مقالاتمقالات مختارة

الصراع على منصب مفتي سوريا بين النظام والمعارضة

الصراع على منصب مفتي سوريا بين النظام والمعارضة

بقلم معتز الخطيب

انشغل السوريون فضلًا عن غيرهم بالمرسوم الجمهوري الصادر قبل أيام عن الرئيس السوري بشار الأسد بخصوص منصب مفتي الجمهورية. ينص القرار على توسيع صلاحيات ما سمي “المجلس العلمي الفقهي” الذي أنشئ بمرسوم جمهوري سنة 2018 والذي استولى على أجزاء من صلاحيات منصب مفتي الجمهورية التي نظمها قانون 1961 السابق على حكم آل الأسد الذين ينتمون إلى الأقلية العلوية، ولكن المرسوم الجديد عدّل مرسوم 2018 بأن أسقط منصب المفتي كلية، ليحل محله ما سمي “المجلس العلمي الفقهي” الذي يضم في عضويته شخصيات من مختلف الطوائف، ويَعدّ وزير الأوقاف ذلك “ريادة سورية” في المنطقة، و”تجديدًا” للفكر الإسلامي!

صحيح أن المرسوم الأخير لم ينص على إلغاء منصب المفتي، ولكنه أهمل ذكره من جهة، ونقل صلاحياته لما سماه “المجلس العلمي الفقهي” من جهة أخرى، وهذا يعني -عمليًّا- إنهاء المنصب والمجلس الأعلى للإفتاء، وما يتبعه من مفتي المحافظات السورية، وهي الخطوة التي أثارت كثيرًا من الجدل.

إن إلغاء منصب المفتي جزء من ترتيبات النظام لما بعد الثورة والنصر الذي تحقق من وجهة نظره ونظر حلفائه، خصوصًا الإيرانيين الذي يدين لهم بفضل بقائه. ووفق هذا المنظور السياسي، يعدّ العامل الديني مجرد خادم للنظام يُعاد ترتيبه وتكييفه بطريقة أمنية وإستراتيجية لمصلحة النظام وحلفائه بعد تحلله من تقييدات الأكثرية ما قبل الثورة.

ويمكن النظر إلى هذه الخطوة من منظورات ثلاثة:

الأول: المنظور الشخصي، سواءٌ من زاوية شخصية المفتي أحمد حسون المكروهة من قبل جمهور السوريين أم من زاوية الصراع الشخصي بين وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد والمفتي المعزول حسون. ولكن المسألة أبعد من الاعتبارات الشخصية؛ إذ إنها تتناول منصب الإفتاء وهيكلته ووظائفه، كما أن الصراع بين الشخصيتين قديم ويمتد لسنين، وبين الشخصيتين من التشابه أكثر مما بينهما من أوجه الاختلاف؛ خصوصًا أن كليهما دأب على التنافس في خدمة النظام والمزايدة على الآخر، وكلاهما ترعرع في مزرعة آل الأسد.

الثاني: المنظور المذهبي الذي يقرأ المشهد من زاوية تشكيلة “المجلس العلمي الفقهي” الذي يضم شخصيات شيعية ودرزية وعلوية ورجالًا ونساء إلى جانب أفراد من حاشية النظام من مشايخ السنة، وهي المسألة التي أثارت حفيظة الحكومة السورية المؤقتة والمجلس الإسلامي السوري الذي رأى أن “إلغاء منصب المفتي هو خدمة للولي الفقيه”، ورأى الطرفان فيها تغييرًا للهوية السورية وتحجيمًا لدور الأكثرية السنّية لمصلحة مرجعيات شيعية محسوبة على إيران.

الثالث: المنظور السياسي الذي يحيل إلى ترتيبات المشهد في مرحلة ما سمي “انتصار الأسد” في معركته مع الثوار السوريين الذين ينعتهم بمختلف الأوصاف، خصوصًا أن رئيس “المجلس العلمي الفقهي” -وزير الأوقاف- قد كان واضحًا في كلمته الافتتاحية لأول اجتماع عقده المجلس سنة 2019 حين قال إن اجتماع اللجنة التحضيرية يهدف إلى “ترسيخ مفاهيم الوحدة الوطنية والأخذ بيد أبناء الوطن على اختلافهم وتنوعهم؛ لمواجهة فكر أعداء الأمة الصهاينة والمتطرفين التكفيريين وأتباع الإسلام السياسي وإخوان الشياطين الذين ما لبثوا يبثون الفتن لتمزيق الأمة وتشتيت قوتها بعيدًا عن أهدافها”، وأنه ينطلق من مقولة الأسد “إن أئمة المذاهب تركوا لنا مدارس فقهية ولم يتركوا لنا طوائف”، أي إن المجلس واضح في هدفين:

الأول: إعادة ترتيب المشهد الديني السوري في ظل الصراع مع التنظيمات الجهادية والإخوان المسلمين وجمهور الثائرين الذين يصفهم بالإرهاب، وقد كان الوزير السيد والمفتي حسون من أبرز المنافحين عن هذه الأفكار.

الثاني: البعد الطائفي الذي يسكن عقل ووجدان النظام وداعميه من الإيرانيين والروس منذ بدايات الثورة السورية، وتشغلهم جميعًا ترتيبات الوضع المذهبي داخل سوريا في مرحلة ما بعد الانتصار لأن في ذلك استحقاقات المعركة وضمانًا مستقبليًّا لعدم تكرار ما حدث، خصوصًا أن الأسد صرّح سابقًا وبلا مواربة بأن سوريا قد أصبحت أكثر تجانسًا بعد الحرب المدمرة التي خاضها النظام ومليشياته الطائفية (السورية واللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها) ضد الأكثرية السنّية قتلًا وتهجيرًا (مئات الآلاف من الشهداء، وملايين النازحين واللاجئين).

ومن الواضح -في رأيي- أن المسألة برمّتها جزء من الفعل السياسي للنظام، الذي تندرج تحته التفاصيل والاعتبارات الأخرى. فإلغاء منصب المفتي جزء من ترتيبات النظام لما بعد الثورة والنصر الذي تحقق من وجهة نظره ونظر حلفائه، خصوصًا الإيرانيين الذي يدين لهم بفضل بقائه. ووفق هذا المنظور السياسي، يعدّ العامل الديني مجرد خادم للنظام يُعاد ترتيبه وتكييفه بطريقة أمنية وإستراتيجية لمصلحة النظام وحلفائه بعد تحلله من تقييدات الأكثرية ما قبل الثورة.

وقد اتخذت العلاقة بين الأنظمة السياسية العربية (أو ما يُطلق عليه أحيانًا “الدولة”) والدين أشكالًا مختلفة في ظل دولة ما بعد الاستعمار والصراع على الحكم، ولكن طرأ على هذه الأنماط بعض التغيرات بعد ثورات ما سمي الربيع العربي مع تمدد نظام ولاية الفقيه في المنطقة (من لبنان واليمن والعراق وصولًا إلى سوريا)، وبات المشهد الديني السوري تحديدًا منقسمًا إلى 3 أنماط:

النمط الأول: تحويل الدين إلى “أداة” من أدوات السلطة الحاكمة، وإجراء تعديلات بنيوية عليها للسيطرة الكاملة عليه، وضمان عدم تكرار ما حدث، وقد تنامى هذا في مصر مع الانقلاب العسكري، ومع بدايات الثورة في سوريا، ومن ثم تشكل فضاء زبائني مِن حول النظام يضم فئة المشايخ المنتفعين بالنظام، سواء لخدمة مصالحهم الشخصية (كحسون) أم لخدمة جماعاتهم الدعوية (كجماعتي كفتارو ومعهد الفتح الإسلامي)، وفي الحالتين تحول الدين إلى أداة استثمار من قبل النظام ومشايخه والجماعات الدينية القائمة من حوله، والجماعاتي منطوٍ -بالضرورة- على مصالح شخصية، ولكنها لا تشكل سقف تطلعاته. وفي هذا النمط تتصدر مقولات الدفاع عن الوطن والوقوف في وجه المؤامرات الخارجية والصهيونية، وحماية التنوع المذهبي (لتسويغ التغييرات الطائفية والديمغرافية)، كما تتقدم لدى مشايخ النظام ممن لديهم جماعات مقولة حماية الجماعة ومستقبلها لتسويغ خدمتهم للنظام وجريانهم في فلكه.

النمط الثاني: المعارضة الدينية، وبعضها قام على صراع مسلح مع النظام (كالإخوان المسلمين السوريين)، وبعضها خرج من سوريا ليحمي نفسه من النظام (كجماعة زيد ومن يلوذون بها من المشايخ الآخرين)، ومن ثم فالمعارضة لا تحيل هنا بالضرورة إلى فكر أو فعل ثوري، ولكنها تستفيد -في الجملة- من الثورة، وتريد استعادة النفوذ التاريخي للعلماء في المجتمع الذي حرمها منه نظام آل الأسد الطائفي الذي استمر حتى الآن نحو نصف قرن. وفي هذا النمط تتصدر مقولات الثورة والمعارضة والدفاع عن الدين والمجتمع والهوية الدينية المستهدفة.

النمط الثالث: الاعتزال للنظام والثورة على السواء، وقد سلك هذا المسلك علماء ومشايخ معدودون، خصوصًا من الأكاديميين كالشيخ نور الدين عتر رحمه الله وغيره.

وتندرج المراسيم الجمهورية الأخيرة التي تعيد تنظيم الشأن الديني ضمن النمط الأول من الثلاثة، وتسعى إلى الآتي:

أولاً: تأميم الدين وتولّيه مباشرة من خلال وزارة الأوقاف؛ ممثلةً بمحمد عبد الستار السيد خصم حسون اللدود، وفيها يتحول بشار الأسد نفسه إلى مرجعية دينية ومنظّر لتجديد الفكر الإسلامي، وتصبح أفكاره وتصوراته موضوع دراسة ومصدر إلهام كما يبدو من نشاط وزارة الأوقاف التي تستهدي -دينيًّا- بهديه. بل إن وزير الأوقاف أعدّ تفسيرًا سماه “التفسير الجامع” وجعل من معالمه “نقض الفكر الإخواني والوهابي”، وأن “الأئمة تركوا لنا اجتهادات فقهية لا طوائف”، وهي مقولة الأسد التي سبقت الإشارة إليها. كما أن العدد الثاني من المجلة الإلكترونية التي يصدرها “المجلس العلمي الفقهي” هي عبارة عن إجابة عن المسابقة الفكرية التي أقيمت حول أفكار بشار الأسد الدينية! وسبق لي -في دراسة “نظام الأسد مفتيًا 2011-2012”- أن رصدت بدايات تولي الأسد الوظيفة الدينية من خلال تحديد صحيح الدين للمشايخ، ومطالبته إياهم بالالتزام بتصوراته الدينية، وهو دور سيتنامى في ما بعد وصولًا إلى هذا المرسوم الأخير.

ثانيًا: إلغاء منصب المفتي جزء من سياسة أوسع للنظام وحلفائه الإيرانيين (رغم أن حسون كان مقرّبًا منهم) تتصل بإعادة ترتيب الشأن الديني لتواكب عمليات تغيير واسعة النطاق حدثت في سوريا بعد الثورة، خاصة بعد استقرار الحرب 2018. وقد جرى في العقد الماضي تقوية عمليات التشييع، واختراع مزارات دينية (هناك بند على الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف تحت عنوان “مزارات دينية” لم يتم تفعيله بعد)، وإنشاء عشرات المدارس الشيعية التي يديرها الإيرانيون أو مرجعيات تابعة لهم، تَخَرّجت فيها أعداد كبيرة من الشباب، ومؤسسات للتزويج، ومؤسسات إغاثية، ومؤسسات عسكرية تستقطب أجيالًا من الشباب وتمنحهم امتيازات عدة. أدى هذا -وسيؤدي- إلى تحول نوعي على مستوى الخريطة المذهبية والطائفية في سوريا بعد الثورة.

وفي هذا السياق كان لا بد أن يواكب هذه التغييرات الفعلية تأطيرٌ رسمي يستوعبها. وهكذا يُفهم الإلحاح على فكرة “التعددية المذهبية” والخروج من “الطوائف” إلى “الاجتهادات الفقهية” التي أوكلت إلى “المجلس العلمي الفقهي” الذي يضمّ عددًا من المشايخ الشيعة والعلويين والدروز وغيرهم. صحيح أن وزارة الأوقاف لم تحدد من هم أعضاء المجلس ولا كم عدد أفراد كل مكون، ولكن الصورة التي نشرتها وكالة سانا السورية وموقع وزارة الأوقاف توضح جانبًا من المشهد من خلال زيّ من يظهرون في الصورة على الأقل.

فمن جهة، يستورد مرسوم تعيين “المجلس العلمي الفقهي” ثم مرسوم توسيع صلاحياته وإلغاء منصب المفتي تجربة لبنان الطائفي في محاولة لمكافأة طائفته، وإرضاء الطوائف الأخرى في مقابل تحجيم الأكثرية السنّية التي تم تفتيتها. وقد تزامن إلغاء منصب المفتي مع افتتاح كلية للاهوت المسيحي بدمشق استنادًا إلى مرسوم صدر 2019، وتعود ملكيتها لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك.

ومن جهة أخرى جاءت مبالغات حسون الفجة في التزلف للنظام وخلفيات الصراع بينه وبين وزير الأوقاف لحظة مناسبة لتأطير هذا التغيير قانونيًّا ورسميًّا؛ علمًا بأن “المجلس العلمي الفقهي” قد مارس الصلاحيات المنصوص عليها في المرسوم الجمهوري الأخير قبل صدوره بشهور عديدة، ففي 14 مارس/آذار 2021 أصدر المجلس العلمي الفقهي ما أسماه فتوى بأن 15 مارس/آذار هو أول أيام شهر شعبان للعام 1442هـ، وفي العاشر من يوليو/تموز 2021 أصدر المجلس فتوى أخرى بأن الأحد 11 يوليو/تموز هو أول أيام شهر ذي الحجة، وأن 19 يوليو/تموز هو يوم عرفة. وذلك يعني أن ما نص عليه المرسوم الجمهوري الصادر قبل أيام في نوفمبر/تشرين الثاني من صلاحيات للمجلس تتضمن إصدار الفتاوى و”تحديد مواعيد بدايات ونهايات الأشهر القمرية والتماس الأهلة وإثباتها وإعلان ما يترتب على ذلك من أحكام فقهية” هو تحصيل حاصل، وأمرٌ قد بدأ مبكرًا!

ثالثًا: شمل النفوذ الإيراني الشيعي وتمدده داخل المؤسسات الحكومية السورية قطاعات عديدة ومتنوعة كالمال والأعمال وإعادة الإعمار والمجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية، وما المرسوم الأخير الخاص بمنصب المفتي إلا تتويج له، وإنما أثار الجدل لشدة حساسيته ووضوحه، ولأنه مرتبط بمسائل الدين والهوية والمشروع الإيراني الطائفي في المنطقة. فإيران سلكت الطريقة نفسها في الدول التي سيطرت عليها بعد أن فككت مجتمعاتها، وأنشأت أطرًا وكيانات طائفية لضمان مصالحها فيها، ولبنان والعراق واليمن نماذج فاقعة، خصوصًا أننا نعرف من مذكرات الجنرال أحمد همذاني أن لإيران خطة إستراتيجية لسوريا مؤلفة من نقاط عدة، إحداها تتصل بالشأن الديني، وحين اطّلع عليها حسن نصر الله (ممثل الولي الفقيه الإيراني في المنطقة) سنة 2013 رأى أن من المبكر الحديث عن تنفيذ الشق المتعلق بالشأن الديني.

رابعًا: أن الفضاء الزبائني الذي نشأ عن تحويل الدين إلى مجرد أداة سياسية فرض نفسه في هذه التغييرات، وهنا لا يملك الأسد أن يقول لا للإيرانيين، لأنه مدين لهم ببقائه وانتصاره، ويحظى وزير الأوقاف بأهمية أكبر بكثير من حسون لدى النظام، فالسيد حوّل الوزارة إلى مؤسسة أمن ديني، وبنى شبكة علاقات شخصية؛ لدرجة أنه كان له تأثير كبير على الشيخ البوطي منذ بداية الثورة إلى اغتياله، أما حسون فيندرج ضمن فئة الأشخاص المنتفعين من النظام منافع شخصية وليس له جماعة دينية يرعى مصالحها أو تسنده، كما أنه نجح خلال حكم بشار بتكوين تحالفات أمنية واقتصادية مع تجّار حلب التقليديين ومن خلال شراكة ابنه مع رامي مخلوف -ابن خالة الرئيس- الذي وصفه حسون مرة بالرجل الصالح، ونعلم جيدًا أن علاقة آل الأسد بآل مخلوف طرأ عليها تحولات جذرية أخيرًا.

لنرجع الآن إلى النمط الثاني من أنماط العلاقة بالدين وهو نمط المعارضة، فقد وجدتها فرصة ذهبية لملء الفراغ الذي خلّفه المرسوم الجمهوري الجديد. بدأ الأمر بظهور مفاجئ لدعوة غامضة باسم “مجموعة من الناشطين” وجهت “رسالة إلى المجلس الإسلامي السوري” تدعوه فيها إلى تولي تعيين مفتٍ لسوريا، وقُدّمت بعد صلاة الجمعة الماضية، وثمة قرائن عديدة تشير إلى ترتيب هذا من داخل المجلس نفسه، أبرزها:

  1. أن الداعين على علم بتوقيت انعقاد “اجتماعات مجلس أمناء المجلس الإسلامي السوري”، وخاطبتهم مباشرة بشكل متزامن مع الاجتماع.
  2. إلحاح نص الدعوة على الهوية السورية (وسبق للمجلس أن أصدر ما سماه تحديدًا للهوية السورية)، وعلى أن تكون آلية الانتخاب من مجلس أمناء المجلس السوري تحديدًا (وهي دائرة ضيقة وغير ممثلة لكل العلماء السوريين)، وعلى أن دور المؤسسة الدينية مهم “في تماسك المجتمع وضبط تعاملاته الأسرية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية”، وهي تعبير عن تصور المجلس نفسه ولنفسه عن فكرة الدور الشامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
  3. أن الدعوة نصت على تفصيلات غريبة تتجاوز مجرد الفكرة إلى وضع خطة أريد تمريرها على أنها “مطالبة شعبية” لا قرار داخلي من المجلس، وهي أن “يستقل المجلس والمفتي بوضع لائحة داخلية لعملهم”، أي إنهم هم من ينتخب ويعين ويضع السياسات ويضطلع بالدور!
  4. سرعة تنفيذ الاقتراح، فقد قُدّم بعد صلاة الجمعة، وانتهت عملية الانتخاب والتعيين والتبريكات مساء السبت، وكان قد أغلق باب التوقيعات مساء يوم الجمعة نفسه!
  5. ردود الأفعال المرحبة والمباركة بعد صدور القرار مباشرة، من قبل الحكومة السورية المؤقتة، وإدارة الشرطة العسكرية فيها، وهيئة الشام الإسلامية، وتجمع طلاب العلم لمحافظة حمص، وهيئة علماء فلسطين وغيرها، وهو أمرٌ شبيه بالحركة التي قامت بها وزارة أوقاف النظام التي نشرت على موقعها ترحيبا من علماء دمشق وحلب وحمص بالمرسوم الجمهوري الذي وسع صلاحيات المجلس العلمي وألغى منصب المفتي العام!

فهذه قرائن تشير إلى وجود ترتيبات سياسية (حيث عامل الزمن والتربيطات، والإخراج بصيغة تمثيلية شعبية مسألة مهمة) تتجاوز وزارة الأوقاف كما تتجاوز طرائق تفكير المجلس الإسلامي السوري الذي دأب على أن يثير الجدل والانقسام بتحركاته وتصريحاته، ثم يضطر في كل مرة إلى إصدار توضيحات لتهدئة الغضب.

وتسمية المفتي الجديد الشيخ أسامة الرفاعي تحيل إلى دلالات عدة:

  1. من الناحية المناطقية، كان منصب المفتي العام تاريخيًّا لدمشق، وطالما نُظر إلى الشيخ أحمد كفتارو (كردي الأصل) على أنه أجنبي عن النخبة العلمائية الدمشقية، وكان بينه وبينها جفوة، كما أن أحمد حسون كان أول مفت من حلب فضلًا عن عدم الاعتراف به علميًّا، فقد كان للشيخين محمد سعيد رمضان البوطي ووهبة الزحيلي رحمهما الله موقف سلبي منه على سبيل المثال.
  2. ومن الناحية السياسية، يعدّ ملء الفراغ الذي خلّفه المرسوم الجمهوري الأخير خطوة ذكية، وتكاد تكون الخطوة الوحيدة المناسبة سياسيًّا إذا ما راقبنا أداء المجلس وإخفاقاته السابقة، خصوصًا أنه ملأه بطريقة انتخابية وإن كان يكتنفها قصور، لأنها تظل غير تمثيلية وصادرة عن مجموعة محدودة قامت على توافقات وتعيينات محددة لا على معايير شفافة وتمثيلية لعموم أهل العلم من السوريين.
  3. تأتي الخطوة بعد غضب واسع من إلغاء منصب المفتي الذي استُقبل على أنه إلغاء للسنّة بوصفهم أكثرية مع إيكال الفتوى إلى مجلس فقهي (بالتعيين) يمثل مكونات طائفية عديدة كما سبق، والمجلس الإسلامي السوري قام أساسًا -كما أشرت في مقال سابق- على أساس سنّي يحاكي المجالس الشيعية اللبنانية والعراقية التي تقوم بأدوار سياسية ودينية معا لاستعادة “نفوذ” العلماء الذي ألغاه نظام آل الأسد.
  4. أما من الناحية الدينية فالمسألة مختلفة، لأن منصب المفتي انتقص وزنه الفقهي والإفتائي بتولي شخصيات عدة منذ الشيخ كفتارو إلى الشيخ الرفاعي، ليس لها مُكنة فقهية -بالمعنى التقني والتخصصي- ولم تُعرف داخل الأوساط الأكاديمية والعلمية التقليدية بأي إسهام فقهي على طريقة الفقهاء المعروفين، وليس لها “تراث” فقهي أو إفتائي مكتوب، أي إن الصراع قائم الآن على منصب سياسي، سواءٌ من قبل نظام الأسد (تعيينًا وإلغاءً)، أم من قبل المجلس الإسلامي السوري الذي استعاد المنصب الآن وهي استعادة سياسية رمزية الطابع.

ويتوقف مستقبل المنصب على أمرين مركزيين: الأول: أداء من يتولاه من ناحية الوظائف الدينية والفقهية (وهذا موضوعه أصلًا)، واقتناع السوريين بذلك بعد أن تذوي الحماسة الحالية المرتبطة بموجة غضب على النظام نتيجة إجراءاته الأخيرة أكثر من القناعة بفكرة تعيين المفتي الجديد. الثاني: قدرة من يتولى الإفتاء على إبقاء الاحترام له ومشروعيتِه وشعبيتِه في ظل فساد عدد من المشايخ، واستتباعهم لمؤسسات السلطة هنا أو هناك، وفي ظل موجات الانفتاح والنقد المتاحة في حقبة ما بعد الثورات، بمعنى أن يتمتع فعليًّا باستقلالية علمية وسياسية بألا يكون أسيرًا لسلطة أو جماعة أو جملة مواءمات بين مكونات المجلس السوري الذي شهد أخيرًا توترًا داخليًّا نتيجة الخلاف بين أعضائه حول الموقف من عزم السلطات التركية ترحيل بعض السوريين، وبأن يكون أكثر انفتاحًا ومجاراة لتطلعات الأجيال الشابة الجديدة وأكثر صلة بالواقع.

ولكن العامل السلبي في الأمر برمّته هو أن سوريا باتت مقسمة بين نظام هو واجهة لمصالحه وجماعاته وحلفائه، وبين معارضة خارجية، وكل منهما يتحدث باسم عموم السوريين أو جمهورية سوريا، وهو ما سيعزز فكرة الانقسام الطائفي، والأكثر ضررًا أن “المجلس العلمي الفقهي” يقدم نفسه على أنه “تعدّدي وتنوعي” وهو كاذب في هذا، لأن وظيفته الرئيسة هي التخلص من فكرة الأكثرية التي أقضّت مضجع نظام الأسد والإيرانيين وحزب الله في العقد الماضي، أما المجلس السوري فيقدم نفسه على أنه “سنّي” في مواجهة توجهات طائفية تريد أن تلغي الهوية السنّية. ورغم أن هذا من شأنه أن يطمئن شرائح من السوريين على هويتهم ومرجعيتهم، فإن تأثيراته المستقبلية ستكون سلبية داخل سوريا وعلى صورة ورمزيات الخطاب الديني السوري عامة الذي سيكون منقسمًا بين فتاوى وصياغات دينية وشعائرية مختلفة ومتصارعة قد تقود إلى ظهور أنماط جديدة من التدين!

المصدر: الجزيرة


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى