّة تجفيف منابع الخير، وإماتة روح الجهاد في نفوس الشباب وعقولهم، ومحاربة موارد الهدى، إنما يفعلون ذلك ليصدوا عن سبيل الله ويبغونها عِوَجا، والله عز وجل يحذر أشد التحذير من سلوك هذا السبيل المعوج، الذي يحمل الناس على الفتنة في دينهم، ويشيع الفواحش والمنكرات والجرائم في ديار المسلمين ومجتمعاتهم، قال الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور:19].
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة:114].
إنَّ الذين يكممون أفواه الدعاة، ويختارون للقيام على المساجد من ليس أهلاً لتربية الناس وتعليمهم، ويُقْصون الأكفاء، إنما يسعون إلى خراب المساجد خراباً معنوياً يُفرغها من محتواها، ويحول دون أدائها لرسالتها.
إخوة الإيمان، نحن دائماً نشكو غزو أعدائنا لديارنا وأسرنا ومناهجنا وسياستنا واقتصادنا واجتماعنا وعلاقاتنا وأخلاقنا وقيمنا.
ولكن الحقيقة أنه لولا أنهم وجدوا فينا ثغرات ينفذون منها ما حققوا شيئاً، ولو كانت حصوننا في كل هذه المجالات منيعة ما استطاع العدو أن يخترقها.
ولكن سذاجتنا، وغفلتنا، وضعف إيماننا، وتهافتنا على الشهوات، وجهلنا بما يراد بنا، وتفككنا، كل ذلك وغيره من العيوب المستحكمة فينا مكّنت لأعدائنا فينا.
فهل سنصدق في توجهنا مع ربنا، ونؤوب إليه نادمين على ما فرَّطنا؟ هل سنبدأ من ساعتنا هذه بالعزم الصادق على:
– تطهير بيوتنا من مظاهر الجاهلية والفساد، وأدوات الهدم.
– وتطهير معاملاتنا من الغش والخديعة والكذب.
– وتطهير قلوبنا من الحقد والكراهية والبغضاء.
هل سنتحول من الغفلة والتبعية العمياء إلى اليقظة والفطنة، وإدراك حقائق الأمور، ونعرض كل شئوننا على كتاب ربنا وهدي رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نفرّق بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الصدق والكذب، حتى تكون حياتنا سائرة على هُدى من الله تعالى.
هل ستقوى صلتنا بالله عز وجل عن طريق إتقان الفرائض، ومضاعفة النوافل، ولزوم الجماعة في المسجد، والتلاحم فيما بيننا، وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هل سندرك حقاً أننا في حرب مع أعدائنا، وأنهم يكيدون لنا الليل والنهار بكل وسيلة لتدمير كل شيء في حياتنا، وهل سنعود صادقين إلى ديننا ونعتصم به، حتى نكون أهلاً لاستنزال النصر من الله سبحانه وتعالى.
إن المعركة قادمة، ولها أهل يخوضون غمارها مع يهود وأوليائهم، فهل نحن من أهلها. الله المستعان وعليه التكلان.
والحمد لله رب العالمين.

(المصدر: موقع رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى