الشيخ مولود السريري يكتب عن الفكر المدخلي: «علامات الفكر المتهافت»
من الطوائف التي تعتمد على القهر والإكراه، طائفة أخرى ترى أنَّ الاتصاف بالإسلام متوقف على موافقتها، واتباعها على ما هي عليه من حال؛ اتباع طاعة وتقليد على عماية.
ابتدعت هذه الطَّائفة في أمر التشريع الإسلامي ما لم تسبق إليه، وليس لها فيه سلف عند أهل السنة.
وما ابتدعه هؤلاء هو “التجريح والتعديل” للنظار في الأدلة الشرعية والفقهاء، فكان هجيراهم صباحا ومساء ذم كل من ليس على سبيلهم في هذا الشأن، ووصمه بأنه مجرح يجب أن يتقى، لا حرمة عندهم لعالم حيا كان أو ميتا، وإن كان اعتناؤهم في هذا الشأن بالأحياء أكثر.
وبذلك كان وزن الرأي الفقهي لفقيه ما وتقويمه –عندهم- هو قول شيخهم في ذلك الفقيه، فإن قال فيه إنه مجرح ردوا قوله، ونهوا عن الاستماع إلى مقاله، وإن صح قوله فقها، وإن قال فيه: إنه عدل، قبلوا قوله واعتبروه صحيحًا، وأمروا بالاستماع إليه، وإن كان قوله بمقتضى الأدلة الشرعية باطلا.
والذي أجمعت عليه الأمة من زمان الصحابة -رضي الله عنهم- أن الرأي الفقهي وإن جهل قائله تعتبر صحته وبطلانه باعتبار الدليل الذي بني عليه.
فأنت لو فتحت كتب فقه مذاهب السنة كلها لن تجد في مجال الترجيح إلا هذا الأمر، وما كان أحد من أهل العلم المتقدمين يبحث عن سيرة قائل هذا القول أو ذاك، وما قيل فيه. ثم على وفق ذلك يحكم على قوله على الإطلاق، لأن المعتبر في الأحكام الشرعية أدلتها الشرعية، فما حكمت بصحته صح، وما حكمت ببطلانه بطل، ولو كان قائله أعدل أهل زمانه.
ترى متى ألغي هذا المعيار، وجيء بعدم اعتباره، وجيء بهذا الهذيان ليتوصل به إلى معرفة الحق والباطل في واقع الأمر، وهو الذي إليه المفزع عند كل نزاع بين النظار في المسائل الفقهية والعقدية وهو الفارق الفيصل بين مذهب أهل السنة والجماعة، ومذاهب الفرق الأخرى.
نعم، ألغي عندما وقع الإعراض عما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من الأصول ومناهج النظر فيها وجروا عليه، وتركت دراستها لصعوبة التعلم، واستبدل ذلك بالتنقيب عن عيوب الناس والبحث عن زلاتهم وسقطاتهم، فحصر الحق في “تعديل فلان” والباطل في “تجريح فلان”، وقد يكون ذلك التجريح بسبب اختلاف فقهي.
ولا يخفى أن هذا السبيل مخل بمبادئ أجمع عليها علماء المسلمين منها:
أولا: أن الشخص الذي يكون قوله حجة في أمور الدين بذاته لابد أن يكون منصوصا عليه بنفسه شرعا، وهذا لم يكن إلا للرسول -صلى الله عليه وسلم- وحده.
ثانيا: أن العلم بالصفة الشرعية التي تبنى عليها الأحكام الشرعية يدركه جميع علماء الشريعة بلا استثناء، وهذه الصفة تسمى مناط الحكم؛ والفقيه إذا ادعى وجودها في موضع ما يجب عليه أن يستدل بما من الأدلة يثبت به مدعاه، ثم عن رأيه في ذلك لا يعدوا أن يكون عن ظن راجح.
ثالثا: أن الرأي الفقهي وإن كان شاذا لا يستوجب التجريح والهجران، فقد قال بآراء أجمع العلماء على شذوذها بعض الصحابة والتابعين، وما نقل أن أحدا جرحهم.
رابعا: كون أفعال الجوارح قد تسري عليها الأحكام الشرعية الخمسة بحسب الأحوال الموجبة لذلك، وهؤلاء خالفوا هذا فحكموا على بعض أفعال الجوارح بحكم ثابت قار، إذ حكموا على “المظاهرات” وما ماثلها بأنها محرمة بإطلاق، من غير تفصيل، ولا تقييد، ثم نقلوا هذا الأمر فجعلوه أمرا عقديا، كما فعل الروافض في شأن الإمامة.
ولا يوجد في هذه الشريعة حكم شرعي مستقر على فعل جارحي على الدوام، وفي جميع الأحوال، إذ جميع أفعال الجوارح تجري عليها الأحكام الخمسة باعتبار الأحوال العارضة للمكلف، وإن كان كل فعل له حكمه الأصلي الذي لا يجوز خلافه والخروج على مقتضاه إلَّا لموجب شرعي اقتضى ذلك.
ومن ادعى خلاف هذا فليأت بما يثبته، إذ الأحكام الدائمة إنما تجري على أفعال القلوب -كالكفر والإيمان-، لأنها لا حاجة إلى هذا الاعتوار عليها، فسبحان من وضع هذه الشريعة وأنزل هذا الدين العظيم ذا الأسرار والرحمة.
خامسا: أنه لابد من إثبات السند الصحيح الموصل إلى الشارع فيما يكون المعتمد فيه هو النقل، فإذا ادعى أن فلانا زكاه فلان، وأن هذا المزكي -بالكسر- زكاه فلان إلخ، فإنه لابد من أمور:
أ- أن يكون طريق هذه التزكية متصلا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ب- أن يكون متصلا على شخص ورد النص الشرعي بأن من زكاه مزكى شرعًا.
ج- أن يكون متصلا إلى شخص فيه صفة معينة، وقد تكون هي العلم والتقوى.
ولا يخفى أن الأمرين الأوليين لا سبيل إليهما، لأن ذلك أمر غير وارد شرعا، فالتزكية الشرعية غير ثابتة في هذا الشأن.
وأما الثالث فإنما يقتضيه هو جعل العلم والتقوى في الظاهر مناط التزكية، وهذا يشترك فيه جميع علماء المسلمين، ولا فضل فيه لأحد على أحد منهم غالبًا، وبذلك فإن كل ممن زكاه عالم ما ظاهر حاله أنه متق، فإنه مزكى بهذا الاعتبار.
سادسا: إن المتقدمين من علماء السلف قصروا أمر التعديل والتجريح على رواة الأحاديث لتوقف بناء علم الشريعة على ذلك، باعتباره وسيلة إليه، كما هو ظاهر.
ومن ادعى خلاف هذا فليذكر أسماء تلك الكتب التي وضعت في تعديل وتجريح علماء الأمة -وهم لا حصر لهم- وصنفت في هذا الأمر على وجه الخصوص، أو الكتب التي تبنى فيها الردود على هذا الذي يبنيها عليه أهل هذا السبيل البدعي.
سابعا: إثبات وصف العالم لكل من قامت به هذه الصفة المعروفة بلوازمها وما تقوم به من زمان الصحابة، وهؤلاء خالفوا هذا الأمر فخصوا الاتصاف بالعلم الشرعي على أناس معينين، دون من سواهم، وهذا التخصيص أمر لا سبيل إلى إدراكه والحكم به إلا بدليل شرعي ينص على ذلك، لأن هذا أمر لا يصح إثباته إلا بذلك على وجه شرعي.
لأنه قد يوجد من هو أعلم من هؤلاء الذين ادعي أنهم وحدهم، العلماء حقا بدرجات، وهذا الوجود يتوصل إلى إدراكه بالدراسة الموضوعية في هذا الشأن و البحث فيه بالقواعد والوسائل الموصلة إليه.
فالمحبة والتقدير وصف قلبي، وذلك لا تقوم به الحجة في إثبات الحقائق الخارجية، وخاصة الحقائق العلمية الذاتية.
ومن أعظم النعم التي أنعم الله -تعالى- بها على المسلمين أنه أنزل الميزان الذي به يعرف الحق والباطل، وجعل لكل حكم ما يدل عليه من الدلائل والبراهين، ويرشد إليه على وضوح تام، فذو الرسوخ في العلم له صفاته، كما لمن هو دونه صفاته وعلاماته، كما للقول الفاسد والصحيح ما يعلم به حالهما من الدلائل والحجج.
وهذا ما يميز مذهب أهل السنة عن غيره من المذاهب الضالة التي يجري عليها سلطان من يسمون بعلمائها في عبث، ولعب بالنصوص الشرعية متوسلين إلى ذلك بالتأويل الباطني، والإشاري الذي لا ضوابط له، ولا قواعد معلومة قائمة، بل ذهاب فيما يقود إليه الخيال، والأهواء المذهبية والخواطر، والوساوس لكن -على كل ذلك- ما يصدر عنهم حق مطلق، لا يجوز رده، بل مناقشته، أو البحث عن مأخذه.
هذا ما عليه هؤلاء القوم، وما يسعى هؤلاء الذين لا يريدون أن يحكموا منهج أهل السنة الأصلي ويجعلوا مقتضى الأدلة الشرعية هو ما عليه المدار فيما يأتون وما يذرون، إلا أن يجعلوا مذهب أهل السنة منسوجا على مذاهب هذه الفرق الأخرى الضّالّة المضلّة.
بل قد جعلوه -كذلك- إذ ما معنى جعل أقوال الرّجال معيار الحقّ والباطل من غير ترجيح بين هذه الأقوال وما خالفها بتحكيم الأدلة الشرعيّة في ذلك مطلقا.
لا شكّ أن هذا المنهج يقضي بهدم المذهب السني وجعله مثل تلك المذاهب الأخرى بلا فرق، ولا يخفى ما في هذا من خطر عظيم.
ثامنا: قصر البدعة على ما ليس له دليل شرعي يستند إليه حقا.
وقد خولف هذا، فجاءت هذه الطائفة بتوسيع معنى البدعة، حتى عدوا منها العمل بالمطلقات والعمومات من الأدلة مطلقا من غير تفصيل ولا تقييد، مع أن الجريان على ذلك أمر مضى عليه جمع من علماء السلف في المواطن التي يرون أن ذلك هو الصواب فيها، وذلك لعدم ورود ما يقضي بخلافه، أو ورد لكنه لا يصح أن يجعل مخصصا أو مقيدا في نظرهم.
وغير ذلك من صنف هذه المسائل التي جيء فيها بخلاف ما يظهر أن عليه علماء هذه الأمة وأئمتها في الجملة.
إذا تقرر لديك هذا علمت أن هؤلاء مبتدعة في منهج النظر الفقهي وفي أصول الشريعة إذ أدخلوا فيها ما ليس منها على الإطلاق، وأزالوا اعتبار ما هو منها بالإجماع، فتأمل بإنصاف.
المصدر: هوية بريس