الشيخ جاد الحق علي جاد الحق وأفل نجم آخر | د. يوسف القرضاوي
الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (1335- 1416هـ = 1917- 1996).
ودعت الأمة الإسلامية في أسبوع واحد عالمين كبيرين: أولهما :الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي. وثانيهما: الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الجامع الأزهر. وكلاهما في التاسعة والسبعين من عمره، فقد ولد الأول في سبتمبر سنه 1917م، وولد الثاني في إبريل من السنة نفسها.
وموت العلماء كما جاء عن السلف: مصيبة كبيرة، حتى قال بعضهم: لموت قبيلة أيسر عند الله من موت عالم !!
وقال آخر: إذا مات العالم ثُلمت في الإسلام ثُلمة لا يسدُّها إلا عالم غيره .
ومن أشدِّ الأخطار علي الأمة أن يموت العلماء، فيخلفهم الجهلاء، الذين فرغت رؤوسهم من العلم، وقلوبهم من التقوى، فيفتون الناس بغير علم، فيضلون ويضلون!
وهذا ما نبَّه عليه الحديث الصحيح المتفق عليه، الذي رواه عبد الله بن عمرو، عن النبي صلي الله عليه وسلم: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالمٌ، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا” . وهذا مؤذن بقرب خراب الدنيا، واقتراب الساعة.
ولا غرو إن حزن المسلمون في أنحاء العالم على وفاة الشيخين الجليلين رحمها الله، وغفر لهما، وأسكنهما فسيح جناته.
أما الشيخ الغزالي، فقد كتبت عنه كلمة، بل كتبت عنه كتابا كاملا.
وأما الشيخ جاد الحق فلا أعرفه كما عرفت الشيخ الغزالي وصحبته واقتربت منه نصف قرن من الزمان. وإنما لقيتُه مرات قليلة في بعض المؤتمرات والندوات، في مصر، وفي الكويت، وفي المملكة السعودية، فما علمتُ عنه إلا خيرا. وعرفتُ بعض أخباره ومواقفه من الصحف وأجهزة الإعلام، ومن بعض مَن عاشروه.
أول ما عرفتُ الشيخ جاد الحق وسمعتُ به، حين عُيِّن مفتيا لجمهورية مصر العربية في عهد الرئيس السادات، ولا أنكر أنى لم أكن راضيا عنه في تلك الفترة، لأنه كان أحد المشايخ الثلاثة الكبار الذين اشتركوا في صنع (قانون الأحوال الشخصية)، الذي كان فيه تجاوزات، أنكرتُها، وأنكرها كثير من العلماء، وعلي رأسهم شيخنا الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق، وشيخنا الشيخ محمد الغزالي، رحم الله الجميع.
ثم عُيِّن الشيخ وزيرا للأوقاف، ثم شيخا للأزهر. والحقُّ أن الرجل قدَّر جلالة المنصب الذي تبوَّأه من قبله رجال كبار، أمثال: المراغي، وعبد المجيد سليم، والخضر حسين، وشلتوت. فلم ينزلق بالأزهر إلى الفتاوى التي زلَّت فيها أقدام آخرين، وحافظ علي كرامة الأزهر، ومجمع بحوثه، الذي يمثل السلطة العليا للفتوى في الشؤون الإسلامية في مصر.
وكان متعاونا مع العاملين في الحقل الإسلامي، واقفا كالصخرة الصماء في وجه العلمانيين والمتغرِّبين، الذين يريدون أن يسلخوا الأمة من جلدها، وأن يبعدوها عن شريعة ربها، فلم تلن قناته في مواجهاتهم، وتحدي أباطيلهم.
رأينا ذلك بجلاء في موقفه من محاولات (مؤتمر السكان)، الذي عُقد بالقاهرة، فقد رفض باسم الأزهر ما فيه من اتجاه إلى الإباحية الجنسية، وشرعيه الإجهاض، وإباحة الشذوذ للرجال والنساء، وانتزاع حقِّ الآباء في الإشراف علي تربيه أولادهم، إلى آخره.
وكذلك (مؤتمر المرأة)، الذي عقد في بكين، فقد شكَّل لجنه للردِّ علي وثيقة هذا المؤتمر، وشارك النقابات التي عُنيت بهذا الأمر، مثل نقابة الأطباء، وقد حضرتُ اجتماعا في (دار الحكمة) في صيف 1995م حول هذا الموضوع، شارك فيه مندوب شيخ الأزهر، وتكلَّم كلاما طيبا.
ولا يكاد يخلو مؤتمر مهم من وجود مندوب عن الأزهر وشيخه، لاحظت ذلك في الكويت، وفي السعودية، وفي موسكو، وفي مؤتمر الأديان والتفاهم بين الشعوب، وقد ألقى فيه مندوب الشيخ كلمة حازت القبول.
وفي الأيام الأخيرة أفتى بعدم السفر إلى الصلاة في القدس، حتى تتحرَّر وتعود إلى أهلها، وهم العرب والمسلمون، وهو نفس ما أفتيتُ به والحمد لله.
وقد ردَّ علي اليهود في قولهم: إن القدس عاصمة أبدية لهم. وقال: إنها عاصمة أبدية للمسلمين. وما دامت للمسلمين فهي لكلِّ الأديان، كما كانت طوال التاريخ، لمدة ثلاثة عشر قرنا أو تزيد.
وفي قضية (فيلم المهاجر)، الذي يمثِّل قصه سيدنا يوسف عليه السلام، وقف ضدَّه بصراحة، وحكمت محكمة النقض بمصادرته ومنعه.
ولا ننسى موقفه الصلب في قضيه فوائد البنوك، والمجاهرة بأنها هي الربا المحرم، بنصِّ القران والسنة وإجماع مذاهب الأمة. وهو ما قرَّره مجمع البحوث الإسلامية منذ عهد الشيخ محمود شلتوت رحمه الله. فهو لم يوافق مفتي مصر في ذلك الوقت الشيخ الطنطاوي، بل فتح مجلَّة الأزهر للردِّ عليه، ولتنشر ملحقا بقلم زميلنا: د. علي السالوس، يرد على توجُّه الشيخ الطنطاوي.
ربما عابه بعض الناس أن نزعته تقليديه في الفقه، ولهذا وقف في قضية (ختان البنات) وقفة شديدة، تبنَّى أشدَّ الآراء فيها، والأمر أهون من ذلك. ولذلك اختلف فيها المسلمون فقها وعملا، فالبنات في بلاد الخليج، وفي بلاد الشمال الأفريقي، وبلاد شتى لا يعرفن هذا الختان.
غير أنى أقول: إن الرجل في فتواه لم يخرج عن دائرة الفقه، وأفتى بما يراه صوابا، ولا يُلام المرء علي ذلك، وهو لم يَدَّعِ يوما أنه مجدِّد أو مجتهد.
ورأيي أن صاحب النزعة التقليدية في الفقه، أفضل من أولئك الذين يدَّعون الاجتهاد والتجديد وهم ليسوا له بأهل! فيحلُّون ما حرَّم الله، ويسقطون ما أوجب الله، ويشرعون في الدين ما لم يأذن به الله.
لقد كان الشيخ جاد الحق صادقا مع نفسه، صادقا مع أمته، صادقا – قبل ذلك كله – مع ربه، فلم يبالِ برضا الناس فيما يعتقد أنه الحقُّ.
وقد كان رجلا مهذَّبا، صاحب خلق وفضل، تطاول عليه بعض الناس وهاجموه، فقابلهم بالصمت والتعفُّف، ودفع السيئة بالحسنة: فالحياة أغلي من أن تضيع في المهاترات.
وكان كلُّ الذين يتعاملون معه من الرجال العاملين في الساحة الاسلامية، يحترمونه، ويعترفون بفضله، ومكارم أخلاقه. أذكر من هؤلاء: الدكتور يوسف الحجي، والأستاذ كامل الشريف.
ولقد قدَّرت مؤسسة الملك فيصل الخيرية مواقفه، فمنحته (جائزة الملك فيصل العالمية) لخدمة الإسلام. وأظنُّه تبرع بها لجهات خيرية.
وكانت عقليته عقلية القاضي، الذي ينظر إلى الأمور بهدوء واتزان، دون غضب وانفعال، ثم يحكم بما يراه أدنى إلى الصواب.
ولقد اتسع الأزهر في عهده، معاهد وكليات، إتماما وامتدادا لما قام به الرجل الصالح الشيخ عبد الحليم محمود غفر الله له.
كما رأس الشيخ جاد الحق المجلس الإسلامي الأعلى للدعوة والإغاثة، وهو مجلس عالمي يمثِّل المسلمين في أنحاء العالم، ويضمُّ عشرات من الجمعيات والمؤسسات الخيرية والدعوية في العالم الإسلامي، وبين الأقليات الإسلامية في المغرب والمشرق. ويقوم على أمانته رجل من رجال الدعوة والغيرة وحسن الفَهم، وهو الأستاذ كامل الشريف. وقد أُسِّس في عهده رحمه الله، وهذا جعله يتصل بالجمعيات والمؤسسات العاملة في هذه الساحة المهمة، وقد رأوا فيه رجلا خيِّرا غيورا علي الإسلام، لا يدَّخر وسعا في مساعدة الذين يعملون لخدمته.
رحم الله عَلَمَنا الكبير الشيخ جاد الحق، وجزاه عن الأزهر ومصر والإسلام خير ما يجزي العلماء العاملين، والرجال الصالحين.
اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا فيها خيرا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)