الشيخ محمود شلتوت الذي أضاء النور الأزهر في الليل الشيوعي
بقلم د. محمد الجوادي
كان الشيخ محمود شلتوت قطعة صخر مصرية بديعة التكوين منحوتة بتوفيق إلهي من قمة جبل الجرانيت الأزهري القادر رغم رسوخه على أن يتخطى الزمن الحاضر مستعينا بالماضي الزاهر، وكان هو النموذج الأمثل لمن يجعلون التراث طاقة دافعة حين يُجمع معاصروهم على الاقتناع بأن التراث عبء، وأنه لابد من التخلص منه، وكان بالإضافة إلى هذا عالما واسع الأفق قادرا على أن يصور الخلاف نعمة وأن يسعى وراء الاعتراف بالخلاف ومناقشته من أجل التقريب لا من أجل الزعم بالتصويب، وكانت مكانته العلمية التي ترسخت في عهد الليبرالية قد أعطته من قوة الاسم نفوذا فكريا خدم قضية الهوية، فقد كان عضوا في مجمع اللغة العربية، وعضوا في هيئة كبار العلماء، وصاحب مواقع علمية متقدمة من قبل قيام ثورة 1952، كما أنه بلغة السوق الحر أثبت ذاته حين ترك الوظيفة وعمل بالمحاماة فلمع اسمه، ولهذا فقد كان توليه المشيخة بمثابة تحصيل حاصل في ذلك العصر الذي أُنفذ فيه التعديل المستفز الذي أدخلته ثورة يوليو على قانون هيئة / جماعة كبار العلماء واشترطت فيه حدا أقصى لسن عضويتها وبهذا التعديل أخرجت الثورة أبرز كبار العلماء من عضويتها، وكان منهم ثلاثة من شيوخ الأزهر السابقين، ومع هذا فإن الثورة من باب استمرارها في التنغيص على الأزهريين اختارت للمشيخة شيخا أزهريا سُوربونيا كان يعمل في ذلك الوقت أستاذا في كلية حقوق عين شمس، وهو الشيخ الدكتور عبد الرحمن تاج، لكنها لم تجد فرصة لمواصلة التنغيص فأقرت للشيخ شلتوت بمنصب الوكالة، وكان من الطبيعي أن تؤول المشيخة للشيخ شلتوت مع أول فرصة يتم فيها تنصيب الشيخ الدكتور عبد الرحمن تاج في منصب آخر، وهو ما حدث حينما عين وزيرا في دولة اتحاد الدول العربية التي تطورت أو نشأت ورقيا بضم اليمن إلى وحدة مصر وسوريا، وهكذا أصبح الشيخ شلتوت شيخا للأزهر (1958)، وهو في الخامسة والستين، وإلى أن توفي وهو في السبعين، وكانت وفاته نتيجة حتمية لما مر به من تجاوز وتحرش وظلم وقهر وكمد ونكد وتضييق وتنغيص وقد قاده كل هذا إلى المرض ثم إلى تكراره ثم إلى اشتداده ثم إلى أزماته ثم إلى وفاته.
صادفت مشيخة الشيخ شلتوت للأزهر إقالة الشيخ أحمد حسن الباقوري من منصب وزير الأوقاف، في فبراير 1959 أي بعد شهور قليلة من متولي الشيخ شلتوت للمشيخة، وهكذا فإن الوجود الأزهري في مقدمة الحياة العامة والسياسية لم ينقطع بغياب الشيخ الباقوري عن الصورة، وإنما اتخذ صورة أخرى من صور العظمة الأزهرية المستمدة من عظمة الإسلام، فإذا كان الشيخ الباقوري رمزا لما تشترك فيه الفكرة الإخوانية مع الفكرة الشيوعية من الانتصار للأممية على الفكرة القومية أو الوطنية، فقد كانت للشيخ شلتوت أطروحته الأقوى في توسيع فكرة الانتماء والولاء الإسلامي لتتجاوز محنة التفريق بين أهل السنة والشيعة، ومن باب أولى لتحقق القضاء على عقلية الشقاق المذهبي، ومن الحق أن نقول إن الشيخ شلتوت حقق في هذا الصدد ما لم يُلحق فيه حتى الآن، وإن كان من المفهوم بالطبع انه وجه ضربات علمية ودينية غير مباشرة إلى التجليات السياسية المرتبطة بما يسمى عقيدة البراء عند بعض طوائف المسلمين، مع هذا كله وعلى المستوى الشكلي فإن الشيخ محمود شلتوت هو أول من لقب بلقب الإمام الأكبر، بعد أن صدر قانون التطوير (1961) ونص على هذا، كما أنه هو شيخ الأزهر الوحيد الذي توفي وهو في منصبه بين من تولوا المنصب في عهد الثورة الأول ورئاسة الرئيس عبد الناصر، فقد استقال سلفاه الجليلان الشيخان عبد المجيد سليم ومحمد الخضر حسين، وأبعد الشيخ عبد الرحمن تاج بأن عين وزيرا اتحاديا، وأستقال خلفه الشيخ حسن مأمون بناء على طلب الدولة.
حين طلب مني أن أعرف به على طريقة الموسوعات الغربية، فقد كتبت إنه واحد من أبرز علماء الدين الإسلامي والمعارف المتصلة به في القرن العشرين، جمع التفوق والألمعية والحضور والدأب والنفوذ، وعرف على أنه فقيه واسع الأفق، ومفسر واسع الاطلاع، حارب الجمود والعصبية المذهبية إلى حد أن وصفها (محذرا) بأنها جعلت المذاهب الإسلامية أقرب إلى أن تكون أديانا، كما حارب فكرة سد باب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، واعتبرها حبسا للعقول، وتعطيلا لكتاب الله، ومجافاة لنصوصه الداعية إلى البحث والنظر، ظهرت آراؤه الإصلاحية منذ شبابه الباكر في نهاية الربع الأول من القرن العشرين، وظل متمسكا بنهج الإصلاح ومنهج الاجتهاد حتى وفاته. ويقتضيني الإنصاف أن أشير إلى حقيقة مهمة وهي أنه لولا ما كتبه أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي عن تاريخ الشيخ محمود شلتوت ما كان في وسعنا أن نكتب هذه الدراسة، ولا ما سبق لنا كتابته عن هذا الإمام العظيم.
