الصبر في القرآن الكريم.. المعاني والدلالات
بقلم أ. د. محمد أمحزون
الصبر عمل قلبي يحتاج إلى بذل الجهد، والإرادة الصلبة، والعزيمة. فهو ليس موعظة تستمع، أو درساً يحفظ؛ إنه مواقف تختبر بها صلابة الإرادة وقوة تحملها في الميادين المختلفة بالممارسة. ولأهميته جاء ذكره في القرآن الكريم في تسعة وتسعين موضعاً.
والصبر عدة وسلاح المؤمن في مواجهة ثقل التبعات والمضي في طريق الدعوة الشائك حتى يتحقق أمر الله تعالى في إقامة هذا الدين.
ولما وقفت الجاهلية بجبروتها وطغيانها في وجه الدعوة واستعملت كل الوسائل الممكنة للصد عن سبيل الله تعالى، كان لا بد أن تكون العدة في مواجهة هذا الباطل هي التربية بالصبر، ليتمكن المؤمنون من الوصول إلى هدفهم المرسوم، وهو أن يكون الدين لله تعالى في الأرض. وهذا يفسر لنا تأكيد القرآن الكريم على الأمر بالتزام الصبر منذ وقت مبكر جداً في عمر الدعوة المكية.
وإذا كان المؤمن بطبيعته بشراً ينتابه الضعف واستعجال الثمرة، ويستبطئ الوصول إلى النتائج، فإن آيات الصبر بمثابة محطات تقوية تشحذ الهمة وتدفعها إلى المضي في الطريق مرة أخرى وبعزم قوي[1].
وللبلاء العظيم الذي نزل بالمؤمنين في العهد المكي، كان الحث على الصبر تنزل به الآيات بأساليب متنوعة؛ منها ذكر ما أصاب الرسل عليهم الصلاة والسلام من الإيذاء والتكذيب، وكيف صبروا على ذلك: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْـمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
وحين لجأ الكفار إلى اتخاذ وسائل تعتمد على التأثير من الوصف بالسحر والجنون والشعر، والاستهزاء بالمسلمين، أخذ القرآن الكريم يعرض تارة لذكر الأنبياء السابقين وما أصاب المستهزئين بهم، وتارة أخرى يدعو إلى الصبر على ما يقولون، في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39].
وكلما طالت المعركة مع الكفر نزل الوحي ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أنهم على الحق وعلى الدرب الصحيح، وأن الصبر هو عدتهم وزادهم لتحمل مشقة الطريق، على أن العاقبة بعد للمتقين: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْـحَاكِمِينَ} [يونس: 109]، {فَاصْبِرْ إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبث في أرواح المسلمين الأمل، ويذكرهم بسنة الله تعالى في أنبيائه والدعاة إليه. فقد أخرج الإمام البخاري في باب: «ما لقي النبي وأصحابه من المشركين بمكة» عن خباب رضي الله عنه قال: أتينا النبي وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة -، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: «لقد كان من قبلكم يمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[2].
والظاهر أن سبب احمرار وجه النبي صلى الله عليه وسلم هو تأثره من استعجال الصحابة رضي الله عنهم للنصر، المشعر لاستبطائهم لوعد الله تعالى مع ما أمروا به من الصبر واليقين، مما يؤكد أهمية عامل الزمن في أية عملية تربوية لاستكمال الإعداد.
وجدير بالإشارة أن نزول آيات الصبر قد امتد على طول الفترة المكية يقود خطوات المؤمنين خطوة خطوة، فتمرنوا على تحمل المشاق وتحمل الأذى، وضبط الإرادة، وألا تكون تصرفاتهم ردود أفعال. كما تدربوا على الالتزام بما يرد عن الله تعالى من وصايا وتوجيهات، والانضباط مع أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم [3].
ومن الوصايا والأوامر، والتوجيهات والتنبيهات التي جاء بها الوحي في هذا السياق: منع النفس محابها وكفها عن هواها، والوقوف عند حدود الله تعالى أثناء الابتلاء، والثبات على ما ينال النفس في ذات الله تعالى من البلاء، والاحتباس على قضاء الله تعالى وانتظار حكمه، وتحمل ما ينال النفس من المكاره، والاستمساك بالحق وإقام الصلاة وتحمل الأذى، والوفاء بالعهود وترك نقض المواثيق، وتقديم ما يحبه الله على شهوات النفوس وحظوظها، وطاعة الله تعالى في السراء والضراء والمسارعة في رضاه، واحتساب الأجر عند الله تعالى والعفو والصفح، وتوطين النفس على ذكر الله تعالى، وتوطين النفس على الاشتغال بعبادة الله تعالى وإكمالها على أحسن الوجوه، وعدم الالتفات إلى باطل المشركين، وتحمل الشدة في أمر الله تعالى، والزهد في زينة الحياة الدنيا، والإذعان والخضوع لأوامر الله تعالى.
ومن التنبيه بمكان أن حياة الرعيل الأول من المؤمنين كانت حلقات قاسية من المعاناة، والتربية بالأحداث والتجارب، والفتنة والابتلاء، والدعوة إلى الصبر على ذلك كله؛ فبقدر ما كانت الهجرة إلى المدينة النبوية ووضع نواة الدولة الإسلامية خلاصاً وخروجاً من مأزق الحصار الذي كان مضروباً عليهم بمكة، وتعرضوا من خلاله للأذى والاضطهاد والتنكيل، كانت هذه النقلة النوعية أيضاً بداية لمصارعة قوى جديدة، والعمل في محيط لا يقل عداء وصعوبة عن مكة، وإن تغير الموقف في الظاهر؛ إذ كان على أنصار الدعوة أن يصارعوا العرب المشركين قاطبة، واليهود: ذلك العدو الماكر الحاقد، والمنافقين: ذلك العدو المتلون الجديد.
ولذلك كان الوحي ينزل لشحذ الهمم والدعوة إلى الصبر والصفح والعفو لتفويت الفرصة على الأعداء الجدد (اليهود والمنافقون في المدينة)، خاصة والدولة الإسلامية ما زالت غضة طرية في طور الإنشاء والبناء. فقال تعالى: {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، وقال جل ثناؤه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
ولحتمية المواجهة في العهد المدني مع المشركين في مكة، واليهود والمنافقين في المدينة، جاءت الأوامر من الله تعالى في كتابه العزيز بتحمل افتراءات اليهود، وتحمل أذى المنافقين ولمزهم، والتجاوز عن المسيئين، والثبات على الدين وجهاد المشركين، والثبات عند لقاء العدو.
ومن المعلوم أنه بعدة الصبر تسلح الأنبياء وأتباعهم على مدار العصور في مواجهة الباطل والفساد والبغي في الأرض الذي يحميه الملأ، وهم علية القوم في كل أمة وفي كل زمان، وجوههم وأشرافهم، رؤساؤهم وزعماؤهم المستكبرون بغير الحق، الذين يريدون علواً في الأرض وفساداً، ويجتمعون على رأي واحد هو الصد عن سبيل الله تعالى، والتصدي للأنبياء والرسل، ومحاربة الدعاة والمصلحين.
وهذه المواجهة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان دائمة ومستمرة، يرسمها القرآن الكريم بأسلوب مؤثر ليتأسى المسلمون بمن سبقهم من المؤمنين، تربية لنفوسهم، وتوطيناً لهم على الصبر، وتصحيحاً لسلوكهم، وإعداداً لهم. فالطريق أمامهم طويل، والتجارب شاقة، والتكاليف عليهم باهظة، والأمر الذي يندبون له عظيم، مما يجعل رصيد الصبر المطلوب للاستمرار في الكفاح والجهاد هائلاً.
قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، إن المثل الذي ضربه الله هاهنا مثل عام، لم يحدد فيه نبياً، ولم يحدد فيه قوماً مؤمنين، إنما يربط المؤمنين بموكب الإيمان المتواصل عبر العصور، ويصور لهم الابتلاء والصبر كأنه مطرد في كل دعوة وفي كل دين، ويربطهم بأتباع الرسل وتلامذة الأنبياء وهم «الربيون»، ليقرر في حسهم أن أمر العقيدة والثبات عليها، والصبر على تكاليفها حين البأس أمر واحد على مدار الزمان»[4].
يجب إذن على المؤمنين في كل زمان أن يقتدوا بهؤلاء المجاهدين الصابرين أتباع الرسل ويعتبروا بصبرهم وثباتهم؛ لأن دين الله واحد وسنته في خلقه واحدة لا تتخلف. ولذلك هُدوا بفضل الله تعالى إلى الحق، وأمروا بمعرفة عاقبة من سبقهم في موكب الإيمان، ليهتدوا بعمل الصادقين الصابرين قولاً وعملاً، وليطلبوا المقاصد بأسبابها؛ فالصبر والطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح، والذنوب والبغي والطيش والعجلة من أسباب الهزيمة والخذلان.
[1] أحمد صالح الشامي: السيرة النبوية، ص48.
[2] أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، 4/238.
[3] أحمد صالح الشامي: السيرة النبوية، ص50.
[4] سيد قطب: في ظلال القرآن، 1/488.
(المصدر: مجلة البيان)