“الصافنات الجياد”.. رسالة إعجازية وسبّقٌ قرآني في سلوك الحيوان
بقلم د. علي الصلابي
تعدُّ الخيل من الحيوانات التي تتمتع بدرجة عالية من الجمال، فجمالها يفوق جمال غيرها من الحيوانات في الشكل واللون والحركة وهذه حقيقة ثابتة لا أظن أحداً من الناس يغفلها، فضلاً عن أن ينكرها، قد زينها الله للناس وحببها إليهم جميعاً، قال تعالى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَالنِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ” (آل عمران، آية: 14).
وتكلم القرآن الكريم عن مهرجان استعراضي عظيم أقيم لخيل نبي الله سليمان عليه السلام، عرض يليق بنبي الله سليمان، سليمان النبي الملك الذي استجاب الله له دعوته، ووهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، قال تعالى: “وَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِبِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ” (ص، آية: 30 ـ 33).
والصافنات من الخيل: القائم على ثلاثة قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر، سماها القرآن الكريم ذلك وهي تقف على ثلاث وترفع الرابعة في حركة إيقاعية جميلة. وفي قوله “فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ” (ص، آية: 33). أي: طفق يمسح أعراف الخيل وسوقها بيده حباً لها. وقوله: “رُدُّوهَا عَلَيَّ” متصلاً بقوله “ِإذْ عُرِضَ عَلَيْهِبِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ”، أي: بعد أن استعرضها وانصرفوا بها لتأوي إلى مزاودها. قال: “رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًابِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ” إكراماً لها ولحبها، وكان هذا العرض في غاية الجمال، والروعة، والبهجة، مما زاد سليمان -عليه السلام- حباً لها وإعجاباً بجمالها وحسن عرضها، فقال: “ِإنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ”، والخير هنا: الخيل قال الطبري: عني بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب فيما بلغني تسمِّي الخيل الخير، كما يسمون المال الخير. أي: إني أحببت الخيل لأجل أنها تذكرني بربي: “لا أحبها لأجل الدنيا، ولأجل نصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله تعالى.
إذن فقد كان حب سليمان عليه السلام للخيل نوعاً من أنواع ذكر الله خالقها: إذ أن ذلك من ذكر ربه أو لأن ذلك النظر نوع من ذكر ربه أو لأن الله أمره أن يستروح بالجمال في الطبيعة وفي المخلوقات استرواحاً لا يؤذي أحداً، وإنما استرواح متسق مع ذكر الله دائماً. ومثله قوله تعالى: “لَهُ مُعَقِّبَاتٌمِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ” (الرعد، آية: 11) من أمر الله: أي بأمر الله، أو من أجل أمر الله، ويظهر أن هذا العرض وهذا الابتهاج قد استمر إلى أن غابت الشمس وبعدها قال نبي الله سليمان: “رُدُّوهَا عَلَيَّ” أي الخيل: ولسان حاله يقول: لأشكرها على هذا العرض الجميل العظيم الذي جاءت به، فجعل يمسح سوقها، وأعناقها مسحة شكر وإكبار وعرفان بالجميل، والخيل تتجاوب معه في هذا الشكر كعادتها مع من يمسح أعناقها وسوقها، وتنعم بهذا المسح وتستريح وتحس بالسكينة، وهذا الارتياح إنما هو تعبير منها على حبها لهذا المسح.
هذا هو التفسير الأقرب للصواب لأنه ينسجم وروح الإسلام، على خلاف التفسير الخاطيء، الذي أورده كثير من المفسرين والذي يزعم أن سليمان ـ عليه السلام ـ قام بقطع أعناق وسوق هذه الخيل، بزعم أنها شغلته وألهته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، وذلك التفسير ليس صحيحاً لأن قتل الخيل -البريئة الجميلة- بهذا الشكل غير الحسن والمنافي لتعاليم الإسلام، لا يليق أن يُنْسب أو يُلصق بإنسان عادي لديه أدنى إحساس أو أدنى رحمة أو أدنى الإيمان، فكيف يلصق بنبي يوحى إليه، ومن هنا نقول: إن القول بتقطيع سليمان سوق وأعناق الخيل قول مردود من عدة أوجه يمكن تلخيصها في النقاط التالية التي تمثل:
– طبيعة نبي الله سليمان الشفاقة التي تمنعه أن يدوس نملة أو يُحطمها فضلاً في أن يعذب خيلاً بتقطيع أعناقها وسوقها، دليلنا على ذلك شهادة النملة عندما قالت: “وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ” (النمل، آية: 18)، بمعنى أنهم لو شعروا بوجود نمل فلن يُحطِّموها بأقدامهم، فهم سليمان وجنده.
– تقدير وحُبّ نبيِّ الله سليمان للجمال، كما هو واضح في قصّته مع الخيل، الأمر الذي يمنعه أن يعذب خيلاً فاضت عليه حسناً وجمالاً يعرضها، فهو لم يحبها فحسب بل أحبها، وأحب حبه لها أيضاً.
– لفظ: “المسح” في الآية: الذي يعني “المسح” على حقيقته ولا يوجد ما يصرفه عن معناه الحقيقي أو إلى القطع كما يزعم البعض وأنه لو كان معنى: مسح السوق والأعناق قطعها لكان قوله تعالى: “وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ” تعني: اقطعوها، وهذا لا يقوله عاقل.
– لو افترضنا جدلاً أن الله أجاز لسليمان قتلها بذبح أعناقها، فلماذا عذَّبها إذا بقطع سيقانها وقد حرّم الله عليها ذلك التعذيب، وغيره، بل أمره بالإحسان في كل شيء حتى في القتل.
– إن صلاة العصر لم تكن مفروضة في شريعة سليمان، فكيف يقال إنها فاتته وهي في حكم المعدوم، حيث كان هو على ملة إبراهيم التي كانت فيها الصلاة فقط، في الغدو والعشي.
– إن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان أنواعاً من الأفعال المذمومة منها، أنه ترك الصلاة، واستولى عليه الاشتغال بحب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة وأنه لم يشتغل بالتوبة والإنابة من هذا الذنب العظيم “كما زعموا” بل أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل “سوقها وأعناقها”، وهذه كلها من الكبائر نسبوها إلى سليمان -عليه السلام- مع أن لفظ القرآن الكريم لا يدل على شيء منها.
– إن هذه الرواية إسرائيلية ولم تصح عند أهل العلم، وقد ثبت ـ كما رأينا تناقضها مع روح الإسلام ورحمته.
والعجيب في الأمر، كيف قبل الناس ما شاع من هذه الوجوه الخاطئة مع أنها تعارض العقل والنقل وليس لمن أثبتها أدنى شبهة تؤيد قوله فضلاً عن حجة وبرهان.
ورد في القرآن الكريم وصف: “الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ”: لخيل نبي الله سليمان -على نبينا وعليه من الله السلام- وهو مدح للخيل واقفة “الصَّافِنَاتُ” وجارية “الْجِيَادُ”، فإذا وقفت كان ذلك على ثلاثة قوائم وعلى طرف القائم الرابع ذلك من علامات السكون، والاطمئنان، والثقة بالنفس والخيلاء بما أفاء الله تعالى عليها، من قوة وجمال وذكاء، وقدرات على الحس والإدراك، وإذا جرت كانت في عدوها سباقة راكضة، وهذه من المعارف التي بدأ البحث في علم سلوك الحيوان في التوصل إليها، كذلك أثبت علم سلوك الحيوان أن المسح بسوق الخيل وأعناقها يلعب دوراً مهماً في ترويضها وتطمينها وإشعارها بالود والمحبة، من هنا فإن وصف القرآن الكريم لجياد سيدنا سليمان بـ”الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ” ووصف تعامله معها يقول الحق تبارك وتعالى: “فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ” كان إلهاماً من الله تعالى لنبيه سليمان ـ على نبينا وعليه من الله السلام ـ وسبقاً علمياً وتاريخياً، لأن ذلك لم يكن معروفاً لأحد في زمن الوحي بالقرآن الكريم، ثم أن الإشارة في الآيات القرآنية الكريمة التي تصف هذه الواقعة (سورة ص، آية 31 ـ 33) جاءت بالتأنيث “الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ” مما يؤكد دور أنثى الخيل في تدبير أمر جماعتها وهو من حقائق علم سلوك الحيوان التي لم تعرف إلا في أواخر القرن العشرين.
———————————————————————————————————————-
مراجع:
- علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، 2013م، ص.ص (161 – 165).
- زغلول النجار، مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، الطبعة الأولى، 2009م، ص 321.
- أحمد النظاري، الجمال الحسِّي في القرآن، ص.ص 194 – 195.
- الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1415 هـ، (23 / 195).
- سيد دسوقي، تأملات في التفسير الحضاري للقرآن الكريم، دار نهضة مصر للطباعة، 1998م، ص. ص 35 – 36.
- الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1992م (1 / 578).
(المصدر: مدونات الجزيرة)