وإذا جاز أن لكل عالم من أعلام الأزهر وشيوخه إمامة عبقرية وبارزة وساطعة في ميدان من الميادين، متفوقا به على غيره، فقد تميز الشيخ محمود شلتوت بأنه إمام التقريب، مع أن سلفه غير المباشر الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم كان هو رائده في هذه الدعوة، لكن الشيخ شلتوت كان هو من مضى بالفكرة خطوات واسعة وواثقة، ذلك أنه يُذكر له أنه عندما كان شيخًا للأزهر أصدر فتواه بجواز التعبد على المذهب الفقهي للشيعة الإمامية، وهو المذهب الجعفري، كسائر مذاهب أهل السنّة، وقال في هذا المعنى: “ينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته تابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات”.
ومن المعروف أنه في عهد الشيخ محمود شلتوت تم إصدار الموسوعة الفقهية معتمدة المذاهب الفقهية الإسلامية الثمانية: الحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي، والجعفري، والزيدي، والإباضي، والظاهري، لمع اسم الشيخ محمود شلتوت في مجال الفتوى والعلوم الإسلامية منذ مرحلة مبكرة، والحق أنه ظل محتفظا باللمعان حتى وفاته فجأة وهو شيخ للأزهر، وكان حين توفي ألمع علماء عصره بلا جدال، ويذكر له أنه لم يغفل قضية فقهية من قضايا عصره دون أن يصدر رأيه فيها، إنه كان مصدرا رفيعا من مصادر الفتوى في كثير من شؤون الفقه ومسائله. كان الشيخ محمود شلتوت في شبابه يضع نفسه بعلمه في صف أساتذته الكبار، حتى زاملهم مزاملة الكفء للكفء، وقد نال من التقدير العلمي المبكر ما توازى مع كفايته وشهرته بعد ذلك.
وقد مارس الشيخ محمود شلتوت الإمامة الحقيقية للمسلمين في أثناء قيامه على أمر الأزهر وكيلا وشيخا، وقد قام برحلات علمية إلى مختلف البلاد الإسلامية زائرا وداعيا إلى الائتلاف، فلمس من أحوال المسلمين ما دعاه إلى العمل على التأكيد على تقرير تدريس اللغات الأجنبية بالأزهر، ليبعث من طلابه مَنْ يصلحون لمخاطبة المسلمين في كل مكان، ومن البلاد التي زارها: إندونيسيا، والملايو، والفلبين، وهونج كونج.
ولد الشيخ محمود شلتوت بمنية بني منصور مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة (1893)، وحفظ القرآن الكريم ثم التحق بمعهد الإسكندرية الديني (1906)، وكان معهد الإسكندرية في ذلك الوقت قد تطور وارتقى بحيث أصبح (من الناحية الإدارية والتعليمية والجامعية) بمثابة جامعة أزهرية موازية للأزهر في القاهرة، بادئا أول تجربة حقيقية في الجامعات الإقليمية في مصر، وهي التجربة التي أدعو الله سبحانه وتعالى أن يمد في عمري حتى أكمل دراستي عنها وأنشرها إن شاء الله، وفي هذا المعهد شهد الشيخ محمود شلتوت عهد الشيخ محمد شاكر شيخ علماء الإسكندرية بكل ما تميز به هذا العهد الزاهر، وكان في جميع سنواته أول الناجحين، ونال الشيخ محمود شلتوت الشهادة العالمية النظامية (1918) وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وفي العالمية كان أول الناجحين كما كان كذلك في سنى دراسته من قبل أيضا.
عين الشيخ محمود شلتوت مدرسا بمعهد الإسكندرية الديني في العام التالي مباشرة لتخرجه (1919). ولما قامت ثورة 1919 بدأ نشاط الشيخ محمود شلتوت الوطني في الظهور، وشارك في الثورة بإخلاص وحماسة، كما شارك في جمع التبرعات لأسر المعتقلين، وكانت الإسكندرية يومئذ بمثابة موطن اعتقال للقاهريين، كما كانت القاهرة محلا لاعتقال أبناء الأقاليم، لمع نشاط الشيخ محمود شلتوت العلمي في الإسكندرية، وبدأ يعرف طريقه إلى المجتمع والصحافة، وامتدّ نشاطه العلمي إلى كل ما يتصل بعلوم الدين من فقه وتفسير وحديث.
ولما عين الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخا للأزهر للمرة الأولى (1928) أحس الشيخ محمود شلتوت بأن هذا العصر هو عصره، وأن المنهج منهجه، فعمل بكل ما يملك على استيعاب فكر الشيخ محمد مصطفى المراغي والدعوة له، وأهله حضوره ونشاطه لأن ينقل في عهد مشيخة الشيخ محمد مصطفى المراغي للأزهر مدِّرسا في القسم العالي بالقاهرة، حيث تولى تدريس الفقه الإسلامي في أقسام التخصص التي أنشئت في ذلك الوقت، أي أنه كان في ذلك العصر المتفتح يشغل، وهو لايزال في شبابه، ما يُسمى في الجامعات الكبرى بوظيفة أستاذ الدراسات العليا.
وقد اختاره الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي لتدريس أصول الفقه في القسم العالي بالأزهر، على الرغم من أن تدريس الأصول كان وقفا على العلماء الكبار القدامى، وكان الشيخ محمود شلتوت جديرا بما أسند إليه، وكان من تلاميذه بالقسم العالي كثيرون انبهروا بعلمه الراسخ، وشجاعته الفكرية، وقد كان من تلاميذه في هذه الفترة الأستاذ الأكبر الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود.
عمل الشيخ محمود شلتوت منذ عهد الشيخ محمد مصطفى المراغي الأول (1928-1929) كما ذكرنا أستاذا في قسم التخصص مدرسا للفقه الإسلامي، ولم تكن هذه هي كل علاقته بالشيخ محمد مصطفى المراغي وفكره، فقد عكف على دراسة آراء الشيخ محمد مصطفى المراغي في المذكرة التفصيلية الخاصة بقانون الأحوال الشخصية وشؤون الأسرة، وهي المذكرة التي تضمنت من الآراء الفقهية ما لم يقف عند حدود المذاهب الأربعة، بل تعدت هذا الأفق إلى شتى الآراء في المذاهب المختلفة لكبار الفقهاء في الإسلام، وقد أثرت هذه المشاركة في فكره الفقهي تأثيرا واسع المدى وجعلته أقرب إلى التسامح المذهبي، ومنذ ذلك الحين أخذ الشيخ محمود شلتوت يكتب في الفقه الإسلامي بروح مختلفة عن الروح الشائعة، فلم يتقيد بالفقه الحنفي الذي درسه في الأزهر، واتخذه مذهبا له على حسب نظام التعليم الأزهري، ولم يقتصر على المذاهب الثلاثة الأخرى، بل جعل كل رأي إسلامي موضع النظر.
وهكذا درس الشيخ محمود شلتوت فقه زيد بن علي، وجعفر الصادق، وابن حزم، وابن تيمية، وتلميذه ابن القيم. وهكذا مرة ثانية فإنه على الرغم من أنه لم يكن من تلاميذ الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي المباشرين، فإنه كان، فيما ظهر من حياته، امتدادا ذكيا له كما بدا علما واعدًا في ميدان تطور وتطوير التشريع، وهكذا مرة ثالثة ومنذ مرحلة مبكرة، استقرت في الوجدان الأزهري والثقافي (وفي الذاكرة الصحفية والشعبية كذلك) صورة الشيخ محمود شلتوت على أنه من مؤيدي أفكار الشيخ محمد مصطفى المراغي ومنهجه في إصلاح الأزهر، ولم يكن هذا من فراغ فقد كان الشيخ محمود شلتوت قد أيد الشيخ محمد مصطفى المراغي بعدة مقالات نشرت في جريدة «السياسة» اليومية.
وعندما استقال الشيخ محمد مصطفى المراغي بعد المعارضة القوية لحركته الإصلاحية، كان من الطبيعي أن يغضب الشيخ محمود شلتوت بسبب إبعاد الشيخ محمد مصطفى المراغي عن مشيخة الأزهر، وأن يزداد غضبه حين يرى النظرة إلى الفقه الإسلامي لا تزال في حيزها الضيق، وهذا ما دفعه إلى المناداة في مقالاته بضرورة الالتزام بما نودى به من قبل، وإلى أن يقود حملة صادقة تطالب بتطوير تدريس الفقه، وكان من الطبيعي أن يضيق به الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الأحمدي الظواهر، وتصاعدت الأمور حتى فصل الشيخ محمود شلتوت من منصبه في عهد الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، ضمن من فصلوا من كبار العلماء السبعين، فعمل بالمحاماة أمام المحاكم الشرعية، وسرعان ما حقق الشيخ محمود شلتوت ذاته في ممارسة المحاماة الشرعية، فضلا عما أتيح له من أن يدرس أحوال الأسرة دراسة ميدانية، حيث ألم بتفصيلات مسائل الزواج والطلاق والميراث والنفقة على طبيعتها الحية بين المتخاصمين، وراجع ما كتبه الفقهاء مراجعة مَنْ ينشد استقرار الأسرة الإسلامية في ضوء التشريع الصحيح.
ولما انتهت فترة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري (1929 ـ 1935) وعاد الشيخ محمد مصطفى المراغي إلى المشيخة عاد الشيخ محمود شلتوت إلى العمل مدرسا بكلية الشريعة (فبراير 1935)، فاختار لنفسه أن يدرس مادة جديدة لم تكن مقررة من قبل، هي مادة الفقه المقارن، وفي ذلك الوقت المبكر كان ميدان بحوثه هو المقارنة على المذاهب الأربعة وحدها، وكان أول مَنْ بدأ تدريس الفقه المقارن في الأزهر، وقد أصدر مع الأستاذ محمد على السايس كتابا في الفقه المقارن. وقد ارتقى الشيخ شتوت في الوظائف حتى عين وكيلا لكلية الشريعة، ثم مفتشا بالمعاهد الدينية.
كان الشيخ محمود شلتوت، من قبل هذا في طليعة المنادين بالتجديد والإصلاح في الأزهر، ويعده مؤرخو هذه الحقبة ومعاصروها من ألمع الناشئين في مدرسة الشيخ محمد عبده، وذلك على الرغم من أنه لم يلتحق بالأزهر إلا بعد وفاة الأستاذ الإمام بعام، لكنه اتصل اتصالا مباشرًا باثنين من أنجب تلاميذ الإمام محمد عبده هما الشيخ الأكبر والمفتي الأكبر: شيخ الأزهر: الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، والأستاذ الأكبر المفتي الشيخ عبد المجيد سليم. ويعد الشيخ محمود شلتوت في نظر الكثيرين من أبناء الأزهر بمثابة حامل راية الإصلاح والتجديد من بعدهما.
طالب الشيخ محمود شلتوت منذ مرحلة مبكرة بأن يعاد النظر في مناهج الأزهر وكتبه حتى تعبر تلك الكتب والمناهج عن النهضة الحديثة، وقد ظل الشيخ محمود شلتوت على ما عهد فيه من روح الثورة والرغبة في التقدم، حتى إنه يذكر له أنه كان واحدا من الثائرين على تباطؤ الشيخ محمد مصطفى المراغي نفسه في الإصلاح بعد عودته إلى الأزهر (1935)، وكان شلتوت، فيما يرويه أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي، عضوا فيما سمي بجماعة الشيخ عبد المجيد سليم (التي ضمت الدكتور محمد البهي، والشيخ محمد محمد المدني، والشيخ عبد العزيز عيسي)، وقد شنت هذه الجماعة حملة على الشيخ محمد مصطفى المراغي لتباطئه في الإصلاح، وقد بدأ الشيخ محمود شلتوت الدعوة إلى الإصلاح في جماعة كبار العلماء بمحاضرة صريحة ألقاها في كلية الشريعة تحت عنوان «السياسة العلمية التوجيهية للأزهر» أثنى فيها على المذكرة الإصلاحية ولخص ما قرره أستاذه الإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي من ضروب الإصلاح، وانتهى إلى أن أمدا طويلا قد مر على الأستاذ الأكبر دون أن يأخذ بما يرى:
• “فلم تزل كتب الأزهر هي الكتب المعقدة التي تنحو في التأليف منحي عسيرا لا يسهل على القارئ اجتيازه إلا بشرح الألفاظ، وإرجاع الضمائر، وشغل الأفهام بصحيح العبارة، وكأنها هدف لذاتها دون ما تقصد إليه من معنى ضاع في ضباب الصياغة”.
•”ولم نزل نشغل أنفسنا بالفروض الفقهية المستحيلة كما اشتغل بها فقهاء العصر المملوكي”.
•”ولم تزل الإسرائيليات ذائعة تملأ كتب التفسير التي تدرس بالأزهر “.
•”ولم يزل الطلاب يمتحنون في المقروء فحسب، دون أن يتموا المنهج، وهم لا يقطعون من الزمن الدراسي في العام الطويل غير أربعة أشهر إن لم تقل!”.
” وإن ذلك كله يدل على أن الإصلاح المدون في مذكرة الأستاذ الأكبر قد تجمد ولم ينطلق”.
وهكذا واجه الشيخ محمود شلتوت كبار المسؤولين الأزهريين مواجهة خطيرة بعد أن أذاع مذكرته وطبعها وبعث بها إلى الجرائد والصحف، فنقلت خلاصتها، واضطر بعض أنصار الشيخ محمد مصطفى المراغي أن يهاجموها، وأن يقولوا إن خطوات الإصلاح تسير بنجاح، ومع مطلع الخمسينيات عين الشيخ محمود شلتوت مراقبا عاما للبحوث والثقافة الإسلامية بالأزهر (1950)، وهو المنصب الموازي لمنصب شبيه تماما استحدث في وزارة المعارف، وكان نواة لوزارة الثقافة فيما بعد، ويذكر للشيخ الشيخ محمود شلتوت أنه وضع أول خطة منهجية لعمل هذه المراقبة بما يخدم علاقات مصر الثقافية مع العالمين العربي والإسلامي وغيرهما.
بعد الثورة بفترة عين الشيخ محمود شلتوت مستشارا في المؤتمر الإسلامي الذي كان الرئيس أنور السادات رئيسا له. ومن خلال هذا الموقع أتيحت له الفرصة لأن يشارك في اجتماعات أسبوعية مع علماء من بلاد الإسلام، وأن يتعامل تعاملا مباشرا وتنفيذيا مع بعض قادة الثورة ومسؤولي العهد الجديد، وقد عين الشيخ محمود شلتوت وكيلا للجامع الأزهر في عهد مشيخة الدكتور الشيخ عبد الرحمن تاج، وكانت بعض الصحف المتصلة بالحركات والتجمعات الإسلامية ترى الوضع مقلوبا، وترى الشيخ محمود شلتوت أولى بالمشيخة من الدكتور عبد الرحمن تاج، ومن الطريف أن الأستاذ الأكبر الدكتور تاج نفسه عين شيخا خلفا للأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين حين رأت الثورة ألا يكون شيخ الأزهر نفسه فوق السن القانونية للتقاعد، وهكذا أتيح للشيخ عبد الرحمن تاج المولود (1896) أن يخلف مباشرة من كان يكبره بعقدين من الزمان، فقد كان الشيخ محمد الخضر حسين من مواليد 1877.
جاء الشيخ محمود شلتوت إلى المشيخة في 13 من أكتوبر 1958، وقد صدر في عهده قانون تطوير الأزهر المعروف بالقانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها، وبعد صدور هذا القانون أصبح الشيخ محمود شلتوت أول حامل للقب الإمام الأكبر، بناء على نص القانون الجديد، كما أصبح عضوا ورئيسا لمجمع البحوث الإسلامية، وشاءت الأقدار ألا يحضر افتتاح جلسات ذلك المجمع بسبب وفاته المفاجئة، وإلى الشيخ محمود شلتوت يرجع الفضل في نشر تعليم الفتاة في الأزهر، وهو الذي بدأ سياسة إنشاء معاهد الفتيات الأزهرية، وكلية البنات الإسلامية، أو فلنقل من باب الاحتياط وحفظ حقوق الآخرين: إن ذلك قد تم بتوجيهه ومسعاه، وقد دب أكثر من خلاف بينه وبين الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف وشؤون الأزهر (وقد كان تلميذا له على نحو ما روى هو نفسه في مذكراته التي تدارسناها في كتابنا: العيش في العاصفة) في تطبيق القانون الجديد للأزهر، وكان هذا أمر طبيعيا ومتوقعاً.
ننتقل من نشاط الشيخ محمود شلتوت التعليمي والتنفيذي إلى نشاطه وفكره الفقهي، ومن الحقّ أن نبدأ فنقول: إنه كان محظوظا كما كان أيضا مستحقا للحظ. ففي الثلاثينيات كان من حظ الشيخ محمود شلتوت أن اتصل مبكرا بالمجتمع العلمي الدولي، حيث اختير مع الشيخ عبد الرحمن حسن وكيل الأزهر ليمثلا الأزهر سنة 1937 في مؤتمر لاهاي العالمي لدراسة القانون الدولي المقارن، وهو المؤتمر الذي حضره عدد من أبرز الفقهاء والأصوليين في جميع أنحاء العالم، ليتدارسوا ما يحبذونه من الأفكار القانونية، ومما يذكر أن الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم، وكان أستاذا بكلية الحقوق، كان هو الذي مثل الجامعة المصرية في هذا المؤتمر. وقد قدم الشيخ محمود شلتوت في هذا المؤتمر بحثا ضافيا تحت عنوان «المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية» موضحا معني المسؤولية في الإسلام، وشارحا نصوص الفقهاء في الضمان والتعويض، ومستشهدا بنصوص القرآن والسنّة في تحديد المسؤولية، وقد امتد بها الإسلام بحيث تشمل:
– مسؤولية الطبيب عن مريضه، ومسؤولية مَنْ يقصر عن إغاثة الملهوف.
– ومسؤولية صاحب الحيوان حين يتلف زرعا مملوكا لغير صاحبه.
– ومسؤولية المسلم أمام إتلاف محترزات غيره التي يحرّمها الإسلام كالخمر ولحم الخنزير، موضحا المراد من قول الفقهاء: حقوق الله، وحقوق العباد.
– المسؤولية الناشئة عن مخالفة العقد، والاستيلاء القهري مما عُرف في الفقه باسم الغصب
– تحقق السببية بين الفعل والضرر، مقسما التسبب إلى إيجابي وسلبي، والتسبب الإيجابي واضح معروف، أما التسبب السلبي فقد فسر الشيخ غامضه بأمثلة ونصوص ذات إقناع.
– المسؤولية الجنائية، والحدود في الإسلام مقدمًا حديثا جمع من نصوص الفقهاء ما كان غائبا عن الكثيرين حتى من ذوي التخصص أنفسهم.
أوصي الشيخ محمود شلتوت في نهاية بحثه بحرية الفقهاء: “إن الشريعة الإسلامية لم تقيد الفقهاء، بعد أصولها الكلية، بخطة معينة في البحث، وإنما فوضت لهم الرأي والاعتماد على ما يقدرون من مصالح وواجبات في العصور المختلفة والبلدان المتباينة”.
وكانت نتيجة الاقتناع بهذا البحث أن قرر المؤتمر بإجماع أعضائه اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع الحديث، مع الاعتراف بصلاحيتها للتطور، كما قرر المؤتمر أن تكون اللغة العربية ـ لغة الشريعة الإسلامية ـ إحدى لغات المؤتمر في دوراته المقبلة، وأن يدعى إليه أكبر عدد من علماء الإسلام على اختلاف المذاهب والأقاليم، ومع مطلع الأربعينيات اختير الشيخ محمود شلتوت عضوا في جماعة كبار العلماء (1941) برسالة عن “المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية” وهي الرسالة التي كانت نواتها من قبل بمثابة موضوع إسهامه من قبل في مؤتمر القانون الدولي، وقد نال الشيخ محمود شلتوت هذه العضوية وهو في الثامنة والأربعين من عمره، سابقا بذلك كثيرا من علماء عصره الذين لم ينشغلوا بنيل هذه العضوية إلا بعدها بسنوات، ومن هؤلاء على سبيل المثال الأستاذ محمد الخضر حسين الذي نالها بعده بسنوات.
كان الشيخ محمود شلتوت فقيها مجتهدا صاحب رأي، وكانت له فتاوى جريئة في المعاملات المالية لم تكن قد صيغت بهذا الوضوح لدي الفقهاء السابقين، وكان له رأيه محدد في الربا والسندات والأسهم، وعلى سبيل المثال فقد أفتى بجواز الأرباح المحددة بنسب للأسهم في الشركات التعاونية، وقال: “إن هذه الشركات تعد نوعا جديدا من الشركة أحدثه أهل التفكير في طرق الاقتصاد والاستثمار، وليس فيه ظلم لأحد، أو استغلال لحاجة أحد”.
وهكذا أباح الشيخ محمود شلتوت الأرباح المحددة التي تدفعها مصلحة البريد لأصحاب الأموال المودعة لديها في صناديق التوفير، ورأي أن هذا الربح لا يعد من الربا المحرم: “فقد قصد بهذا الإيداع حفظ مال المودع من الضياع، وتعويد نفسه على التوفير والاقتصاد من ناحية، ومن ناحية أخرى قصد به إمداد المصلحة بزيادة رأس مالها ليتسع نطاق معاملاتها وتكثر أرباحها فينتفع العمال والموظفون، وتنتفع الحكومة بفائض الأرباح”.
وقد بين الشيخ محمود شلتوت أن الربا المحرم “هو الربا الذي حُدد بالعرف الذي نزل فيه القرآن، بالدين يكون لرجل على آخر فيطالبه به عند حلول أجله فيقول له الآخر: أخر دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك (وهو الربا أضعافا مضاعفة)، وهذا الصنيع لا يجري عادة إلا بين معدم غير واجد، وموسر يستغل حاجات الناس غير مكترث بشيء من معاني الرحمة المشروعة، فنهاهم الله عنه في الإسلام، وهذا النوع من الربا ينطوي على ظلم عظيم، واستغلال فاحش لحاجة الفقير”.
وكان الشيخ محمود شلتوت يقول إن الفقهاء السابقين (عليه) قد توسعوا كثيرا فيما يتناول الربا، ورأي كثير منهم أن الحرمة فيما يحرّمون تتناول المتعاقدين معا المقترض والمقرض، وإني أرى ـ الضمير للشيخ الشيخ محمود شلتوت ـ أن ضرورة المقترض وحاجته مما يرفع عنه إثم التعامل، لأنه مضطر أو في حكم المضطر، وقد صرح بذلك بعض الفقهاء فقالوا: «يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح، وإذا كان للأفراد ضرورة أو حاجة تبيح لهم هذه المعاملة فإن للأمة ضرورة أو حاجة كثيرا ما تدعو إلى الاقتراض بالربح، والإسلام الذي يبني أحكامه على قاعدة «اليسر ودفع الضرر» يعطي للأمة في شخص أفرادها وهيئاتها هذا الحق، ويبيح لها أن تقترض بالربح تحقيقا لتلك المصالح، «ولا يكون ذلك إلا بالقدر المحتاج إليه، ولدفع الضرورة والحاجة، ولا يكون قرضا إلا من جهة لا تضمر استغلالنا».
ومن الجدير بالذكر أن الشيخ محمود شلتوت كان يوافق في رأيه بعض أسلافه ومنهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبد الوهاب خلاف، لكن الشيخ محمد أبو زهرة كان يعارضه في رأيه، وكان يحمل عليه حملة شعواء، وكان الشيخ محمود شلتوت يفرق في الحكم الشرعي بين الأسهم والسندات، حيث كان يرى أن الأسهم من «الشركات» التي أباحها الإسلام باسم المضاربة، وهي التي تتبع الأسهم فيها ربح الشركة وخسارتها، أما السندات وهي القرض بفائدة معينة فإنها لا تتبع الربح والخسارة، فالإسلام لا يبيحها إلا حيث دعت إليها الضرورة الواضحة التي تفوق أضرارها.
اختير الشيخ محمود شلتوت لعضوية مجمع اللغة العربية ضمن عشرة من الأعضاء الجدد المعينين (1946)، وكان من أصغر الأعضاء سنا. وكان له جهد وافر في نشاط مجمع اللغة العربية مثل: مشاركته في لجنة القانون والاقتصاد، ولجنة للنظر في المصطلحات المتشابهة التي تستعمل في أكثر من علم، ولجنة لدراسة النحت، ولجنة ألفاظ الحضارة، ولجنة الأدب، ولجنة معجم ألفاظ القرآن الكريم، كما ألقي عدة بحوث وكلمات منها كلمة قيمة في تأبين الشيخ عبد الوهاب خلاف، وفي هيئة كبار العلماء بدأ الشيخ محمود شلتوت كفاحه (وعضويته أيضا) بتقديم اقتراح جوهري يبعث في هذه الجماعة فيضا من النشاط العقلي والحركة العلمية، ويحدد لها مناهج من العمل الدائب المستمر، وقد لخص الدكتور محمد رجب البيومي خطة الشيخ محمود شلتوت لبث الروح في جماعة كبار العلماء فيما يلي:
“أن يكون لجماعة كبار العلماء مكتب علمي دائم، وأن يجعل لهذا المكتب مكان معين معروف، شأن كل هيئة رسمية من الهيئات التي تعمل لأغراض خاصة”.
أما مهمة هذا المكتب بعد إنشائه فهي ما يلي:
(أ) معرفة ما تُهاجم به الأديان عامة، والدين الإسلامي في عصرنا الحاضر، والرد عليه ردا كافيا مقنعا بأسلوب ملائم لطريقة البحث الحديث.
(ب) بحث ما يحصل فيه الاختلاف بين علماء العصر من جهة أنه بدعة يجب تركها أو ليس كذلك، ووضع الأصول الكفيلة بتمييز ما هو بدعة مما ليس بدعة، والعمل على نشر ذلك ليرجع إليه الناس.
(جـ) العمل على وضع مؤلف يحتوي على بيان ما في الكتب المتداولة من الإسرائيليات التي دُست على التفسير، وأخذها الناس على أنها من معاني القرآن، والتي لا يدل على صحتها نقل، ولا يؤيدها عقل.
(د) إصدار الفتاوى في الاستفتاءات التي ترد من المسلمين في جميع الأقطار، إلى مشيخة الجامع الأزهر.
(هـ) بحث المعاملات التي جدت وتجد في العصر الحاضر من جهة حكم الشريعة فيها، حتى يظهر للناس سعة صدر الشريعة وقدرتها على تلبية حاجات الناس في مختلف العصور.
(و) تنظيم طرق الوعظ والإرشاد، والاتصال بالهيئات المعدة لذلك، كوزارة الشؤون الاجتماعية، والجمعيات الإسلامية في مختلف الأقطار.
(ز) التنقيب عن الكتب المفيدة في مختلف العلوم، والعمل على إحيائها وإخراجها إخراجا علميا متقنا.
(حـ) الإشراف على مجلة الأزهر، والعمل على توجيهها في طريق تخدم به الحركة الفكرية الإسلامية، وتبرز به ثقافات الكليات الثلاث.
ويروي الدكتور محمد رجب البيومي أن لجنة برئاسة الشيخ عبد المجيد سليم قد تشكلت لدراسة اقتراح الشيخ شلتوت، لكن الدراسة لم تنته إلى خطوات إيجابية. وظل الشيخ محمود شلتوت حريصا على تنفيذ أفكاره حتى أصبح شيخا للأزهر، فعمل على إنشاء ما سمي بمجمع البحوث الإسلامية، وهو الصورة التي آلت إليها جماعة كبار العلماء، ليعطي الصورة القوية التي أرادها لهيئة كبار العلماء، فضلا عن توسيع عضوية المجمع، كي تشمل غير الأزهريين من أعلام الدين في العالم الإسلامي جميعه. ويبدو لي، والله أعلم، أن الشيخ شلتوتا استحضر في ذهنه صورة مجمع اللغة العربية الذي كان عضوا فيه منذ 1946 حين أنجز تحويل جماعة كبار العلماء إلى مجمع للبحوث الإسلامية.
وقد ظل الشيخ محمود شلتوت يدعو إلى الحرية المذهبية الصحيحة المستقيمة على نهج الإسلام، وكان يرفض العصبية الضيقة، والتعصب الأعمى لمذاهب فقهية معينة، وكان الشيخ محمود شلتوت يتطلع إلى تحقيق هذه الوحدة من خلال فكرة التقريب بين المذاهب، وكان له نشاطه المتصل والمشهور في «جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية»، وكان يؤمن أن هذه الدعوة هي «دعوة التوحيد والوحدة، هي دعوة الإسلام والسلام وقد كان يقول : «لقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج قويم، وأسهمت منذ أول يوم في جماعتها، وفي وجوه نشاط دارها بأمور كثيرة»، ومن الجدير بالذكر أن جماعة ـ تقريب بين المذاهب ـ كانت قد تألفت برياسة الزعيم الوطني والسياسي المخضرم محمد على علوبة باشا، وبتأييد الأستاذ الأكبر الإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ الأكبر الإمام الشيخ عبد المجيد سليم، والأستاذ الأكبر الإمام الشيخ مصطفي عبد الرازق، وقد دعت في برنامجها إلى نبذ الخلاف وتلافي الشقاق، وأكدت أن القرآن الكريم والسنّة المطهرة هما أساس الدين، فبهما تقررت قواعده، وإليهما يرجع المسلمون في كل شأن من شؤون الحياة.
وكان من نصيب الشيخ محمود شلتوت أن يقوم بالدعوة إلى الجماعة محاضرا وكاتبا، وخطيبا، ومع ما عرف عن الشيخ من ميل إلى التقريب، فقد تعرض لهجوم الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفي صبري شيخ الإسلام في الخلافة العثمانية عن فتواه فيما يتعلق بالمسيح، وكانت فتوى الشيخ محمود شلتوت فيما يتعلق بحكم مَنْ أنكر أن عيسى قد رُفع بجسمه إلى السماء، وأنه فيها حي إلى الآن، وأنه سينزل منها آخر الزمان، وكان الشيخ محمود شلتوت يرى أن مَنْ أنكر هذا لا يكون منكرا لما ثبت بالدليل القطعي، فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه، ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة، بل هو مسلم مؤمن ولا شبهة في إيمانه عند الله، أما الشيخ مصطفي صبري فقال: إن هذه الفتوى كتبت بروح قاديانية، وأن المسلمين في الهند سيحزنون لمَنْ ينصر القاديانية عليهم.
يأتي تفسير الشيخ محمود شلتوت للقرآن الكريم في مقدمة الآثار العلمية للشيخ، وهو تفسير من نوع مختلف عن كتب التفسير الكلاسيكية إذ لم يسلك الشيخ فيه مسلك التفاسير التي تفسر القرآن آية آية، وإنما حرص على أن يكون تفسيره تفسيرا عاما يلجأ إلى إبراز جوهر كل سورة وما تهدف إليه، مفصلا القول في بيان أبرز القضايا التي اشتملت عليها السورة، ومن الطريف أن الشيخ محمود شلتوت نشر تفسيره لكتاب الله من خلال جماعة التقريب، حيث نشر التفسير في حلقات متوالية على صفحات مجلة «رسالة الإسلام» وهي المجلة التي كانت لسان حال جماعة التقريب.
وقد حرص الشيخ محمود شلتوت في تفسيره للقرآن على أن يكون تفسيره مسايرا لجماعة التقريب في طرح الخلافات المذهبية، التي حملت حملا باطلا على كتاب الله، بأن يكون التفسير تفسير المسلمين جميعا، لا يتعصب لمذهب فقهي، ولا يميل إلى لون خاص من ألوان السياسة أو العقيدة الكلامية، كما ينجو من سطوات العلوم اللسانية من نحو وبلاغة، والعقلية من فلسفة ومنطق، ليجيء وضيء الدلالة، وقد اختص مشكلات عصره بمزيد من التحليل، دل على إيمانه بضرورة نزول الفقهاء والعلماء إلى الجمهور». وقد جمعت الفصول التي كتبها الشيخ في التفسير بعد فترة في مجلد واحد بعنوان «تفسير القرآن الكريم» شمل ثلث القرآن فقط أي الأجزاء العشرة من القرآن الكريم فقط.
وقد دعا الشيخ محمود شلتوت في تفسيره للقرآن الكريم إلى ضرورة تجنب أمرين في التفسير وقع فيهما الكثيرون، وكان ينبغي أن يظل القرآن بعيدا عنهما:
– الأمر الأول هو استخدام آيات القرآن لتأييد الفرق والمذاهب في المجتمع الإسلامي، والتنافس في العصبيات السياسية والمذهبية، حيث امتدت توجهات أصحاب الفرق المختلفة لتصبغ تفسير آيات القرآن وتأويلها بما يتوافق مع مذاهبهم، أو يخرجونها عن بيانها الواضح لكيلا تصلح لمذاهب خصومهم، وبذلك جعلوا القرآن تابعا بعد أن كان متبوعا، ومحكوما عليه بعد أن كان حاكما.
– أما الأمر الثاني الذي كان الشيخ محمود شلتوت يطالب بالنأي عنه فهو استنباط العلوم الكونية والمعارف النظرية الحديثة من القرآن، وكان يرى أن هذا اتجاه خاطئ في تفسير القرآن لعدة أسباب.
أولها: أن القرآن أنزله الله ليكون كتاب هداية للناس، وليس كتابا يتحدث إليهم عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف.
وثانيها: أن هذا الاتجاه يحمل أصحابه والمغرمين به على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الإعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.
وثالثها: أنه يعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات، ولا القرار، ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غدا من الخرافات، فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها، وتحمل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفا حرجا في الدفاع عنه، وكان الشيخ محمود شلتوت يشير في هذا الصدد إلى حقيقة مهمة عبر عنها بقوله: «حسبنا أن القرآن لم يصادم ـ ولن يصادم ـ حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول».
حظيت مؤلفات الشيخ محمود شلتوت بالانتشار الواسع في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي، ولا تزال حتى الآن يعاد طبعها على الرغم من إهمال الناشرين لقيمتها، ويكفي أن نذكر بعضها وقد طبع للمرة السادسة عشرة. ومن أشهر هذه المؤلفات: «الإسلام عقيدة وشريعة»، و«من توجيهات الإسلام» وهو نفسه الكتاب الذي كان عنوانه الفرعي «تصحيح بعض المفاهيم الدينية.. توضيح موقف الإسلام من بعض المشاكل.. الأخلاق الإسلامية، ضروب من العبادات»، ومن حق القارئ علينا أن نعرفه بأشهر كتب الشيخ محمود شلتوت بعد أن تحدثنا فيما سبق عن تفسيره للقرآن الكريم:
-فأما أشهر كتبه على الإطلاق فهو «الإسلام عقيدة وشريعة» وفيه يتحدث الشيخ محمود شلتوت عن أصول الإسلام، في العقيدة والتشريع، فيتكلم عن ذات الله وصفاته، وعن القضاء والقدر وعالم الغيب، والجبر والاختيار، ثم عن طريق ثبوت العقيدة في كتاب الله، وعن السنّة ومكانتها في الإسلام عقيدة وتشريعا، وعن الإجماع وثبوت العقيدة، وقد جاء بالجديد فيما أفاض فيه من حديث الأسرة زواجا وطلاقا ونسلا وميراثا، ومن حديث المال والحدود والقصاص، والمسؤولية الجنائية والمدنية، ومن حديث أسس الدولة في الإسلام، ومكانة الشورى وأولي الأمر، والتكافل الاجتماعي، والعلاقات الدولية.
أما كتابه «الفتاوى» فيتضمن مجموعة كبيرة من فتاويه تتميز بطابع خاص، هو الإحساس القوي بالحياة اليومية وبأحداثها، والعمق في فهم الإسلام وتطبيق مبادئه.
أما كتابه «من توجيهات الإسلام» فقد عالج فيه بعض البحوث الإسلامية التي رأي أن يتناولها بتفصيل وتبسيط حتى تصل إلى كل قارئ.
وللشيخ الشيخ محمود شلتوت بالإضافة إلى هذه الكتب المشهورة عدد من المؤلفات والرسائل والمحاضرات في علوم الشريعة:
– فقه القرآن والسنّة
– يسألون
– حكم الشريعة في استبدال النقد بالهدي
– فصول شرعية اجتماعية
– حكم الشريعة الإسلامية في تنظيم النسل
– الإسلام والوجود الدولي للمسلمين
– القرآن والقتال
– تنظيم العلاقات الدولية في الإسلام
وله من المؤلفات في التعريف بالإسلام:
– «هذا هو الإسلام».
– «عنصر الخلود في الإسلام».
– «الدعوة المحمدية».
– «المقارنة بين المذاهب».
وله من المؤلفات في القضايا الاجتماعية:
– «القرآن والتكافل الاجتماعي».
– «منهج القرآن في بناء المجتمع».
– «القرآن والمرأة».
– «أحاديث الصباح».
وله أيضا بحوث أخرى أهمها:
– «المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية» وهو البحث الذي نال به عضوية جماعة كبار العلماء.
– «الإسلام والعلاقات الدولية في السلم والحرب».
وبالإضافة إلى هذا كله فإن للشيخ محمود شلتوت مجموعة من الأحاديث الإذاعية لا تزال تذاع حتى الآن، وقد تميز الشيخ محمود شلتوت في أحاديثه الإذاعية بالبيان الناصع، والقدرة على تبسيط الأفكار، وتناول الفلسفات تناولا سهلا حبب الناس في الاستماع إليه بصوته الجهوري المميز، ودفعهم إلى قراءة آثاره الفكرية.
يمكن لنا على سبيل الإجمال أن نقول إنه كان للشيخ محمود شلتوت نشاط واسع ومؤثر في الحياة الثقافية الدينية وقد شمل نشاطه المحاضرات التي كان يلقيها في المنتديات العامة، والأحاديث الإذاعية، والمقالات الكثيرة في الصحف والمجلات، وكانت محاضراته ومقالاته تشمل مختلف النواحي الدينية والاجتماعية. وقد كان الشيخ محمود شلتوت محل تقدير في العالم الإسلامي كله، وزار عددا من البلاد الإسلامية، ومنحته عدة دول الدكتوراه الفخرية، وأوسمة الشرف تقديرا لعلمه، وفضله، واعترافا بمنزلته الرفيعة، ومكانته السامية.
ويروى أن الرئيس الفلبينى وضع طائرته الخاصة وياوره الخاص تحت تصرف الشيخ محمود شلتوت طوال رحلة الشيخ إلى الفلبين أما الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا فقد أرسل إليه مندوبا يطمئن على صحته عندما مرض وزاره في منزله كما زاره أيضًا الرئيس العراقي عبد السلام عارف. ومنحته أربع جامعات في أربع دول درجة الدكتوراه الفخرية، ومنحته أكاديمية شيلى درجة الزمالة الفخرية، وأهدى له رئيس الكاميرون قلادة خاصة.
ونأتي إلى الجانب الذي صنعته التصورات والكتابات الصحفية عن الشيخ الجليل، وهو جانب لابد من مطالعة نموذج له لأنه يمثل نموذجًا لما تتطلبه الصحافة من أمثال الشيخ وطبقته من الفتاوى، تروي الأستاذة سناء البيسي أن الشيخ شلتوتا كان يثور على أصحاب سرادقات المآتم الذين يضعون الميكروفونات المتعددة لتجسيم صوت المقرئ بكيفية تثير أعصاب الأهالي، وتحرم المريض من السكون، والمتعب من الراحة، والطالب من استذكار دروسه، ولما قيل له: لماذا لا تكتب مقالا تهاجم فيه هذه العادات المزعجة؟ قال: «نحن الآن في عهد ملك طاغية، وحكومة مستبدة، فلو ظهر مثل هذا المقال فسوف تخرج صحف الحزب الحاكم لتقول: إن الشيخ محمود شلتوت يمنع تلاوة القرآن! ولا يبعد أن يصدق الناس ذلك، وقد أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نداري سفهاءنا، لا أن نقاتلهم!». ثم عاود الشيخ القول: «إني لأرثي للأموات أكثر من رثائي للأحياء، فما أحسب أحدا من الذين تزعجهم هذه الميكروفونات يقابل هذا الإزعاج بالترحم على المرحوم!».
كما تروى أنه “عندما خرج أذناب الملك فاروق على الناس بقصة نسبه الشريف المزعوم عن طريق أمه نازلي، قيل للشيخ شلتوت: كيف يسكت السادة العلماء وكبار علماء الدين عن هذه الكذبة الضخمة؟ فقال: «إن للدين ربا يحميه من الإفك والأفاكين، وقد رأينا في التاريخ حكاما ادعوا الألوهية، فذهبت ريحهم، ولن يبعد على فاروق أن يدعي الألوهية إذا طال به العهد، ولن يطول عهد رجل يفتري على الله كذبا»، ولم يطل العهد بفاروق بعدها، وكأنما كان فضيلته يقرأ سطور الغيب !”.
وتروي سناء البيسي أيضا: “كانت فتوى الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت مفاجأة مفرحة للمسلمين في مصر والعالم عندما أفتى ليس بإتاحة الغناء والموسيقي بكل ألوانها، ولكن بالدعوة إلى تعلمها ومعرفة أصولها، فالغناء والموسيقي الأصل فيهما الحل، والحرمة عارضة، وحب اللذة: غريزة فطرية في الإنسان، والشرع ينظمها دون قمع ولا إفراط، وجميع ما قيل بشأن التحريم ضعيف، أو يتحدث عن توظيف الغناء والعزف في المحرمات، وأضاف الشيخ محمود شلتوت في فتواه أنه قد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء أنهم كانوا يسمعون ويحضرون مجالس السماع البريئة من المجون والمحرمات، وكان الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر في القرن الثالث عشر الهجري ذا ولع شديد بالسماع، وعلى معرفة بأصوله، ومن كلماته في بعض مؤلفاته: «مَنْ لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، في ظلال الأشجار، فذلك جلف الطباع حمار!».
عاش الشيخ محمود شلتوت حياة شخصية وعائلية أقرب إلى المثالية، كان نجما لامعا، وإنسانا عظيم في الوقت نفسه، وقد ظل حب الخير متمكنا من نفسه طيلة حياته، قضي الشيخ محمود شلتوت معظم حياته يسكن في شقة بالدور الثالث من عمارة معروفة في شارع إسماعيل الفلكي بحي الظاهر، وفي أخريات حياته انتقل (1958) إلى بيت خاص به في مصر الجديدة، وقد ترك أربعة أنجال: إيهاب الضابط، والمهندس سعيد، وخبير البترول أحمد، وجلال موجه العلوم بالأزهر، وأربع بنات: نزيهة، وحكمت، وفوزية، وفكرية.. ورزق بأربعين حفيدا».
عانى الشيخ محمود شلتوت متاعب متعددة ومتوقعة طيلة توليه المشيخة وقد وصلت الأمور إلى حد أنه قدم استقالته في 6 من أغسطس 1963، وقد ذيل استقالته بأنه لن يقبل على دينه وكرامته السكوت على تضييع أمانة الأزهر مطالبا بإعفائه منها: “.. وليس أمامي إلا أن أضع استقالتي من مشيخة الأزهر بين أيديكم بعد أن حيل بيني وبين القيام بأمانتها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
وبالمواكبة لهذا أصيب الشيخ محمود شلتوت من جراء ممارسات السياسة القاسية والعمل الشاق بالشلل في نصفه الأيسر، وابتعد عن ممارسة منصبه. ولما بدأ رجال الحكم يشعرون بالحرج أمام الزائرين الأجانب الذين يلحون في طلب زيارته، أشاعوا أنه اعتزل الحضور للأزهر بسبب مرضه، فما كان من الشيخ الثائر إلا الإعلان عن سفره إلى قطاع غزة بالسيارة الجيب، وقد حرص على أن يترك السيارة ليسير على قدميه ليتفقد أحوال أهلها. “ولم تمض شهور أربعة بعد هذه الاستقالة حتى دخل الشيخ محمود شلتوت مستشفى الجمعية الخيرية بالعجوزة لإجراء إحدى الجراحات، ونجحت العملية، ولم يكن الشيخ مرحا في يوم من الأيام أكثر منه في يومه الأخير بعد الإفاقة من البنج، فقد ظل يداعب أحفاده، وقبل أن تصعد روحه إلى بارئها بدقائق كان حديثه إلى زواره عن الإسراء والمعراج.. ثم توقف فجأة: أزمة قلبية طارئة”. ويبدو من هذا الوصف الذي أوردته مجلة «نصف الدنيا» نقلا عن عائلة الشيخ محمود شلتوت أنه أصيب بانصمام رئوي وليس بأزمة قلبية، وقد أقام له مجمع اللغة العربية حفل تأبين مهيب تولى تأبينه فيه عضوان من أعضاء المجمع.
(المصدر: مدونات الجزيرة)