مقالاتمقالات مختارة

الشيخ محمود عبد الوهاب فايد نموذج مشرف للصدع بالحق في وجه النفاق والمنافقين

بقلم د. عبد الآخر حماد (عضو رابطة علماء المسلمين)

النفاق مرض نفسي يصيب قلب الشخص فيجعله ينطق بما لا يعتقد ،ويجهر بغير ما يبطن ، وهو داء يصيب الدول والجماعات أيضاً فيجعل الصوت الغالب فيها هو صوت المداهنة وكيل المديح لكل من غلب ،وقد توالت على الإسلام –كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله – ( عصور الضغط على الحريات وعلى الألسنة التي تنطق بالحق ، وحيث سكت لسان أهل الحق نطق لسان الباطل ،وهو لسان النفاق وأهله ، وإذا قلنا إن الذي قضى على سلطان الإسلام هو النفاق لم نكن من المغالين في القول المسرفين فيه ) [ من مقال بعنوان : النفاق .. النفاق نشر بمجلة لواء الإسلام عدد ربيع الأول 1383هـ ].
من المهم أن يعرف قارئُ هذه السطور المناسبةَ التي خط فيها الشيخ أبو زهرة كلماته السابقة ، ألا وهي أن واحداً من كبار الكتاب في ذلك الوقت كان قد سقط سقطة خطيرة وزلَّ زلة عظيمة ،لا يمكن تفسيرها إلا بهذا الذي أشار إليه الشيخ أبو زهرة من أنها نوع من النفاق الرخيص الذي تنطق به ألسنة أهل الباطل إذا أُسكت لسان أهل الحق .
كان ذلك الكاتب هو الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة الشهيرة ،والذي كان يتولى في تلك الحقبة أيضاً رئاسة تحرير مجلة الأزهر ، وكانت السقطة أنه كتب مقالاً افتتاحياً بمجلة الأزهر( عدد محرم 1383هـ الموافق لشهر يونيو 1963م ) بعنوان أمة التوحيد تتوحد ، قال فيه بالحرف الواحد : ( إن الوحدة المحمدية – يقصد التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم -كانت كلية عامة ؛ لأنها قامت على العقيدة ، ولكن العقيدة مهما تدم قد تضعف أو تحول . وإن الوحدة الصلاحية – يقصد التي أقامها صلاح الدين- كانت جزئية خاصة لأنها قامت على السلطان والسلطان يعتريه الوهن فيزول . أما الوحدة الناصرية –أي التي أقامها جمال عبد الناصر – فباقية نامية لأنها تقوم على الاشتراكية في الرزق والحرية في الرأي والديمقراطية في الحكم ، وهذه المقومات الثلاث ضمان دائم للوحدة ألا تستأثر فتستغل وألا تستبد فتطغى وألا تحكم فتتحكم …. )
ولا شك أن هذا الكلام يتضمن قدحاً في مقام النبي صلى الله عليه وسلم لتفضيله ما يسميه الوحدة الناصرية على الوحدة التي دعا إليها وأسسها خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن أعجب ما في مقالة الزيات المشار إليها أنه كتبها في وقت لم تكن هناك وحدة ناصرية أصلاً ؛ففي ذلك الوقت كان قد مضى أكثر من عام ونصف العام على ما سمي وقتها بكارثة الانفصال أي انفصال سوريا عن مصر ،وانتهاء دولة الوحدة الناصرية التي يقول عنها الزيات : إنها باقية نامية.
ولئن كان الشيخ أبو زهرة قد اكتفى في مقاله المشار إليه بالتلميح دون التصريح ، فإني وقفت في عدد مجلة الاعتصام الصادر ربيع الأول 1383ه الموافق لشهر أغسطس 1963م على شبه ملف كامل حول هذه القضية حرر أكثرَ مادته أسد من أسود الإسلام وجندي من جنده العظام هو الشيخ محمود عبد الوهاب فايد رحمه الله ، وقد كان – لمن لا يعرفه- واحداً من علماء الأزهر الأجلاء ،كما كان من علماء الجمعية الشرعية التي تولى رئاستها في منتصف التسعينات إلى أن توفي سنة 1997م .وقد اشتهر رحمه الله بصدعه بالحق وكونه لا يخشى في الله لومة لائم .
