مقالاتمقالات مختارة

الشيخ رائد صلاح .. مسيرة جهاد وثبات تُنصّبه رمزًا إنسانيًّا

الشيخ رائد صلاح .. مسيرة جهاد وثبات تُنصّبه رمزًا إنسانيًّا

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

الشيخ رائد صلاح الملقب بـ “شيخ الأقصى” المولود في مدينة أم الفحم بالأراضي المحتلة في  10 نوفمبر 1958م، ورئيس الجناح الشمالي للحركة الإسلامية في فلسطين منذ عام 1996م، يعد من أشهر الشخصيات السياسية، وله مواقفه المشهودة في ساحة القدس والأقصى، وأبرزها مواجهاته للسياسات العدائية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.

تعتبر سيرةُ الشيخ رائد ومسيرته مثالا للجهاد الحق، ويقوم جهادُه نموذجا للمرابطة على ثغور قضية فلسطين، ليس من حيث المقاومة بغرض التحرير فقط، بل من زاوية أنه يرابط على الثغور الفكرية والقيمية والمبادئية لقضية القدس والأقصى وفلسطين بما يحفظ هوية القضية وطبيعتها في مواجهة المحتل.

لقد أقام منتدى الفكر للدراسات السياسية والاستراتيجية ندوة افتراضية احتفائية بشيخ الأقصى رائد صلاح، يوم الأحد 22 جمادى الأولى 1443هـ الموافق لـ 26 ديسمبر 2021م، وشارك فيها نخبة من أهل العلم والفكر والدعوة والسياسة والحقوق بحضور الشيخ الجليل، وكان لي شرف المشاركة بكلمة تحدثتُ فيها وتحدث الجميع عن نواحي التميز لدى الشيخ الرائد، ومقومات استحقاقه أن يتم تنصيبه رمزا إنسانيا عالميا، بمناسبة الإفراج عنه في  13 ديسمبر 2021م، بعد أن قضى مؤخرا عاما ونصف العام في زنزانة انفرادية!

الشيخ رائد يقوم بفرض كفاية عن الأمة

والحق أن الدور الذي يقوم به الشيخ رائد صلاح دور عظيم لا سيما في زمن الانبطاح والتطبيع؛ حيث تهرول دول عربية وإسلامية للتطبيع مع العدو الصهيوني بشكل مؤسف يتناقض مع تاريخ شعوب هذه الدول، ويفارق انتماءها وهويتها العربية والإسلامية، فيما يقف الشيخ رائد نموذجًا للجهاد الحقيقي والنقاء الصادق في التعامل مع القضية، والمرابطة على ثغورها المتنوعة.

ذلك؛ أن ما يقوم به هو فرض كفاية على الأمة نحو هذه القضية، سواء من ناحية رفض الاحتلال، أو المحافظة على ثوابتها ومبادئها ومفاهيمها الأصيلة، وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد ثبت عنه أن العلم الشريف يحمله “من كل خَلَف عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين” فإن هذا تمتد دلالته لتشمل المفاهيم والأفكار المتعلقة بقضية فلسطين وغيرها، والحفاظ عليها والمرابطة على ثغورها؛ حتى لا تقع تحت تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، والشيخ رائد قام – وما يزال – بنصيب كبير من تحقيق صفة “العدول” نحو مفاهيم قضية فلسطين وأخلاقها الرفيعة ومبادئها الثابتة.

ولهذا فإنني أرى أن الأمة كلها مدينة لهذا الشيخ الجليل وحركته التي أسهمت في إحياء قضية الأقصى والقدس في نفوس الأمة وعقولها؛ حيث حافظ بحركته الأصيلة على صفاء القضية ونقائها بما يحقق مقاصدها في النهاية، وهي التحرير الكامل للمقدسات.

من أجل هذا فإن محاكمة الشيخ من أجل الثوابت الإسلامية تعتبر محاكمة لعقيدة الأمة وإسلامها وقرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم؛ لذلك كان من الواجب على جميع علماء الأمة ودعاتها ونخبها وأصحاب القرار والتأثير فيها أن يشكلوا حالة ضغط إعلامي وسياسي على مستوى عالمي ضد الممارسات الإجرامية للمحتل بحق الشيخ والأسرى جميعا.

لماذا يخاف الصهاينة من رائد صلاح؟!

