الصبر على الضرّاء.. كيف يكون؟
بقلم وائل البتيري
إذا تجاوب المؤمن مع دافعية إيمانه في أحواله جميعها، فشكر عند السرّاء، وصبر عند الضرّاء؛ كان أمره كلُّه خيراً له، فالخير الدائم سلعة غالية؛ تستدعي استجابة المرء لنداء الإيمان الذي يكمن في قلبه، وإلا فإنه يحيد عن الطريق القويم في أحواله؛ بسرّائها وضرّائها، فيستوي من هذه الجهة مع غير المؤمن.. وكفى بها من عاقبة وخيمة!
ومصداق ما سبق؛ حديث صهيب الرومي رضي الله عنه، الذي رواه الإمام مسلم وغيره مرفوعاً: “عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيراً له”.
تحدثت في مقالة سابقة عن السرّاء؛ حقيقتها وكيف ينبغي أن يتعامل معها الفرد المسلم والجماعة المسلمة.. فماذا عن الضرّاء؟!
الضرّاء هي كل حالة تضر، كالفقر والمرض والفقد والشدة وغيرها، وليست هي خيراً في ذاتها، بل اسمها يدل على أنها مُضرّة، ولكن هذه المُضِرّة تحولها إيجابية المؤمن إلى خير.. “إن أصابته ضرّاءُ صبر؛ فكان خيراً له”.
والمؤمن إذا عقد قلبه على هذا المعنى؛ لم يخضخضه إقبال البلايا ولا إدبارها؛ لأن غايته تحصيل الأجر، ولا يكون ذلك إلا بالصبر، فشمْلُه مجتمعٌ على الصبر والأجر، منشغل بهما عن الحزن على ما أصابه من ضراء.
وإذا وقع على العبد ما يضرّه؛ فلا يجزمن بأن الله تعالى أراد به شراً، فكم من حدث نظن أن نتيجته شر محض؛ فإذا به يحمل في طياته خيراً كثيراً، وخير ما يحمله أن يدفع المؤمنَ للصبر، فإذا صبر حاز من الخير ما لو علم حقيقته؛ لتمنى أن تأتيه البلايا من كل جانب؛ كي يصبر فيؤجر.
إذا وقع على العبد ما يضرّه؛ فلا يجزمن بأن الله تعالى أراد به شراً، فكم من حدث نظن أن نتيجته شر محض؛ فإذا به يحمل في طياته خيراً كثيراً
ولكن.. لأن قوة الإنسان على التحمل محدودة، فربما تشعره كثرة البلاء بالضيق والضجر واليأس؛ نُهي عن تمني مواجهة الضرّاء، كمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا” (متفق عليه).
كيف يواجه المؤمنُ الضرّاء؟
ثم على المؤمن أن يستذكر أن هذه الضرّاء المقدرةَ عليه؛ لم تكن لتصبح قدراً إلا بسبب ما ارتكبه من ذنوب.. ولأن الله تعالى يحبه لإيمانه؛ يبتليه بالضرر كي يصبر فيُمحى ذنبه، قال الله سبحانه: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى:30]، وفي حديث عائشة المتفق عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مصيبة تصيب المسلم؛ إلا كفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكُها”، وفي رواية لمسلم: “ما من شيء يصيب المؤمن، حتى الشوكة تصيبه؛ إلا كتب الله له بها حسنة، أو حُطَّت عنه بها خطيئة”.
وهنا أمر ينبغي التنبيه عليه؛ وهو أن الصبر على الضرّاء لا يستوجب عدم الحزن لوقوعها، فهذا أمر فوق طاقة الإنسان، والرحيم سبحانه لا يكلفنا بما لا نطيق .. ولتدركَ أنك لن تكون أكثر صبراً من أكمل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم؛ اقرأ معي هذا الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال (واللفظ للبخاري): دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيفٍ القَيْن (أي الحدّاد) وكان ظئراً لإبراهيم عليه السلام (أي زوج مرضعة إبراهيم ولد النبي عليه الصلاة والسلام)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيمَ، فقبّله، وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيمُ يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسولَ الله؟ فقال: يا ابن عوف! إنها رحمة” ثم أتْبَعَها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن العين تدمع، والقلبَ يحزن، ولا نقول إلا ما يَرضى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون”.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما -كما عند الشيخين، واللفظ لمسلم- قال: اشتكى سعدُ بن عبادة شكوى له، فأتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعودُه مع عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غَشِيّة، فقال: “أقد قضى؟”، قالوا: لا يا رسول الله! فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القومُ بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكَوا، فقال: “ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذبُ بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه-، أو يرحم”.
والحديث حول هذا يطول..
إذن؛ النصوص الشرعية ترسخ الإيجابية في حياة المؤمن، فتحضه على مواجهة الضرّاء بالصبر، وتخبره أن هذه الضرّاء إنما أصابته ببعض ذنوبه، وهي بذلك توجهه إلى التغيير من خلال استذكار ذنوبه، ومحاسبة نفسه عليها، والعزم على عدم اقترافها مرة أخرى، وهذا يستلزم مجاهدة النفس، والإقبال على العمل الصالح.
النصوص الشرعية ترسخ الإيجابية في حياة المؤمن، فتحضه على مواجهة الضرّاء بالصبر، وتخبره أن هذه الضرّاء إنما أصابته ببعض ذنوبه، وهي بذلك توجهه إلى التغيير من خلال استذكار ذنوبه، ومحاسبة نفسه عليها، والعزم على عدم اقترافها مرة أخرى
الضرّاء تصيب الجماعة أيضاً
والضرّاء تصيب الجماعة المؤمنة، كما تصيب الفرد المؤمن.. وفي كلتا الحالتين يشير حديث صهيب المذكور في أول المقالة إلى أهمية الاستعصام بالإيمان والصبر والتغيير الإيجابي، ففي ذلك المخرج من كل بلاء.
أرأيت لو أن شخصاً أصيب بمرض، هل ينتظر بلا علاج حتى يُشفى من مرضه؟ وكذلك الأمة مريضة، وهي بحاجة إلى علاج، وعلاجها يكون بعلمها أولاً بحقيقة المرض، ثم بالصبر عليه، ثم بتناول الدواء، ثم باتخاذ التدابير الوقائية لعدم الوقوع فيه مرة أخرى، ومنها تقوية المناعة، والعمل على بناء جسم مثالي قوي قادر على طرد الفيروسات.
على الجماعة المؤمنة أن لا تستغرق برثاء الأحوال القاسية التي تعانيها، والبكاء على الأطلال، واستحضار أمجاد الماضي، وسرد الأحلام الجميلة للمستقبل الباهر .. عليها أن تبادر إلى علاج نفسها، لتنهض من جديد، وتكون المبادرة في صناعة الحدث، من غير استهانة بما لديها من رصيد، فهي أمة الحق، إنْ لزمته كان الله معها، وسخّر لها الأنصار والمؤيدين.
(المصدر: موقع بصائر)