الشّيخُ المُربّي سارية الرّفاعيُّ: نبضُ أُمّةٍ ورائدُ إصلاحٍ (1)
بقلم: د. مصطفى يعقوب
في لحظةٍ مهيبةٍ خيّم فيها الحُزنُ على قُلوب المُسلمين، ودّعت الأُمّةُ الإسلاميّةُ والشّعبُ السّوريُّ عالماً جليلاً وداعيةً مُخلصاً؛ الشّيخ سارية الرّفاعيّ، الّذي انتقل إلى رحمة الله في مدينة إسطنبول يوم الاثنين السّادس من رجبٍ عام ألفٍ وأربعمئةٍ وستّةٍ وأربعين للهجرة، المُوافق السّادس من يناير عام ألفين وخمسةٍ وعشرين للميلاد. رحل عنّا بعد رحلةٍ حافلةٍ بالعطاء، تاركاً خلفهُ إرثاً علميّاً ودعويّاً وإصلاحيّاً يشهدُ لهُ بالصّدق في خدمة الإسلام والمُسلمين.
نشأةٌ في بيت علمٍ وتقوى
في حيّ القنوات، أحد أعرق أحياء دمشق القديمة وموطن العُلماء والصّالحين، أبصر الشّيخُ ساريةُ الرّفاعيُّ النّور عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانيةٍ وأربعين للميلاد. كان ميلادُهُ بشارة خيرٍ؛ فقد احتضنت أزقّتُهُ وحاراتُهُ على مرّ التّاريخ كوكبةً من العُلماء والمُصلحين، ليكون امتداداً لهذا الإرث العلميّ النّبيل.
ونشأ الشّيخُ ساريةُ في كنف والده العلّامة الشّيخ عبد الكريم الرّفاعيّ، مُؤسّس جماعة زيدٍ، إحدى أبرز الجماعات الإسلاميّة في سورية. تشرّب العلم والأدب مُنذُ نُعومة أظفاره، وترعرع مع شقيقه الشّيخ أُسامة في بيتٍ امتزج فيه العلمُ بالعمل، والتّربيةُ بالتّزكية، ﴿كشجرةٍ طيّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السّماء﴾.
وفي هذا البيت المُبارك، تشكّلت الملامحُ الأولى لشخصيّة الشّيخ العلميّة والدّعويّة؛ فتلقّى القُرآن والعُلوم الشّرعيّة على يد والده مُباشرةً، وحضر دُروس كبار عُلماء دمشق في سنٍّ مُبكّرةٍ. وتأثّر بالمنهج التّربويّ الفريد لجماعة زيدٍ، فنشأ على حُبّ العلم والعُلماء وخدمة النّاس، وتأثّر بالبيئة العلميّة الّتي اتّصفت بالجمع بين العلم والتّربية، والاهتمام بالجانب العمليّ مع التّأصيل العلميّ، والحرص على خدمة المُجتمع وإصلاحه.
ولم يكد يبلُغُ السّابعة عشرة من عُمره حتّى بدأ نشاطهُ الدّعويّ، حيثُ أرسلهُ والدُهُ إماماً في جامع القُصور بمنطقة التّجارة عام ألفٍ وتسعمئةٍ وخمسةٍ وستّين للميلاد، ليُؤسّس فيه عملاً دعويّاً مُباركاً مع ثُلّةٍ من إخوانه، ممّا يدُلُّ على نُضجٍ مُبكّرٍ ونشأةٍ مُباركةٍ في بيت العلم والتّقوى.
رحلةُ طلب العلم والمعرفة: من دمشق إلى القاهرة
بدأت رحلةُ الشّيخ العلميّةُ في معهد الجمعيّة الغرّاء، فنهل من معين عُلماء أجلّاء، منهُمُ: الشّيخُ عبدُ الرّحمن الزّعبيُّ في التّفسير، والشّيخُ أبو اليُسر عابدين في الفقه والنّحو، والشّيخُ مُحمّدٌ صالحُ الفرفور في البلاغة والخطابة، وغيرُهُم كثيرٌ رحمهُمُ اللهُ تعالى.
وفي عام ألفٍ وتسعمئةٍ وستّةٍ وستّين للميلاد، حطّ الرّحال في رحاب الأزهر الشّريف، تلك المنارة العلميّة العريقة، ودرس في كُلّيّة أُصول الدّين، وتتلمذ على يد عُلماء أفذاذٍ: الشّيخ عبد الحليم محمودٍ شيخ الأزهر، والشّيخ عبد الوهّاب عبد اللّطيف في الحديث، والشّيخ مُحمّدٍ محمودٍ حجازي في التّفسير وغيرهم رحمهُمُ اللهُ تعالى.