لا يمتلك الشيخ الرائد ترسانة نووية، وليس على رأس كتيبة جهادية مسلحة، ولا يملك من مقدرات القوة المادية شيئًا، ومع هذا فالصهاينة يرهبونه ويخافونه، وبين الفترة والأخرى يعتقلونه ويوجهون له التهم، ويحبسونه حبسًا انفراديًّا، فما سر هذا الخوف، وما سبب تلك الرهبة؟!

في تقديري أن الشيخ رائد يملك مقومات شخصية وفكرية “جنَّن” بها الصهاينة، وفرضت عليهم رهبته والخوف منه؛ فكان هذا تجليًا من تجليات قول الله عز شأنُه: ﴿لَأَنتُمۡ أَشَدُّ رَهۡبَةࣰ فِی صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ﴾ [الحشر ١٣]، وأهم هذه المقومات:

أولا: ثبات الشيخ ورسوخه، فالشيخ ثابت على قيمه ومبادئه، ويعد أبرز مرابط في الداخل على ثغور قضية فلسطين العقدية والفكرية، ما غير وما بدل، بل يرى – كما جاء في كلمته بالندوة المشار إليها قبل قليل – أنه المسئول عن القضية أمام الله في الآخرة، ومسئول أمام الشعوب والتاريخ عنها، وأنه يحمل قيم العدل والسلام والأمن للبشرية .. بهذه النظرة ينظر الشيخ رائد للقضية والمهمة الرسالية التي يقوم بها بما يجعله رمزا إنسانيا عالميا.

ثانيا: الصفاء والنقاء في التعامل مع القضية والحفاظ على ثوابتها، وهذه صفة قلما تجدها في رمز سياسي جهادي، مارسَ الواقع وتعامل مع تشابكاته وتعقيداته دون تصرفات أو اختيارات تكدر هذا الصفاء وذلك النقاء، وهذا الصفاء ثمرة صفاء العلاقة مع الله تعالى، فهذا القبول الذي أحسب أن الله وضعه له في الأرض لم يأت من فراغ؛ فلا يوجد مسلم صادق في أرض المسلمين يُسأل عن الشيخ رائد إلا وأعرب عن حبه له، كما أشار لذلك العلامة محمد الحسن الددو في كلمته بتلك الندوة.

ثالثا: قوة البصيرة وسلامتها، وهذه صفة يمن الله بها على من يشاء، يرى بها الأمور على حقيقتها، من غير تهويل ولا تهوين، ولا تغيير ولا تبديل، ومن ثم فإن الاحتلال بعصاباته سيظل – وفق هذه الرؤية البصيرية – احتلالا، لا يمكن الالتقاء معه في منتصف الطرق، ولا تبيح هذه الرؤية تطبيعًا معه، ولا يمكن أن تنقلب صورته من محتل إلى مشارك للتعايش على الأرض التي يحتلها ويرتكب الجرائم عليها، وقد سمعت الشيخ ذات مرة يقول: “هذا الاحتلال ما هو؟ ما يكون؟ هو جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب”، بهذه الرؤية يرى طبيعة الاحتلال ووجوده على الأرض.

مواقفه المشرفة من قضايا كبرى مصيرية للقضية

هذه الصفات والخصائص هي التي مثلت كتلةً من الرعب والهلع في نفوس الصهاينة وسلطتهم من الشيخ، وكذلك مكَّنته من التعامل الحكيم والأصيل مع عدد من القضايا المصيرية والمهمة تتعلق بقضة القدس وفلسطين، ومنها:

القضية الأولى: الاحتلال؛ حيث مثَّلَ موقفُ الشيخ رائد صلاح اتساقا مع خصائصه الشخصية وصفاته الخلقية، وهي أن التوصيف الصحيح للاحتلال لا يوجب في التعامل معه إلا خيارا واحدا أصيلا وهو الجهاد والمقاومة، ولن يغني أيُّ خيار آخر من خيارات التسويات والمفاوضات السياسية وغيرها، إلا بناء على فعل الجهاد، هذه المفاوضات والتسويات الموهومة يكسب بها الاحتلال مزيدا من الوقت، ويشرعن لنفسه ما يرتكبه من جرائم، فكان موقف الشيخ رائد من الاحتلال موقفًا مُوَفَّقًا، يتطابق مع الفطرة، ويتناغم مع سنن الله التاريخية في التعامل مع الاحتلال.

القضية الثانية: المشاركة السياسية في مؤسسات الاحتلال؛ حيث سارعت مكوناتٌ أخرى غير الحركة الإسلامية التي يقودها الشيخ رائد – ولو كان بعضُها جزءًا من الحركة – للمشاركة في مؤسسات الاحتلال، بحجة أن هذا يخفف الضرر ولا يمثل اعترافا بالاحتلال، ولو كان هذا لكان الأمر مقبولا في إطار موازنات السياسة الشرعية، لكن المحصلة التي انتهت إليها هذه المكوناتُ تمخضت عن الاعتراف بالاحتلال والتماهي معه، والحفاظ عليه من الانهيار أحيانا، فاعترف بهم الاحتلال ومنحهم الدعم المادي، أما الشيخ رائد صلاح بحركته فاختار خيار المقاطعة لكل مؤسسات الاحتلال، وهو متسق مع الموقف من القضية الأولى “قضية الاحتلال”، وهذا ما جعل الشيخ رائد وحركته تمثل التعامل الصحيح الثابت مع القضية، من أجل هذا تم حظر حركته، واعتقاله مراتٍ عديدةً.

القضية الثالثة: الموقف من المشروع الإيراني؛ حيث اتجهت بعض الحركات إلى التعامل المتفاوت مع إيران، فمنها ما تماهى معها تماما، وأصبح قراره مرهونًا في طهران، ومنها ما تعاملت مع هذا المشروع بما يحقق مصالح للطرفين مع الحفاظ على الهوية والقرار غالبا، بينما وقف الشيخ رائد موقفا واضحا يتسق مع صفائه ونقائه وهو رفض التعامل مع هذا المشروع على أي مستوى حتى على المستوى الإعلامي برفضه التعامل مع وسائل إعلام إيرانية أو لها صلة بأذرعها في لبنان، لما لهذا المشروع من خطر على الأمة الإسلامية.

واجبنا نحو الشيخ رائد صلاح ومشروعه المقاوم

الحديث عن الشيخ رائد صلاح حديثًا للوفاء والتقدير والتكريم حديثٌ محبب للنفوس السوية، ولكن نريد أن يكون لنا مع هذا الحديث حديثٌ آخر يُضم إلى حديث الوفاء والعرفان، ويقدم واجباتٍ عمليةً نحو الشيخ رائد صلاح وحركته، وتفسح الطريق أمام أفراد الأمة لتقديم واجب الوفاء للشيخ الجليل وقضيته، ومن هذه الواجبات التي ذكرتها في كلمتي في الندوة المشار إليها مع الإضافة:

أولا: واجب نحو شخص الشيخ، وهو تصديره رمزا عالميا إنسانيا كما يستحق بحق، واستضافته في عواصم عالمية، وتفاعل الأمة بأفرادها ومؤسساتها مع شخصه: نُصرةً ومؤازرة ودعمًا، وتوجيها وترشيدا إن لزم الأمر، وهذا مقتضى علاقة المسلمين بعضهم ببعض.

ثانيا: واجب يتعلق بالحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، وهو ما يتعلق بحظر الحركة الإسلامية؛ حيث تعاملنا معها بنفس منطق النسيان والغفلة واللامبالاة، وإنَّ تحرر الشيخ لا بد أن يُعيد إلينا على أعلى المستويات طرح موضوع الحظر ليتصدر المشهد إعلاميا وسياسيًّا ودعويًّا، وباستمرار دون كلل ولا ملل، بحيث تكون هناك إمكانية رفع دعوى قضائية عالميا ضد قرار المؤسسة الإسرائلية هذا؛ فلا يجوز لنا أن ندع الحركة الإسلامية فريسة للمؤسسة، ونُسْلِم قادتها لجرائم المحتل، فالواجب أن نفتح لها جميع الفضاءات المتاحة، ونطرح قضيتها على أعلى المستويات السياسية عالميا، بمعني تبني موضوع الحظر بكليته بكل الإمكانات المتاحة، وطرح موضوع الحظر بوصفه مشروعا يتعاون الجميع على حمله، كل من موقعه.

ثالثا: واجب تكريمي للشيخ الجليل الرائد، وهو تقديم مقترح للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بمنح الشيخ رائد صلاح العضوية الفخرية الشرفية للاتحاد؛ تعبيرا من الاتحاد بوصفه مؤسسة علمائية عالمية عن عظيم الدور الذي يقوم به الشيخ رائد صلاح في حراسة القضية وجهوده المبذولة في المرابطة على ثغورها، بما يحقق في النهاية رؤيتنا ورسالتنا وغايتنا من قضية القدس والأقصى وفلسطين.

المصدر: مركز الشهود الحضاري نقلاً عن موقع (الجزيرة مباشر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى