الشيخ محمد سالم القاسمي –رحمه الله– ترجمانا للفكر الإسلامي الوسَطي
بقلم الأستاذ محمد شمشاد عالم القاسمي(*)
توطئة
ظلت دارالعلوم/ ديوبند ولا تزال تُنجب رجال العلم والفكر والدعوة والمعلّمين المثاليّين والمدرّسين الناجحين والأساتذة البارعين والمربّين القديرين الذين تحلوا بصفات مختلفة من المعلومات الواسعة، والثقافات المتعددة، والأفكار الواسعة، وحسن الخلق والإخلاص، والحب المفرط للتدريس والتعليم وإصلاح الناس، وقيادة الأمة الإسلامية، والدأب المستمرّ في العمل، ولم يبغوا وراء ذلك سمعة وصيتًا ولا مدحًا وثناءً، كما لعبوا دورًا قياديًّا هامًّا في إعداد الجيل الجديد الصاعد وتربيته وإصلاحه بشتى الجوانب – علميًّا وفكريًّا وثقافيًّا وعمليًّا وخلقيًّا – فجنّدوا أقصى طاقاتهم وقواهم في تزويد الطلاب بالعلوم والمعارف وإرشادهم إلى المستقبل النيّر، وحوّلوا اتجاهات الشباب إلى اتجاه صحيح وسليم.
وكذلك سعوا جاهدين للإصلاح الشامل للشعب المسلم عامة والطبقة غير المثقفة والجماهير منهم خاصة فكريًا وعقائديًا وعمليًا وخلقيًا على منهاج النبوة ووفقًا للأفكار الإسلامية الوسَطية البعيدة عن الإفراط والتفريط، والسليمة من الشوائب، والنقية من البدع والخرافات.
ومن هؤلاء الأساتذة المثاليين والمربين القديرين والمفكرين النابغين الذين تركوا آثارًا خالدة على الكوكب الأرضي، هو الاسم العذب الجميل المتألق، والاسم الذي كان يحتلّ مكانة رفيعة وحبيبة في نفوس الكبار والصغار معًا من رجال الدين والأساتذة والطلبة من جانب، وفي قلوب عامة المسلمين كافة من جانب آخر، وهو الأستاذ النابغة الشيخ محمد سالم القاسمي الملقب بـ«خطيب الإسلام» (أمطر الله تعالى عليه شآبيب رحمته).
وفتح الشيخ سالم القاسمي – رحمه الله تعالى- عينيه في بيئة محافظة وأسرة دينية وبيت كريم الأصل، وفي بيت تُشَمُّ منه رائحة العلم والمعرفة ساطعةً زكيةً، ويغلب عليه الجد والجهد، فيقول محمد سفيان القاسمي: «وُلد عام 22/جمادي الثانية 1344هـ الموافق 8/يناير 1926م في أسرة دينية علمية كريمة، ظلت محترمة لدى المسلمين في الهند بسبب طول جهادها في خدمة الإسلام وحسن بلائها في الدفاع عن ذماره»(1)، فبدأ ينشأ في مثل هذه البيئة.
وقد برز فيه أثر الذكاء والنبوغ منذ نعومة الأظفار مما لفت أنظار أبيه حكيم الإسلام الشيخ محمد طيب القاسمي – رحمه الله تعالى- الذي توسّم فيه الخير والنجابة والموهبة والطموح، فاعتنى بتربيته تربيةً صالحةً، وحرص على تعليمه وتثقيفه؛ لأن التربية الصالحة والتزويد بالمعرفة والثقافة خير ما يُقدَّم لناشىءٍ، وكان الشيخ جدِّيًّا ومتفكرًا في أمر مستقبل ابنه، فأخذ يكمل نقصه ويوسّع نفسه ويفتح أفقه ويملأ فراغه، فجعله يلتحق بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ديوبند ليتلقى العلوم الإسلامية، فبدأ رحلته الدراسية فيها، فأخذ ينشأ ويترعرع في جو السكون الصافي ذي الطابع الديني والروحي، والبيئة العلمية، وبذل جهوده المضنية؛ لأنه كان يعلم جيدًا أن أيّ علم هيهات أن يفتح مغاليق كنوزه إلا لمن يبذل الثمن غاليًا من ماله وجهده ونور عينيه فلم يأل جهدًا فيه إلى أن نال شهادة الفضيلة في العلوم الشرعية (أكبر شهادة علمية في المدارس الإسلامية الهندية آنذاك) عام 1948م من نفس الجامعة.
وقد ساهم عديد من العوامل والمؤثرات في تكوين شخصية الأستاذ الشيخ محمد سالم القاسمي العلمية والثقافية والفكرية، وتشكيلها، فمن أهمها والده النابغ الشيخ محمد طيب القاسمي الملقب بـ«حكيم الإسلام»، الذي تربّى الشيخ سالم تحت رعايته الخاصة وعنايته البالغة، فهو الذي قد أثّر أكبر تأثير في تكوين عقلية الشيخ سالم وأفكاره المعتدلة.
الإسلام دين الوسَطية والاعتدال
ويقول الفيروزآبادي: «الوَسَط، محركةً، من كل شيء: أَعْدَلُهُ»(2)، فالوسطية هي الاعتدال في كل أمور الدين والدنيا من تصورات وأفكار ومناهج ومواقف، وهي تَحرٍّ متواصل للصواب في التوجهات والاختيارات، فهي ليست مجرد موقف بين التشدد والانحلال؛ بل منهج فكري أخلاقي وسلوكي.
ويتميز الإسلام عن غيره من الأديان والشرائع بأنه دين الوسطية والاعتدال، فهو دين العدل والخير والكمال، ودين وسط بين الإفراط والتفريط، فالوسطية ميزة فريدة من مزايا الإسلام، وسمة بارزة من سمات الشريعة المحمدية الحنيفة، فهذا الدين يتسم بأنه دين السماحة، ورفع الحرج؛ حيث إنه موافق للفطرة البشرية السليمة، فالإسلام وسط في جميع القضايا الدينية والدنيوية من المعتقدات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والأفكار، والمناهج، والأنظمة وما إلى ذلك، مما جعل الأمة الإسلامية تتميز عن غيرها من الأمم بأنها أمة الوسطية والاعتدال، تبعد عن الانحراف والتطرف، والتشدد واللّين، ومنهجها منهج الاستقامة والاعتدال.
فالوسطية ميزة خاصة لهذه الأمة؛ بل من أبرز سماتها، وبها تُعْرف بين الأمم، وهي حالة محمودة تدفع أهلها للالتزام بهدي الإسلام فيقيمون العدل بين الناس، وينشرون الخير، ويحققون عمارة الأرض، وعبودية الله، وحقوق الإنسانية بين بني البشر، ويُعطَى في ظل الإسلام كل ذي حقٍّ حقَّه؛ فلذلك جعل الله تعالى هذه الأمة أمة وسَطًا، ومنهجها منهجًا وسَطًا قائلًا: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(3)، يعني كما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعل الله – عزّ وجلّ – هذه الأمة أمة وسَطًا، والوسَط هو الخيار أوالعدل، والآية تحتمل كِلا المعنيَيْن، ويقول الحافظ ابن كثير –رحمه الله-: «الوسَط ههنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها. وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وسَطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا…. ولَما جعل الله هذه الأمة وسَطًا خصّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب»(4).
فالوسطية والاعتدال وصف لحقيقة الإسلام كما أمر به الله – تعالى- دون إفراط أوتفريط؛ إذ الإفراط هو المبالغةُ بقصد التزام أحكام الدين، والتفريط هو التهاونُ بأحكامه.
دار العلوم/ديوبند حاملة لواء الفكر الإسلامي الوسَطي
وتُعتبر دار العلوم/ديوبند أقدم وأكبر مركز إسلامي ومعقل ديني للمسلمين في القارة الهندية، وهي أعرف من أن تُعرَّف؛ لأن خدماتها وجهودها في سبيل الحفاظ على الإسلام، ودعوته، ونشر العلوم الإسلامية، وإخراج المسلمين من البدع والخرافات والتقاليد الجاهلية، والنضال والكفاح ضد أعداء الإسلام والمسلمين، كلها تنطق بها صفحات التاريخ الإسلامي بالهند داخلها وخارجها أصدق نطق.
وقد تبنّت دار العلوم/ديوبند وعلماؤها منذ ما تأسست طريق جمهور الأمة المسلمة فكريًا وعلميًا وعمليًا، فيقول المفتي محمد تقي العثماني: «إنهم يتبعون في تفسير الإسلام وعرضه نفس المسلك الذي سلكه جمهور علماء الأمة عبر أربعة عشر قرنًا. إن الدين وتعاليمه الأساسية إنما تنبع من الكتاب والسنة، وإنها – تعاليم الكتاب والسنة – في شكلها الشامل هي أساس مذهب علماء ديوبند»(5)، فهي ما زالت ولا تزال تعض على طريق أهل السنة والجماعة، ومذهبهم بالنواجذ فكريًا وعمليًا، وتعليمًا وتعلّمًا، ونشرًا وبلاغًا.
وإن الدين عند الله الإسلام، والإسلام دين الوسطية والاعتدال كما وصف القرآن الكريم هذه الأمة بـ«أمة وسط»، فيُعتبر التوسط والاعتدال ميزةً أساسيةً لهذه الأمة، «وبما أن علماء ديوبند يتبنّون هذا الدين الوسط، فإن مذهبهم ومزاجهم وذوقهم الديني معجون بهذا الاعتدال، طريقهم يمر بين الإفراط والتفريط بشكل لا يتورط ذيلهم في أي من الطرفين المتقاصيين»(6)، هذا هو المذهب الوسط والفكر الإسلامي المعتدل الذي ظلت وتظل دارالعلوم/ديوبند تنشره تدريسًا وتعليمًا وتربيةً، ودعوة وتوجيهًا، وإصلاحًا وتزكيةً لظاهر الشعب المسلم وباطنه.
ويقول الشيخ المقري محمد طيب القاسمي –رحمه الله- وهو يعرّف المذهب الجامع المعتدل الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة، والذي يتبنّاه علماء ديوبند: «المذهب الجامع إنما يكون المذهب الذي يجمع بين العقل والنقل في توازن كامل يسمح للعقل أن يظلّ فاعلًا بجانب النقل، ولكن بشكل خادم للنقل وليس متحكمًا فيه، فيوفّر لكل كلّي وجزئي منه براهين عقلية ودلائل معتبرة، وشواهد ونظائر ملموسة، الأمر الذي يجعل المذهب مُتَّبَعًا لدى كل فئة من فئات الأمة، ودستورًا للحياة شاملًا مقبولًا لديها جميعًا؛ فيعود المتبعون له مصداقًا لقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسَطًا»، وهذا هو المذهب الذي يُسمّى مذهب أهل السنة والجماعة، وهو الذي يتبنّاه علماء ديوبند، ولكونهم يتبعون هذا المذهب الجامع، ويحوزون عناصره وموادّه كلها هم مفسّرون ومحدّثون معًا، وفقهاء ومتكلمون معًا، وزاهدون ومجاهدون معًا، ومقلّدون ومفكّرون معًا، وبامتزاج هذه العناصر والعلوم الدينية جاء مزاجهم معتدلًا متوسّطًا يتنزّه عن الغلوّ والمبالغة»(7)، فـ«علماء ديوبند بالنسبة إلى اتجاههم الديني ومزاجهم المذهبي من أهل السنة والجماعة تمامًا… إن جماعة ديوبند هذه سعت لاتخاذ كل ما كانت تستطيعه للحفاظ على عقائد أهل السنة والجماعة، ومبادئها وأصولها داخل الهند وخارجها، ولقّنتها الجماهيرَ، مما ساعد على بقاء أهل السنة والجماعة بهويتها الصحيحة، وجعل مؤسسو جامعة ديوبند هذه المهمة بصبغتها الأصلية علامةً عالميةً عن طريق تلاميذهم وأتباعهم المربَّينِ لديهم مباشرة أو غير مباشرة»(8).
الشيخ سالم ترجمانًا للفكر الإسلامي الوسَطي
وكان الشيخ محمد سالم له يد عليا وتفوق بارز في جميع العلوم والفنون، كما كان نادر النظير والمثيل في سعة علمه وغزارته، وعمق فكره، ودقة نظره، وطول باعه في معارف الكتاب والسنة ودقائق علومهما، وورث ذلك أبًا عن جد بداية من الإمام محمد قاسم النانوتوي الملقب بـ«حجة الإسلام» – رحمه الله – ونهاية بحكيم الإسلام محمد طيب القاسمي – رحمه الله -.
وقد مثّل الشيخ الإسلامَ خير تمثيل محليًا وعالميًا من خلال كتاباته العلمية المبرهَنة الرشيقة وخُطَبه المقنعة البليغة، يقدّم الفكر الإسلامي الوسطي، ولم يقم بدور الترجمان لدارالعلوم/ديوبند فحسب؛ بل قام بدور ترجمان الإسلام خير قيام، كما أدّى مسؤولية لسان أهل السنة والجماعة، وكذلك كان يُعتبر أمينًا موثوقًا به لفلسفة الشاه ولي الله الدهلوي – رحمه الله تعالى -، وكان وارثًا حقيقيًا وخلَفًا صادقًا للأفكار الوسَطية المعتدلة لأبيه حكيم الإسلام محمد طيب القاسمي، وكان مصبوغًا بصبغة قاسمية في العلوم والفنون، ومن مزاياه الفريدة أنه كان يشرح المعاني العميقة والموضوعات الدقيقة والقضايا المعقّدة جدًّا بأسلوب سهل جدًّا، كما كان يشرح الفكر الإسلامي على أساس العقل؛ بل قد خصّص حياته للشرح العقلي للإسلام، مما يجعله يستحق مكانة مفكر وفيلسوف إسلامي.
وقد عمل الشيخ طول حياته على تبليغ رسالة الإسلام المعتدلة، وتعزيز مفهومه الوسطي وشرحه، وإحياء الفكر الإسلامي الوسطي، وتثبيته في المجتمع الإسلامي في النوادي والحفلات والندوات والمؤتمرات وطنيًا ودوليًا، من خلال بحوثه العلمية وكتاباته الرشيقة وخطاباته الممتعة، وقد ركّز جُلّ عنايته على تقديم ونشر رسالة الإسلام المبنية على الوسطية والاعتدال، مدعمًا بالمعارف التي تتفاعل وتتماشى مع المستجدات والقضايا المعاصرة، بعيدة عن النظريات المتعصبة والمتطرفة والتعصب المذهبي، والتي تكون مقبولة لدى مختلف فئات وجماعات إسلامية وعقول مستنيرة، كما ساهم مساهمة نشيطة في نشر فكر إسلامي يقوم على الانفتاح، والتعاون، والتفاهم، والتعايش السلمي، والاعتدال، والرحمة، والأمن، والسلام.
ويرى الباحث أنه كان شخصًا آخرًا من بين العلماء ورجال الدين المعاصرين، يحتل المرجعية في اعتدال الفكر والنظر ووسطيتهما، فيعترف الداني والقاصي جميعًا بهذه الميزة الفريدة لــه، ويعرفها خير معرفة من يطلع على كتابات الشيخ وخطاباته، ولم يلطّخ ذيله طول حياته بالتعصب الديني والمذهبي، والخلافات الفئوية، والانحياز والعصبية المذهبية والفكرية، وكان يعترف بفضائل الآخرين كبارًا وصغارًا ومحاسنهم، ويقبل اختلاف الآراء بسعة صدره وقلبه، وطلاقة وجهه وجبينه؛ فلذلك كان يترأس المنظمات والجمعيات التي ينتمي إليها أشخاص المذاهب المختلفة، ورجال الآراء والأفكار المتضاربة، مما يعكس اعتدال ذهنه وعقله ووسطية فكره.
وفيما يلي نقدّم بعض النماذج والأمثلة للفكر الإسلامي الوسطي والمعتدل مستقيًا من خُطب الشيخ التي ألقاها في مختلف الحفلات والندوات والمؤتمرات والمناسبات وطنيًّا ودوليًّا، والتي تم جمعها وطبعها في كتاب «خطبات خطيب الإسلام» (مجموعة خُطَب الشيخ).
من تجليات الفكر الإسلامي الوسَطي
في خُطَب خطيب الإسلام
من يقرأ خُطَبه المطبوعة يجد من الأفكار والآراء المعتدلة ما تقرّ به أعينه، ويشرح صدره، ويطمئن به قلبه، فحينما يتحدث الشيخ عن حقيقة الدين يقدم جوانبه النادرة والدقيقة، وعندما يتكلم حول دور الأمة المسلمة في إصلاح المجتمع وبناء الإنسانية، يوقظ وعي المسؤوليات الكبيرة في ذلك لدى القارىء والمتلقي، ويعثر المتلقي على عمق العلم ودقته، والتفكير في قضايا الشعب المسلم، والشعور بالمسؤولية، وعاطفة الإصلاح والبناء في كل خطبة من خطب الشيخ.
وتتحلى خُطَب خطيب الإسلام بمزايا كثيرة ومميزات بارزة مختلفة، ولكن من أبرزها وأظهرها – كما يرى الباحث – هي ميزة الاعتدال والوسطية والدعوة إليهما، فيبدو الاعتدال جانبًا أبرز من الجوانب العلمية والفكرية من شخصيته في ثنايا خطبه.
ولا شك أن التدين لا بد له من الاعتدال؛ لأن كل جزء من أجزاء الدين يتحلى بالاعتدال تمامًا وكاملًا، وإن الإفراط أوالتفريط في التدين، أوالرغبة الكثيرة في النقد اللاذع، أوالسكوت عن النقد حينما يجب النقد والانتقاد، كل ذلك يُسّمى باللااعتدال واللاوسطية التي تعارض الفطرة والدين كليهما؛ لأن الإسلام دين الفطرة، «فطرة الله التي فطر الناس عليها»(9)، فيقول الشيخ: «إن الإسلام عبارة عن دين الاعتدال تمامًا في أصوله وفروعه جميعًا، بعيدًا تمام البُعد عن الإفراط والتفريط؛ فلذلك إن الاقتضاء الطبيعي النابع من المنابع الداخلية لوتُرِك محرّرًا غير مقيَّد بالقيود الشرعية لأدّى إلى الإفراط الذي يعارض الطبيعة والفطرة، وكذلك لو فُرضت القيود الصارمة على ذلك الاقتضاء الطبيعي، المعارضة لغرض خلقه، بدون البحث عن التيسيرات الشرعية في ذلك، لكان ذلك فعلًا غيرطبيعي أيضًا، يُسَمّى بالتفريط»(10).
يلاحظ الباحث في النص السابق أن الشيخ قد انتقد عدم الاعتدال المذكور أعلاه، ولكن بكل اعتدال، هذه هي ميزة خاصة للشيخ؛ بل هو جزء من طبيعته ومزاجه الموروث أبًا عن جد، وفي الواقع هذا الاعتدال هو الفكر الإسلامي الوسطي الذي مثّله الشيخ خير تمثيل طول حياته.
وإن التقوى والفتوى لكل منهما مقتضيات وفوائد، فمن مزايا الفتوى أنها تمتاز باليسر والسعة، بينما التقوى على العكس، فإن اختار أحد طريق التُقى والورع لنفسه ودعا الآخرين إلى ذلك، فهذا فعل محمود ومشجَّع عليه، ولكن لا بد له من الاعتدال في ذلك أيضًا، فيقول الشيخ مشيرًا إلى ذلك: «إن طريق التُقى والورع هو لأهل الهمة والعزيمة، ولكن تيسيرات الفتوى وسعتها هي لعامة المسلمين الذين هم قليلو الهمة والعزيمة من هذا الدين، دين الفطرة والسماحة، فالسعي لأن يسلكوا مسلك أهل الهمة والعزيمة، يمكن أن يتسبّب في صدّهم عن الصراط المستقيم، ولكن لا يُرجى تبنّيهم طريق التُقى بسبب عدم الهمة والعزيمة لديهم، فضلًا عن استقامتهم عليه»(11).
ففي النص السابق نجد وعيَ الشيخ العميقَ لكل من الامتثال المثالي وامتثال عامة المسلمين بالدين، ومراعاتهما الجميلة واعتدالهما مما يلفت نظر المتلقي، والذي هو تمثيل الفكر الإسلامي الوسطي.
وإن الشدة المفرطة المتجاوزة حد الاعتدال في التدين تقود إلى نتائج خطيرة كثيرة، فيقول الشيخ وهو يحدّد ذلك: «وتظهر فتنة جديدة في هذه الأيام، وهي أن الجماعة اللبرالية المثقفة ثقافة غير إسلامية، خالية الوفاض من العلوم الدينية والشرعية، قد ترى الإفراط والتفريط للتوجيه الديني غير المعتدل، ولكن لا تعرف الهداية الشرعية الصحيحة، فتظن أن تلك الهداية غير قابلة للعمل بها، فلا تنتقد فحسب العلماءَ المزعومين الذين يوفّرون لها توجيهات خاطئة؛ بل تشن الحرب اللاذعة بالقلم واللسان على جماعة العلماء ورجال الدين جميعًا بدون الاستثناء، وإلى جانب ذلك، لا تخاف هذه الجماعة الحديثة تقديم أفكارها المزيَّفة ونظرياتها المفتعَلة دينًا حقيقيًا في حين لا صلة لتلك الأفكار والنظريات بالإسلام الذي هو دين الفطرة، فتصبح الإباحة الكاملة والجواز التام في القضايا المتعلقة بالمدنية، غرضَها المنشود وهدفها المقصود فقط تحت ضغوط أهوائها النفسية ورغباتها الداخلية الجامحة، فلا تبقى إمكانية عدم الإباحة في أي جزء من أجزاء الدين لدى هؤلاء القادة المزعومين للدين»(12).
ومما يجدر بالملاحظة في النص السابق أن الشيخ لفت أنظار العلماء بأسلوب جميل إلى محاسبة أنفسهم، إلى جانب انتقاد المواقف غير المعتدلة لحب التجديد والحرية، فقد ذكر انحراف هذه الجماعة المنحرفة من جانب، ومن جانب آخر، قد جعل العلماء المزعومين الذين يوفّرون توجيهات دينية خاطئة غير معتدلة، مسؤولين عن هذه الأوضاع المتدهورة أيضًا، فمن هنا يلاحظ الباحث الجانب المعتدل والوسطي في النقد والانتقاد، الذي هو جزء لا يتجزّأ من طبيعة الشيخ ومزاجه الديني.
ويكون الإفراط والتفريط في الحضارة والمدنية كما يكونان في التدين، ومن الحقائق المريرة أن كلًّا من اللااعتدالَين يسبّب ضررًا كبيرًا للدين والأمة المسلمة، فيقول الشيخ ممثّلًا للفكر الإسلامي الوسطي في ذلك: «كما يؤدّي التخلّي الكامل عن التدين إلى الإلحاد والردة، فكذلك يمهّد عدم العناية بالمدنية، والرغبةُ عنها، سبيلَ سوء الظن بالإسلام بأنه لا يستطيع أن يواكب الحضارة والمدنية المعاصرة المتطورة السريعة جدًّا»(13).
وهناك اتجاهان للأمة الإسلامية في الحضارة والمدنية المعاصرة المتطورة السريعة جدًّا: اتجاه ينكرها كليًا، بينما الاتجاه الآخر مولَع بها، ففي كل منهما إفراط وتفريط، ويتجاوز حد الاعتدال والوسطية، ففي النص السابق قدّم الشيخ موقفَ الإسلام المعتدل من ذلك خير تقديم.
و الشدة والعجلة في تنفيذ أحكام الدين وتطبيقها على الرغم من الحصول على الحكومة والسلطة وتولّيهما، والإغماض عن الأوضاع الحقيقية، وإهمال حكمة التدريج، كل ذلك لا ينفع مساعي تنفيذ الدين وجهود تطبيق الشريعة؛ بل يضرّها ضررً كثيرًا، وبهذا الصدد يقول الشيخ ناقدًا لموقف حكومة مسلمة معاصرة وسلوكها: «إن الإسلام دين الرحمة، وليس هذا بدين الضيق والعسر والعنف، وإن الشعوب التي ظلت تعيش عيشة وحياة عبودية منذ ثلاثة قرون متوالية، وظل شعب أجنبي بكل من ثقافته وحضارته يسيطر عليها لمدة طويلة، صارت عقولها وأذهانها وأمزجتها وأذواقها مختلفة ومتغيرة تمامًا، فإن فرضتَ عليها الإسلام بغتةً وفجأةً لم تقبل ذلك؛ بل هذا التصرف يعارض العقل والمنطق، وإنما يحتاج ذلك إلى فرض الإسلام وأحكامه على مثل هذه الشعوب تدريجيًا، وإن تقديم فوائد الإسلام لهم تدريجيًا هو خير لهم»(14)، وأضاف قائلًا: «يجب تكوين أذهان الناس وأمزجتهم أولًا، مما يتطلّب الجهود المكثفة لمدة طويلة، ثم يتكون الذهن الإسلامي، وفي الواقع لم تبذل (يشير الشيخ إلى حكومة مسلمة معاصرة) الجهود في تكوين الذهن الإسلامي لشعبها تدريجيًا؛ بل بدأت تفرض أحكام الإسلام عليه بقوة وشدة مما كان معارضًا للحكمة والمصلحة، والعقل والطبيعة البشرية، وطبيعة الشريعة أيضًا»(15).
وفي النصوص السابقة يتجلى موقف الإسلام المعتدل والوسطي في تنفيذ الدين وتطبيق أحكامه على الجماهير، وهو التمسك بمبدأ التدريج والتدرج في ذلك، وقد قدّمه الشيخ بكل وضوح وصراحة ولكن بكل اعتدال، ومن هنا يلاحظ الباحث أن الشيخ قد قام بتمثيل الفكر الإسلامي الوسطي خير تمثيل بكل عدالة وأمانة.
وكان الشيخ دائمًا يفكر في توحيد صفوف الأمة المسلمة ووحدتها، ولكن لا يبعده ذلك عن حد الاعتدال والوسطية، وكان يواصل البحث عن أسباب اختلاف الأمة وانشقاقها، فيقول فارقًا ومميّزًا بين الدين والمذاهب الفقهية بكل صراحة ووضوح: «إن مناط النجاة ومستحق الدعوة والتبليغ هو الدين فقط، وإن مذهبًا فقهيًا من المذاهب الفقهية ليس بمناط النجاة، ولا بمستحق التبليغ والدعوة» يعني أن الدين وحده هو مناط نجاة الآخرة، وقابل للتبليغ والدعوة وهو الذي يستحق النشر بالدعوة والتبليغ، وأما مذهب فقهي محدَّد من المذاهب الفقهية فليس بمناط النجاة في الآخرة، وهو غير قابل للنشر بالدعوة والتبليغ؛ بل هو قابل للترجيح فقط. فيرى الباحث أنه خير نماذج تمثيل الفكر الإسلامي الوسطي والمعتدل الذي باح به الشيخ بكل صراحة ووضوح، وقدّمه مرارًا وتكرارًا على أعين العلماء ومسمع ومرآى من الناس جميعًا، وهذه ميزة خاصة وفريدة من مزايا الشيخ الكثيرة، يتحلى ويمتاز بها، مما يجعله يتميز عن العلماء المعاصرين له.
خاتمة
وبعد رحلة غير سريعة ودراسة متأنية وغيرعابرة لكتابات الشيخ محمد سالم – رحمه الله تعالى – وخطبه المطبوعة، ومايتعلق من المعلومات المتوفرة بحياته الشاملة الحافلة بالجد والاجتهاد في سبيل خدمة الدين، ونشر العلوم الإسلامية، وتنشئة الجيل المسلم الجديد وتربيته الشاملة، وإصلاح عامة المسلمين عقيدةً وفكرًا وعملًا، يصل الباحث إلى أن الشيخ قد نشأ وترعرع في بيئة دينية محافظة، وبيت كريم الأصل، وأسرة متدينة، وجو علمي روحاني بدار العلوم/ ديوبند، وتحت رعاية كبار العلماء الربانيين والأساتذة الموهوبين، فكل ذلك ساهم في تكوين شخصيته الشاملة، وتزويده بالعلوم والمعارف والثقافة الإسلامية، وإعداد فكره الإسلامي الوسطي والمعتدل، ثم لما بدأ حياته العملية نشر العلوم الإسلامية، والفكر الإسلامي المعتدل الموروث أبًا عن جد في دوائر العلماء والطلبة، والأوساط العلمية، وفي عامة المسلمين من خلال كتاباته العلمية المبرهنة الرشيقة وخُطَبه البليغة المقنعة، فقام بتمثيل الإسلام خير تمثيل، ولعب دور ترجمان لفكره الوسطي والمعتدل وطنيًا ودوليًا في الحفلات والندوات والمؤتمرات والمناسبات الأخرى، مما جعله يتميز عن العلماء المعاصرين الآخرين، ورزقه الله تعالى قبولًا واسعًا لدى جميع العلماء ورجال الدين وعامة المسلمين معًا بصرف النظر عن مذاهبهم وأفكارهم وميولهم واتجاهاتهم.
* * *
الهوامش:
(1) القاسمي، محمد سفيان، سيرة موجزة للشيخ خطيب الإسلام محمد سالم القاسمي، مجمع حجة الإسلام، ص:11، ديوبند، الهند، (تاريخ الطبع غيرمكتوب).
(2) الفيروزآبادي، مجد الدين، القاموس المحيط، مراجعة وتحقيق: أنس محمد الشامي وزكريا جابر أحمد، دار الحديث، ص: 1752، القاهرة، (2008م).
(3) سورة البقرة، الآية: 143.
(4) ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، ط1، دار ابن حزم، ص: 217، بيروت، (2000م).
(5) العثماني، المفتي محمد تقي، مقدمة كتاب “علماء ديوبند: اتجاههم الديني ومزاجهم المذهبي”، مكتبة دارالعلوم، ص: 2، ديوبند، الهند.
(6) نفس المرجع والصفحة.
(7) القاسمي، المقري محمد طيب، علماء ديوبند: اتجاههم الديني ومزاجهم المذهبي، تعريب: الأستاذ نورعالم خليل الأميني، مكتبة دارالعلوم، ص: 97- 98، ديوبند، الهند، (تاريخ الطبع غير مكتوب).
(8) نفس المرجع، ص:7- 8.
(9) سورة الروم، الآية: 30.
(10) القاسمي، الشيخ محمد سالم، خطبات خطيب الإسلام، (مجموعة خُطَبه)، الجمع والترتيب: محمد يامين القاسمي، إداره دارالإشاعت، ج1، ص: 721، حيدرآباد، الهند، (2006م).
(11) نفس المصدر.
(12) نفس المصدر، ص: 921.
(13) نفس المصدر.
(14) نفس المصدر، ج2، ص: 684.
(15) نفس المصدر، ص:784.
* * *
(*) باحث الدكتوراه، مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، دهلي الجديدة، الهند.
(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)