وأثمرت رحلتُهُ العلميّةُ بحُصوله على شهادة البكالوريوس من كُلّيّة أُصول الدّين عام ألفٍ وتسعمئةٍ وواحدٍ وسبعين للميلاد، ودرجة الماجستير في التّفسير عام ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعةٍ وسبعين للميلاد، وإجازاتٍ علميّةٍ من كبار عُلماء عصره.
وتميّزت دراستُهُ بالشُّمول والتّنوُّع والجمع بين العُلوم الشّرعيّة من تفسيرٍ، وعقيدةٍ، وحديثٍ، وفقهٍ، واللُّغة العربيّة من نحوٍ، وصرفٍ، وبلاغةٍ، والعُلوم العصريّة مثل الكيمياء، والفيزياء، والعُلوم والتّاريخ. فانعكس هذا التّكوينُ العلميُّ المتينُ على شخصيّته وعطائه، عُمقاً في الفهم وسعةً في الأُفُق، وقُدرةً على الرّبط بين الأصالة والمُعاصرة، ومنهجيّةً علميّةً رصينةً في التّعامُل مع القضايا، وموسوعيّةً في الطّرح وشُموليّةً في المُعالجة.
صوتُ الحقّ في زمن الصّمت
مُنذُ أن اعتلى منبر جامع زيد بن ثابتٍ، عُرف الشّيخُ ساريةُ بقُوّة بيانه وصدق كلمته، فكان – رحمهُ اللهُ – يجمعُ بين قُوّة الطّرح وعُذوبة الأُسلوب، وعُمق المضمون وجمال العبارة، وشجاعة القول وحكمة التّوجيه، وكان مصداقاً لقول الله تعالى: ﴿ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة﴾.
وتميّز الشّيخُ في إمامته بمنهجٍ وسطيٍّ مُعتدلٍ؛ يُقرّبُ ولا يُبعّدُ، ويُبشّرُ ولا يُنفّرُ، ويجمعُ الكلمة ويُوحّدُ الصّفّ، ويُعالجُ القضايا بحكمةٍ وبصيرةٍ. وامتدّ تأثيرُهُ العميقُ في النُّفوس عبر الدُّروس العلميّة المُنتظمة، والخُطب المنبريّة المُؤثّرة، واللّقاءات التّربويّة الخاصّة، والتّوجيه المُباشر للشّباب، حتّى أصبح منبرُهُ مدرسةً مُتكاملةً في الدّعوة والإصلاح، يشهدُ لهُ بذلك الآلافُ ممّن تأثّروا بخُطبه ودُروسه وتوجيهاته.
وسجّل التّاريخُ للشّيخ مواقف شُجاعةً؛ منها إضرابُ دمشق عام ألفين واثني عشر للميلاد بعد مجزرة الحولة، والصّدعُ بكلمة الحقّ في وجه الظُّلم، والثّباتُ على المبادئ رغم التّهديدات، ورفضُ المناصب حفاظاً على استقلاليّة الدّعوة.
وفي عصرٍ تكالبت فيه المصائبُ على الأُمّة، وتعدّدت فيه حاجاتُ المُجتمع، برز الشّيخُ ساريةُ الرّفاعيُّ – رحمهُ اللهُ – بنظرته الثّاقبة وفكره المُستنير في تأسيس مشاريع خيريّةٍ رائدةٍ. كان إيمانُهُ عميقاً بأنّ العمل المُؤسّسيّ المُنظّم هُو السّبيلُ الأمثلُ لخدمة المُجتمع وتلبية احتياجاته، فأسّس جمعيّة حفظ النّعمة الّتي غدت نموذجاً يُحتذى في العمل الخيريّ المُؤسّسيّ، حيثُ بدأت بمشروع الغذاء عام ألفين وثلاثةٍ للميلاد لجمع فائض الطّعام من المطاعم والمُناسبات، ثُمّ تطوّرت لتشمل تقديم الوجبات الغذائيّة الجديدة للمُحتاجين، مُحقّقةً بذلك مقصداً شرعيّاً عظيماً في حفظ النّعمة وإطعام الطّعام.
ولم يقف طُموحُ الشّيخ عند هذا الحدّ، بل توسّعت مظلّةُ العمل الخيريّ لتشمل مشروع الكساء عام ألفين وأربعةٍ للميلاد، الّذي تجاوز فكرة جمع الملابس المُستعملة إلى توفير الملابس الجديدة من المصانع مُباشرةً. ثُمّ تلاهُ مشروعُ الدّواء عام ألفين وخمسةٍ للميلاد الّذي عالج أزمة الدّواء المُتفاقمة في المُجتمع، يليه مشروعُ الأثاث عام ألفين وستّةٍ للميلاد لمُساعدة الشّباب المُقبلين على الزّواج، مُجسّداً بذلك فهماً عميقاً لاحتياجات المُجتمع ومُتطلّباته المُتجدّدة.
وفي عام ألفين وسبعةٍ للميلاد، أطلق الشّيخُ مشروعهُ الأكثر تميُّزاً في كفالة اليتيم، مُتجاوزاً مفهوم الكفالة المادّيّة التّقليديّة إلى رُؤيةٍ شُموليّةٍ تكامُليّةٍ تجمعُ بين الرّعاية الماليّة والتّوجيه التّربويّ والمُتابعة الدّراسيّة، مع عنايةٍ خاصّةٍ بالأُمّهات الأرامل. نجح المشروعُ في رعاية ما يزيدُ عن ثلاثين ألف يتيمٍ في دمشق وريفها، مُقدّماً نموذجاً فريداً في العمل الخيريّ المُؤسّسيّ المُتكامل.
وفي المجال العلميّ والدّعويّ، أسّس الشّيخُ مركز زيد بن ثابتٍ الّذي غدا منارةً علميّةً ودعويّةً مُتكاملةً، يجمعُ بين التّعليم والتّربية والإعلام. وقام المركزُ بإعداد مناهج مُتميّزةٍ للدّورات الصّيفيّة في المساجد، وأطلق قناة الدّعوة الفضائيّة الّتي قدّمت نموذجاً راقياً للإعلام الإسلاميّ الهادف. وقد دعاني مع الشّيخ نُعيمٍ العرقسوسيّ فكُنتُ عُضواً في مجلس إدارته، قبل أن يتمّ إغلاقُها من قبل النّظام السّوريّ. كما أسّس مكتبة الغزاليّ للطّباعة والنّشر الّتي أثرت المكتبة الإسلاميّة بآلاف الكُتُب والدّراسات العلميّة والأدبيّة والثّقافيّة.
كانت هذه المشاريعُ والمُبادراتُ تجسيداً عمليّاً لفهم الشّيخ العميق لدور العالم في خدمة مُجتمعه، مُتجاوزاً دور الوعظ والإرشاد إلى العمل المُؤسّسيّ المُنظّم الّذي يلمسُ احتياجات النّاس ويُعالجُ مُشكلاتهم بطريقةٍ علميّةٍ ومنهجيّةٍ. شكّلت هذه المُبادراتُ نموذجاً رائداً في العمل الخيريّ والإصلاح المُجتمعيّ، وتركت بصمةً لا تُمحى في تاريخ العمل الخيريّ في سورية والعالم الإسلاميّ.
مواقفُ عزٍّ في زمن الشّدّة
سطّر التّاريخُ للشّيخ سارية الرّفاعيّ صفحاتٍ مُشرقةً من الثّبات على الحقّ والتّضحية في سبيل المبدأ، فقد عاش – رحمهُ اللهُ – حياةً حافلةً بالمواقف البُطوليّة الّتي تجلّت فيها معاني العزّة والكرامة، مُجسّداً قول الله تعالى: ﴿ومن يُهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعةً﴾.
وكانت هجرتُهُ الأولى عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانين للميلاد إلى المدينة المُنوّرة، حين ضاقت به السُّبُلُ في دمشق إثر تعرُّضه مع مجموعةٍ من العُلماء لضُغوطاتٍ أمنيّةٍ من النّظام السّوريّ. لم تكُن هجرتُهُ انقطاعاً عن العمل والعطاء؛ بل كانت محطّةً جديدةً من محطّات البذل، حيثُ جالس عُلماء المدينة وأفاد من علمهم وخبراتهم. فأمضى في هجرته الأولى ثلاثة عشر عاماً، تزوّد خلالها من معين العُلماء الأفذاذ كالشّيخ مُحمّدٍ زكريّا البُخاريّ، والشّيخ مُحمّدٍ مهديّ التّبر، وغيرهما من أعلام العلم والدّعوة.
وحين عاد إلى دمشق عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثلاثةٍ وتسعين للميلاد، استأنف نشاطهُ العلميّ والدّعويّ بهمّةٍ مُتجدّدةٍ وعزيمةٍ لا تلينُ، لكنّ الأحداث الّتي شهدتها سوريةُ عام ألفين واثني عشر للميلاد فرضت عليه هجرةً ثانيةً، بعد موقفه المشهود في إضراب دمشق عقب مجزرة الحولة. وكان موقفُهُ هذا تجسيداً حيّاً لقول النّبيّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: “أفضلُ الجهاد كلمةُ حقٍّ عند سُلطانٍ جائرٍ”، فقد استطاع بكلمته وموقفه أن يُحرّك الضّمير الجمعيّ للمُجتمع السّوريّ، حين دعا إلى إغلاق المحالّ والأسواق احتجاجاً على المجزرة.
وبدأت محطّةُ هجرته الثّانية في القاهرة، حيثُ أقام عاماً كاملاً لم يتوقّف فيه عن العمل والعطاء. أسّس المدارس لأبناء اللّاجئين السّوريّين، وأشرف على إرسال المعونات إلى مُخيّمات اللّاجئين، مُحوّلاً محنة الهجرة إلى منحةٍ للعطاء والبذل. ثُمّ انتقل عام ألفين وثلاثة عشر للميلاد إلى إسطنبول، ليبدأ مرحلةً جديدةً من النّشاط العلميّ والدّعويّ، مُشاركاً في تأسيس المجالس والرّوابط الإسلاميّة، ومُواصلاً دورهُ في خدمة العلم والدّعوة حتّى وافاهُ الأجلُ.
كانت هجراتُ الشّيخ – رحمهُ اللهُ – دُروساً بليغةً في الثّبات على المبدأ والتّضحية في سبيل العقيدة، لم تكُن هجراتُهُ هُروباً من المسؤوليّة؛ بل كانت انتقالاً نحو آفاقٍ أرحب للعمل والعطاء، ونسألُ الله أن يكون ضمن من قال اللهُ تعالى فيهم: ﴿والّذين هاجروا في سبيل الله ثُمّ قُتلوا أو ماتوا ليرزُقنّهُمُ اللهُ رزقاً حسناً﴾.
سماتٌ شخصيّةٌ فريدةٌ: عالمٌ جمع بين العلم والخُلُق
عُرف الشّيخُ ساريةُ الرّفاعيُّ – رحمهُ اللهُ – بشخصيّةٍ جمعت بين الهيبة والتّواضُع، والقُوّة واللّين، والحكمة والشّجاعة، وكان نموذجاً للعالم العامل الّذي يُترجمُ علمهُ إلى سُلوكٍ عمليٍّ في حياته اليوميّة.
وتميّز – رحمهُ اللهُ – بتواضُعٍ جمٍّ في تعامُله مع النّاس على اختلاف طبقاتهم ومُستوياتهم، وكان يجلسُ مع الفقير والغنيّ، والعالم والجاهل، والكبير والصّغير، ويستمعُ إليهم بقلبٍ حاضرٍ وابتسامةٍ لا تُفارقُ مُحيّاهُ، حتّى في أشدّ لحظات المرض والابتلاء، لم تغب تلك الابتسامةُ المُشرقةُ عن وجهه، ممّا جعل لهُ مكانةً خاصّةً في قُلوب كُلّ من عرفهُ.
أمّا في مُعالجته للقضايا والأزمات، فقد عُرف بحكمته الفريدة وبُعد نظره. كان يتأنّى في إصدار الأحكام، ويزنُ الأُمور بميزان الشّرع والحكمة، فلا يندفعُ في قراراته ولا يتسرّعُ في مواقفه. وهذه الحكمةُ مكّنتهُ من مُعالجة كثيرٍ من القضايا الشّائكة في المُجتمع، وجعلت منهُ مرجعاً موثوقاً في حلّ النّزاعات وإصلاح ذات البين.
وفي جانب الشّجاعة في قول الحقّ، كان – رحمهُ اللهُ – مثالاً يُحتذى، لم تمنعهُ التّهديداتُ ولا الضُّغوطُ من الصّدع بكلمة الحقّ، ولم تثنه المُغرياتُ عن مواقفه المبدئيّة. كان صوتاً قويّاً في مُواجهة الظُّلم والطُّغيان، يتكلّمُ بلسان الحقّ دون خوفٍ أو تردُّدٍ، مع حفاظه على الحكمة والاتّزان في طرح القضايا.
ومن أبرز سماته – رحمهُ اللهُ – رقّةُ قلبه وإحساسُهُ العميقُ بآلام النّاس ومُعاناتهم، فكان يبكي لبُكاء المظلومين، ويتألّمُ لمُعاناة المُحتاجين، ويسعى جاهداً في تفريج كُرُباتهم. هذا الإحساسُ المُرهفُ دفعهُ لتأسيس المشاريع الخيريّة المُتنوّعة الّتي خفّفت مُعاناة آلاف الأُسر المُحتاجة.
وفي محنته الأخيرة مع المرض، تجلّت صفاتُ الصّبر والرّضا بقضاء الله في أبهى صُورها، حمل آلام المرض بقلبٍ راضٍ وصبرٍ جميلٍ، مُحوّلاً فراش مرضه إلى محرابٍ للعبادة ومنبرٍ للدّعوة. حتّى في أشدّ لحظات مرضه، كان حريصاً على نفع النّاس وتدوين مُذكّراته وخواطره، تاركاً لنا إرثاً علميّاً وعمليّاً ثميناً.
الإرثُ العلميُّ والدّعويُّ: بصماتٌ خالدةٌ في خدمة الإسلام
وعلى مدى عُقودٍ من العطاء المُتواصل، ترك الشّيخُ ساريةُ الرّفاعيُّ – رحمهُ اللهُ – إرثاً علميّاً ودعويّاً ثريّاً، يشهدُ على عُمق علمه وسعة فكره. فمُنذُ تولّيه إمامة جامع زيد بن ثابتٍ في دمشق، أسّس منهجاً علميّاً وتربويّاً مُتكاملاً، يجمعُ بين الأصالة والمُعاصرة.
وفي مجال التّأليف والكتابة، ترك الشّيخُ – رحمهُ اللهُ – مُؤلّفاتٍ قيّمةً تجمعُ بين العُمق العلميّ والأُسلوب السّلس. ومن أبرز مُؤلّفاته كتابُ “مُذكّراتٌ في زمن الثّورة” الّذي وثّق فيه تجربتهُ وشهادتهُ على أحداثٍ مفصليّةٍ في تاريخ سورية المُعاصر. كما أثرى المكتبة الإسلاميّة برسالته القيّمة “الأربعون السُّنّيّةُ في ثُلاثيّات الأحاديث النّبويّة”، الّتي جمع فيها نُخبةً من الأحاديث النّبويّة بأُسلوبٍ فريدٍ، ولم يمنعهُ المرضُ من مُواصلة الكتابة والتّأليف، فقد ترك مخطوطاً آخر من مُذكّراته ينتظرُ النّشر.
وفي المجال المُؤسّسيّ، أسّس مكتبة الغزاليّ للطّباعة والنّشر عام ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةٍ وستّين للميلاد، الّتي أصدرت كثيراً من الكُتُب والدّراسات في مُختلف المجالات العلميّة والأدبيّة والثّقافيّة. كما أسّس مركز زيد بن ثابتٍ الّذي قام بدورٍ رياديٍّ في إعداد المناهج التّعليميّة والدّورات العلميّة، وكان لقناة الدّعوة الفضائيّة الّتي أسّسها دورٌ بارزٌ في نشر العلم والوعي الإسلاميّ، قبل أن يتمّ إغلاقُها من قبل النّظام السّوريّ.
وفي مجال التّعليم والتّربية، تميّز منهجُ الشّيخ بالشُّموليّة والتّكامُل، فقد أسّس معهد الفُرقان لتعليم الإناث، وأشرف على إعداد مناهج الدّورات الصّيفيّة في المساجد تحت عُنوان “الثّقافة الإسلاميّة للمُبتدئين”، كما كان لهُ دورٌ بارزٌ في تكريم شُيوخ القُرّاء في دمشق، حرصاً منهُ على تقدير العُلماء وحفظة القُرآن الكريم.
وفي مجال العمل الخيريّ والإغاثيّ، أسّس نموذجاً فريداً في العمل المُؤسّسيّ المُنظّم من خلال جمعيّة حفظ النّعمة ومشاريعها المُتنوّعة، كما كان لهُ دورٌ بارزٌ في إغاثة اللّاجئين السّوريّين خلال محنتهم، سواءٌ في مصر أو تُركيا، مُقدّماً نموذجاً عمليّاً في ربط العمل الخيريّ بالرّسالة الدّعويّة.
أمّا إرثُهُ الأعظمُ فيتمثّلُ في الآلاف من تلاميذه وطُلّابه الّذين تأثّروا بعلمه وخُلُقه، وحملوا مشعل الدّعوة من بعده. فقد خرّج أجيالاً من الدُّعاة والعُلماء الّذين يُواصلون مسيرتهُ في خدمة الإسلام والمُسلمين، مُجسّدين منهجهُ في الجمع بين العلم والعمل، والحكمة والشّجاعة.
خاتمةٌ: بصمةٌ لا تمحوها الأيّامُ
في يوم الاثنين السّادس من رجبٍ عام ألفٍ وأربعمئةٍ وستّةٍ وأربعين للهجرة، المُوافق السّادس من يناير عام ألفين وخمسةٍ وعشرين للميلاد، تنقّل خبرُ رحيل الشّيخ سارية الرّفاعيّ في أرجاء العالم الإسلاميّ كالنّار في الهشيم، وامتلأت الصّفحاتُ بصُوره والدُّعاء لهُ والتّرحُّم عليه، مُخلّفاً وراءهُ حُزناً عميقاً في قُلوب مُحبّيه ومُريديه.
رحل الشّيخُ في أرض الغُربة، في إسطنبول، بعد ابتلاءٍ طويلٍ مع المرض، أقرّ اللهُ عينهُ قبل رحيله برُؤية فجر الحُرّيّة يبزُغُ في سورية الحبيبة.
تُوُفّي الشّيخُ عن عُمرٍ ناهز الثّمانين عاماً، قضاها في خدمة العلم والدّعوة والإصلاح، وكان – رحمهُ اللهُ – نموذجاً للعالم العامل، والدّاعية الحكيم، والمُصلح المُجاهد، لم تثنه التّحدّياتُ عن أداء رسالته، ولم تمنعهُ المحنُ من مُواصلة طريقه.
وهكذا طُويت صفحةٌ مُشرقةٌ من تاريخ الدّعوة الإسلاميّة المُعاصرة، برحيل الشّيخ سارية الرّفاعيّ – رحمهُ اللهُ – لكنّ آثارهُ وبصماته باقيةٌ في مدارسه ومُؤسّساته وتلاميذه، وفي قُلوب وعُقول من عرفوهُ وتتلمذوا على يديه.
رحل الجسدُ وبقي العطاءُ، وغاب الشّخصُ وحضر الأثرُ، فكم من مُؤسّسةٍ علميّةٍ وخيريّةٍ ما زالت تنبُضُ برُوحه، وكم من تلميذٍ وداعيةٍ يحملُ فكرهُ ومنهجهُ، وكم من كتابٍ وأثرٍ علميٍّ يُخلّدُ ذكراهُ.
رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً، وجزاهُ عن الإسلام والمُسلمين خير الجزاء، وأسكنهُ فسيح جنّاته. وإنّنا لنرجو أن يكون ممّن قال فيهمُ النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: “إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُهُ إلّا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو لهُ”.
وإنّ أعظم وفاءٍ لهذا العالم الجليل هُو السّيرُ على دربه، ومُواصلةُ رسالته، والاقتداءُ بمنهجه في خدمة الإسلام والمُسلمين. نسألُ الله أن يُوفّقنا لذلك، وأن يجعلنا من الوارثين لإرثه العلميّ والدّعويّ.
وإنّنا إذ نُودّعُ هذا العالم الجليل، لنسألُ الله تعالى أن يتغمّدهُ بواسع رحمته، وأن يُسكنهُ فسيح جنّاته، وأن يجمعنا به في مُستقرّ رحمته مع النّبيّين والصّدّيقين والشُّهداء والصّالحين. اللّهُمّ لا تحرمنا أجرهُ، ولا تفتنّا بعدهُ، واغفر لنا ولهُ، واجعل ما قدّمهُ في ميزان حسناته يوم يلقاك.
﴿إنّا للّه وإنّا إليه راجعون﴾
“استفدتُ في إعداد هذه المقالة من الكتابة القيّمة للأخ الفاضل الأستاذ سارية العجلوني، مع إضافة انطباعاتي الشخصية من لقاءاتي المباركة بالشيخ.”
إسطنبولُ – 6/1/2025