الشيخ رشيد رضا والعمل السياسي
بقلم د. محمد العبدة
علمٌ من أعلام النهضة في العصر الحديث، يتسم علمه وفكره بالشمولية والعمق، فقد كتب وحرر فصولاً في أصول الدين والفقه والإصلاح السياسي، وركز كثيراً في تفسيره على سنن الله سبحانه في المجتمعات والأفراد، واهتم بالتعليم والتربية وشؤون المرأة، ودعا إلى منهج أهل السنّة ونبذ التقليد والبدع والخرافات، مع اطلاع على ما يكتب في الغرب وما يدبر، حارب على جبهتين: أهل التغريب والمتفرنجين وأهل الجمود والتقليد.
ليس هذا المقال بالذي يتحدث عن كل هذه الجوانب في حياة الشيخ رحمه الله، بل سأقتصر الحديث عن جهوده ورؤيته السياسية ومواقفه حيال أحداث عصره. أسس الشيخ مجلته المشهورة (المنار) عام 1898م وقد جعل منها منبراً للإصلاح من جميع نواحيه، فكان متابعاً للأحداث السياسية، يبدي رأيه مؤيداً أو ناقداً أو ناصحاً هكذا كان موقفه من السلطان عبد الحميد الثاني (1876 ــ 1909). عندما كان السلطان يتعرض لضغوط داخلية ومؤامرات خارجية فيكتب الشيخ في المنار حاثاً المسلمين على دعم مشروع (الجامعة الإسلامية) الذي أعلنه عبد الحميد، والمقصود وحدة المسلمين أمام المشاريع الغربية الساعية لتفتيت الدولة العثمانية كما أيده في مشروعه العمراني وهو الخط الحديدي الحجازي الذي يربط ما بين استانبول والمدينة النبوية.
ورغم أن عبد الحميد عطّل الدستور وحلَّ البرلمان (مجلس المبعوثان) لأنه تحول بنظره إلى فوضى سياسية وفكرية، ورغم ما يشاع عن استبداد عبد الحميد إلا أنّ الشيخ كان يعلم خطورة زعزعة الدولة العثمانية وأن البديل عن ذلك كان واضحاً ومتوقعا، وهو تقسيم الدولة وتقاسم الحصص بين أطماع الدول الاستعمارية وخاصة بريطانيا وفرنسا وكتب يصف مجلته المنار: (إنها عثمانية المشرب حميدية اللهجة تحامي عن الدولة العلية بحق).
ولكن الفئة التي كان يخشاها السلطان عبد الحميد والتي تأثرت بموجة القوميات التي ظهرت في الغرب والتي كانت تريد التحديث على الطريقة الغربية، هذه الفئة التي تجمعت تحت اسم الاتحاد والترقي استطاعت أخيراً الانقلاب على السلطان وخلعه وأعلنت التزامها بالدستور وعودة مجلس المبعوثان، وظن الشيخ أنهم صادقون في دعواهم فأيدهم في البداية ولكن سرعان ما اكتشف أمرهم وأنهم أتراك متعصبون للقومية الطورانية، وليس عندهم أي اهتمام بالرابطة الدينية التي تجمع مكونات الدولة العثمانية، هذا عدا عن تفريطهم بأقاليم الدولة العثمانية مثل إقليم ليبيا أمام الغزو الإيطالي، فقد سحب هؤلاء الاتحاديون الوالي التركي من طرابلس نتيجة انذار إيطاليا، واتهمهم الشيخ بموالاتهم للقوى الأجنبية حين فرطوا أيضاً بشط العرب أمام الإنكليز وتركوا إقليم البوسنة والهرسك لدولة النمسا.
في هذه الفترة أي قبل الحرب العالمية الأولى وفي عام 1912م شارك الشيخ في تأسيس حزب اللامركزية العثماني في القاهرة ومن أعضائه: رفيق العظم، ومحب الدين الخطيب، والشيخ عبد الحميد الزهراوي وغيرهم من الشخصيات العربية وهو حزب يطالب بلامركزية إدارية للأقاليم العربية داخل الدولة العثمانية، فكان الحرص دائماً على الرابطة العثمانية، مع أن قناعة الشيخ رشيد أنّ جماعة الاتحاد والترقي التي انقلبت على السلطان عبد الحميد هم قوم ملاحدة، وصلوا إلى الحكم عن طريق يهود (سالونيك).
وكأن الشيخ يأس من المطالبة باللامركزية والبقاء مع الرابطة العثمانية فبدأ الميل إلى دولة عربية مستقلة تحقق بعض الطموحات مثل الاستقلال التام عن التأثير الأجنبي والالتزام بالصبغة الإسلامية للدولة. وعندما أعلن الشريف حسين بن علي في مكة المكرمة ثورته على الاتحاديين الأتراك ظن الشيخ أن هذه هي طلبته، فرحب بالشريف ملكاً على الحجاز وسافر إلى مكة لملاقاة الشريف حسين عام 1915م وألقى في مِنى خطبة دعا فيها الحجازيين لتأييد الشريف في سعيه لاستقلال الحجاز، لأن هذه المنطقة هي المؤهلة لتأسيس دولة عربية إسلامية، ولم يعلم الشيخ باتصالات الشريف مع المندوب السامي البريطاني في مصر (مكماهون) وخلاصتها وعود من الإنكليز بمساعدة الشريف والعرب على إقامة دولة عربية في شرقي البحر المتوسط من جنوب جبال طوروس إلى خليج عدن، والشيخ رشيد رضا لا يصدق أبداً وعود بريطانيا بمساعدة العرب، وهذا مما جعل الشيخ ينقلب على تأييده السابق للشريف ويبتعد عن سياسته.
الحرب الكونية الأولى وآثارها:
دخلت الدولة العثمانية بحكومة الاتحاد والترقي في هذه الحرب وفي محور ألمانيا المقابل للحلفاء بريطانيا وفرنسا ومن معهم، وكانت النتيجة هزيمة ألمانيا وكذلك هزيمة الدولة العثمانية، وكانت أوروبا الاستعمارية قبل هذه الحرب تخطط لتقسيم الدولة العثمانية واقتسام مناطقها، وكان اسم هذه الدولة في المفهوم السياسي الأوروبي -هي في حقيقتها مسألة غربية، فالغرب هو المخطط والمنفذ لها- (الرجل المريض) وتسمى العلاقات معها بـ(المسألة الشرقية) وهكذا وجدت اتفاقية (سايكس بيكو) بين بريطانيا وفرنسا التي قسمت منطقة بلاد الشام بين هاتين الدولتين الباغيتين فكانت سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي وفلسطين وشرقي الأردن تحت الانتداب البريطاني، ومصطلح (انتداب) يعني أن شعوب هذه المنطقة لا تستطيع إدارة نفسها، ولا بد من وصي عليها مؤقتاً؟! وبحلول عام 1918 وانتصار الحلفاء، كان القائد البريطاني (اللنبي) قد احتل جنوب فلسطين وواصل سيره إلى دمشق، وفي الوقت نفسه كان الأمير فيصل بن الحسين ومعه الضابط البريطاني (لورنس) قد وصلا دمشق. وهنا تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ سورية الحديث، وفي هذه المرحلة كان للشيخ رشيد رضا دَوْرا بارزا.
المسألة السورية:
في هذه الظروف: وجود الأمير فيصل وانكشاف أمر اتفاقية (سايكس ـ بيكو) مما حدا بالنخبة السورية للخوض في مسألة الاستقلال، وبدأ الأمير فيصل بمطالبة الحلفاء بتنفيذ وعودهم حول الدولة العربية، وأيده في ذلك حزب (الاتحاد السوري) الذي كان قد تشكل في مصر من المهاجرين السوريين، وكان الشيخ رشيد من أعضاء هذا الحزب، وقد هاجم في (مناره) السوريين الذين رضوا بمقررات الحلفاء والخضوع لفرنسا، ثم ظهر: المؤتمر السوري الذي ضم نواباً وشخصيات تمثل كافة البلاد وترأس هذا المؤتمرالشيخ رشيد، وعقد المؤتمر أولى جلساته في 3/6/1919 وكان من مقرراته ومطالبه: الاستقلال السياسي التام الناجز لكل بلاد الشام، ولا يعترف المؤتمر بأي حق تدعيه فرنسا على أي بقعة في أرض الشام.
ولا يحق لأي حكومة كانت أن تقبل باسم الأمة السورية أي شرط من الشروط التي تخالف قرارات المؤتمر، وإذا وقعت على صك يخالف قرار المؤتمر فالمؤتمر يعتبرها غير شرعية، ويعتبر المؤتمر أن البلاد مستقلة استقلالاً تاماً، وهذه المقررات كانت موجهة أيضاً إلى لجنة الاستفتاء الأمريكية المكلفة من عصبة الأمم لبحث القضية السورية، وقد تمسك هذا المؤتمر بالحق في مراقبة السلطة التنفيذية التي شكلها الأمير فيصل بن الحسين باعتبار ذلك من الشورى اللازمة، ولكن فيصلاً لم يقبل بهذا الحق للمؤتمر ولا يأذن للحكومة أن تكون تحت سيطرة المؤتمر، وعند ذكر الأمير فيصل أنه هو الذي أوجد المؤتمر رد عليه الشيخ رشيد: “أنت مخطئ في هذا، المؤتمرهو الذي مَكّنَ لك في الحكم وكنت قبله مجرد قائد في جيش (اللبني) والمؤتمر مؤيد من زعماء البلاد وعلماء الدين والوجهاء، وهو الممثل للشعب السوري”.
كانت وجهة نظر الشيخ رشيد في شكل الحكومة التي سعى المؤتمر إلى إقامتها في دمشق أن تكون ذات صبغة إسلامية محضة حتى تكسب عطف المسلمين، نُصّب الأمير فيصل ملكاً على سورية، وقبل الشيخ التعاون معه رغم عدم ثقته بوالده الشريف حسين، ربما لقوة المؤتمر السوري وللمصلحة العامة في سورية، ولكن الأمور بدأت تأخذ منحاً آخر وتعقدت المسألة السورية، وقبل فيصل بما فرض عليه الحلفاء في مؤتمر (سان ـ ريمو) بل قبل بالشروط التي أرسلها الجنرال (غورو) ولكنّ هذا لم يشفع له عند فرنسا ودخل الجيش الفرنسي إلى دمشق بعد مقاومةٍ جاءت على عجل يقودها وزير الدفاع يوسف العظمة.
واضطر فيصل للخروج من سورية، ونصبته بريطانيا بعدئذ ملكاً على العراق. لم يقبل المؤتمر السوري بهذا الاحتلال، وكانت آخر جلساته في 19/ 7 / 1920، ولذلك صدر حكم الإعدام على معظم أعضاء المؤتمر فاضطروا إلى الاختفاء أو الخروج من سورية، ثم ومن خلال حزب الاتحاد السوري نظموا أنفسهم في لجنة تنفيذية سورية فلسطينية التي دعت الى مؤتمر عام في مدينة جنيف عام 1921م وانعقد هذا المؤتمر الذي جمع عدداً غير قليل من السوريين والفلسطينيين واللبنانيين، ووضع تقريراً مفصلاً عن أحداث سورية وقدمه إلى عصبة الأمم مع المطالبة بالاستقلال الكامل لكل بلاد الشام. وقد كوّن هذا المؤتمر وفداً دائماً يبقى في أوروبا ليكون على صلة بالأحداث التي تتعلق بالبلاد السورية. وقد رأس هذا المؤتمر ميشيل لطف الله وكان نائب الرئيس رشيد رضا. ومن الأعضاء البارزين الأمير شكيب أرسلان الذي استقر في مدينة (لوزان) في سويسرا وأصدر هناك جريدة (الأمة العربية) باللغة الفرنسية. وكان مدافعاً قوياً عن القضية السورية وغيرها من قضايا العرب والمسلمين، وهو على اتصال بالشيخ رشيد الذي كان صلباً ومخلصاً في المطالبة باستقلال البلاد التي انفصلت عن الدولة العثمانية، ولم يتنازل عن هذا المطلب في أي فترة من فترات حياته.
الخلافة:
كان من آثار هزيمة الدولة العثمانية أن قرر الحلفاء المنتصرون وبموجب معاهدة (سيفر) 1920 الاعتراف باستقلال اليونان والبلغار وخروج أهلها عن السيادة العثمانية، ولم يكتفوا بذلك بل حرضوا اليونان على مقاومة الجيش العثماني واحتلال أراضٍ من تركيا، وقد فعلوها ووصلوا في احتلالهم إلى مدينة أزمير. وهنا تصدى لهم الجيش العثماني بقيادة الضابط مصطفى كمال، وانتصر على اليونان انتصاراً ساحقاً، مما أثار الحمية والبهجة في نفوس المسلمين، وهذا مما جعل مصطفى كمال هو سيد الموقف في تركيا وأصبح ينظر إليه وكأنه البطل الذي انتظره المسلمون. وبعد معاهدة (لوزان) التي عقدها مصطفى كمال مع الحلفاء وكانت أقل ضرراً من معاهدة (سيفر) أصبح موقع السلطانيين وحيد الدين (1918 ــ 1922) وعبد المجيد الثاني ( 1922 ــ 1924 ) أصبح صورياً ولا نفوذ لهما. هلل الشيخ رشيد في البداية لهذا الانتصار كما هلل له الشعراء مثل أحمد شوقي:
الله أكبر كم في الفتح من عجبٍ يا خالد الترك جدد خالد العرب
ولكن هذه الإشادة من الشيخ لم تطل، فسرعان ما أعلن مصطفى كمال عن ميلاد الجمهورية التركية (1923) وحصر أمور الخلافة في الأمور (الروحية) الخالصة -مثل بابا روما- وألغى المحاكم الشرعية والتعليم الديني، وفصل بين الدين والدولة بشكل نهائي، ثم أعقب ذلك بإنهاء السلطنة العثمانية عام (1924).
(المصدر: موقع المنهل)