وقد كان مما كتبه الشيخ فايد في معرض دفاعه عن الوحدة المحمدية التي غمزها الزيات في مقاله : ( يا أستاذ زيات : إن الوحدة المحمدية التي تزعم أنها قامت على أساس قد يضعف ثم ينهار هي الوحدة التي أشاد الله بها ونوه بذكرها في هذه الآية الكريمة : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) ، إن هذه الوحدة قامت على أساس من تعاليم الإسلام ،والإسلام ليس عقيدة فحسب – كما حسبت – بل هو عقيدة وشريعة ، ونظام كامل ومنهاج وافٍ للناس في كل نواحي الحياة : عقيدة توثق العلاقة بين العبد والرب ، وشريعة توثق العلاقة بين الناس بعضهم مع بعض ،عقيدة تملأ القلب أمنا وإيماناً ،وشريعة تملأ الكون سلاماً وإسلاماً ومحبة ووئاماً ).
إلى أن قال رحمه الله : ( نعم هذه هي الوحدة المحمدية التي لم تعجبك والتي رأيتها تقوم على أساس قد يضعف أو يحول ، لقد أخذت عليها أنها تقوم على العقيدة ،وذاك لعمر الحق ميزة لها ، ولكنك خشيت على نفسك لو قامت على هذا الأساس أن تقعد منها مقعد القصي ،وأن تعيش معزولاً خارج إطارها ، بعيداً عن دائرتها، فأحببت أن تقوم على أساس من النفاق لكي تجد لك مكاناً رحباً فسيحاً تركض فيه وترتع ) .
وفي موضع آخر من عدد الاعتصام المشار إليه نقل الشيخ فايد نصين متناقضين للزيات يدلل بهما على تأصل طبيعة النفاق فيه ، وقد نُشر أحدهما في مجلة الأزهر قبل خلع الملك فاروق بشهرين ، ونشر الثاني في مجلة الأزهر أيضا بعد خلع فاروق بثماني سنين .
أما النص الأول ففيه ينافق الزيات فاروقاً بقوله : ( باسم الله جل اسمه وعز حكمه منزل كتابه هدىً ومرسل رسوله رحمةً ،وبهدي صاحب الرسالة محمد صلوات الله عليه لسان الوحي ،ومنهاج الشرع ،ومعجزة البلاغة ،وبعطف صاحب الجلالة الفاروق ناصر الإسلام ،ومؤيد العروبة ،وحامي الأزهر أعز الله نصره ،وجمل بالعلوم والآداب عصره ) .
وأما النص الثاني فهو افتتاحية عدد يوليو سنة 1960م من مجلة الأزهر التي يقول الزيات فيها متحدثاً عن فاروق : ( كان ملكاً على مصر قبل يوم 23 يوليو و،كان آيةً من آيات إبليس في الجرأة على دين الله وعلى حرم الناس .. بلغ من جرأته على الله كما حدثني أحد بطانته المقربين إليه أنه كان إذا اضطرته رسوم الملك أن يشهد صلاة الجمعة خرج إليها من المضجع الحرام فصلاها من غير غسل ولا وضوء ،وأداها من غير فاتحة ولا تشهد ، وكان يقول : إن أخوف ما أخافه أن يغلبني الضحك ،وأنا أتابع الإمام في هذه الحركات العجيبة ، وبلغ من جرأته على الحرمات أنه كان يغتصب الزوجة ،ويقتل الزوج ويسرق الدولة ويسفه الحق ،ويأخذ الرشا ثم أملى له الغرور فتبجح وتوقح وطغى ) .
هكذا تجرأ الزيات –كما يقول الشيخ فايد – ( على فاروق بعد طرده ،وقد كان يدبج له المدائح في عهده ،وهكذا يكتب عنه جليس بطانته وأنيس حاشيته )
وأخيراً : فلم يفت الشيخ فايد رحمه الله أن يتوجه مباشرة إلى الشخص المعني بنفاق الزيات ألا وهو الرئيس عبد الناصر نفسه فأرسل إليه برقية نشر نصها في ذات العدد ،وهذا نصها : ( السيد رئيس الجمهورية .. القاهرة : من قلب مخلص أنبهكم لخطر المقارنة بين الوحدة المحمدية والناصرية المنشورة بمجلة الأزهر عدد المحرم راجياً مصادرة الصحيفة ومحاسبة الزيات على إساءته للرسول وللأزهر ) محمود عبد الوهاب فايد المدرس بمعهد القاهرة .
وبعد : فهذا موقف واحد من مواقف ذلك الشيخ الجليل التي صدع فيها بالحق ،وكم له رحمه الله من مثل تلك المواقف التي تذكرنا بمواقفَ عظيمة وقفها من قبله علماء كرام وأئمة أجلاء كأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم .

(المصدر: صفحة د. عبد الآخر حماد على الفيسبوك)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى