الشيخ المحلاوي … ثلاثة وتسعون عاما من العطاء
بقلم فايز النوبي
يُكْمِل اليوم “شيخُنا المِفْضال أحمد عبدالسلام المحلاوي” — — بفضل الله عزوجل — عامَه الثالث والتسعين ، فقد وُلِد — حفظه الله — في الأول من شهر يوليو عام ألف وتسعمائة وخمسة وعشرين ميلادية – 1/1/1925م – في قرية عزبة المحلاوي بمحافظة كفر الشيخ.
أتم حفظه للقرآن الكريم في كُتّاب قريته ثم التحق بالدارسة الأزهرية بمعهد طنطا ، التحق بعدها بكلية الشريعة بالقاهرة –وتزوج وأنجب وأدى فريضة الحج وهو مايزال طالبا — وأنهى دراسته بالكلية عام 1954م ، وبعدها بعامين حصل على درجة تخصص التدريس– الماجستير– من كلية اللغة العربية ؛ ليُعَين بعد ذلك إماما وخطيبا ومدرسا في وزارة الأوقاف بمدينة البُرُلُّس بمسجد السطوحي ، واستمر بها خمس سنوات ، بعدها انتقل إلى محافظة الإسكندرية بناء على أمرٍ وتكليفٍ من وزير الأوقاف وقتها فضيلة الدكتور محمد البهي — رحمه الله– والذي وجد أن الشيخ المحلاوي من الأئمة النشيطين ، والعلماء المتميزين ، والذين ينبغي أن يَعُمَ النفعُ بهم وتستفيد منه جماهير الإسكندرية فنُقِل إليها ، وعمل بمسجد سيدي جابر ، والذي جعل منه الشيخ شعلة نشاط ، استفادت منه جماهير غفيرة بالإسكندرية في كافة النواحي الإجتماعية والدينية والسياسية والثقافية والتعليمية للطلاب والتلاميذ ، وكَوَّن مع بعض المخلصين من أساتذة الجامعة مشروعا أطلق عليه اسم “الجامع والجامعة” لمعاونة الطلبة ورعايتهم دينيا وعلميا ، وماديا واجتماعيا ، وأسس الشيخُ المحلاوي مع عدد من إخوانهِ وزملائه المخلصين : جمعية “علماء المساجد بالإسكندرية” لتكون منبرا ومؤسسة يتحرك من خلالها العلماء والدعاة ؛ لخدمة الدين والوطن ، ورعاية مصالح الدعوة والدعاة ، ويُذْكَر للشيخ الجليل عمله وسعيه ونشاطه خلال رئاسته للجمعية ؛ للنهوض بالدعوة والدعاة ، ويسّر اللهُ على يديه الحصولَ لعددٍ من إخوانه وزملائه الأئمة على شقق سكنية كان الشيخ بفضل الله — عزوجل — سببا فيها بعد مقابلاته لبعض المحافظين ، ولم يُطالب لنفسه بشقة سكنية وقتها رغم حاجته لذلك بسبب صِغر وضِيق مَسْكنِه.
وبعد الإفراج عن قادة وأعضاء الحركة الإسلامية في بداية عهد السادات والذين تم حبسهم أيام الطاغية عبد الناصر ، استقبلهم الشيخ المحلاوي وقَدَمَهم في مسجده بسيدي جابر وخاصة قادة وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين ، الأمر الذي حمل الحاسدين للشيخ والحانقين عليه في النظام الساداتي أن يُوشوا به ، فيَصْدُر قرار من السادات بنقله من الإسكندرية إلى محافظة كفر الشيخ سنة 1977م ، ولم يُنَفذ الشيخ القرار ، وتمسك بحقه في البقاء بمسجده وبين جماهيره إلى أن استقر الأمر بالحكومة أن تبقيه بمدينة الإسكندرية على أن ينتقل إلى مسجد القائد إبراهيم بمنطقة محطة الرمل — وهو منطقة راقية — في وسط الإسكندرية ومركزها، وبجواره الكليات والجامعة ، ومنظمة الصحة العالمية ، ومعظم القنصليات الأجنبية والمحاكم ، والمؤسسات والمكاتب الحكومية، وكذا المستشفى الأميري الجامعي الذي يَفِد إليه الناس من سائر الأقاليم زائرين وطالبين للعلاج ،
وخارج المسجد ميدان فسيح يسع الآلاف من الجماهير ، فكان انتقال الشيخ لهذا المسجد بهذه المنطقة فاتحةَ خير ومصدرَ اشراقٍ كبير له ولدعوته وجماهيره العريضة ، وانطلق الشيخ يصدع بالحق ناصحا للشعب والرئيس ، وناقدا للأوضاع الفاسدة ومطالبا للحكومة أن ترعى أمور الناس وتعمل لمصالحهم ، وأقام فضيلته كثيرا من المؤتمرات والندوات الحاشدة فى مسجده القائد ، بالتعاون مع إخوانه في الحركة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين والوطنيين الشرفاء ، وكذا زميله وصديقه الواعظ الجرئ فضيلة الشيخ “محمود عيد” خطيب مسجد السلام ببوكلي — رحمه الله– والذَيْن كَوّنا ثنائيا للدعاة الأحرار المخلصين الصادعين بالحق بالإسكندرية ، أقلق النظام وأضج مضجعه ، الأمر الذي جعل السادات ونظامه يَضِيق به ذرعا ، فصدر القرار بمنعه من الخطابة وايقافه عن العمل ثم اعتقاله قبل شهرين من أحداث سبتمبر عام 1981م .
وظل الشيخ في اعتقاله بسجن الإستقبال بطرة لمدة عام ، ثم أُفرج عنه في يوليو سنة 1982 في بداية عهد المخلوع حسني مبارك ، واستمر منعه من العمل بالمساجد والخطابة ، وحاول المسؤلون في الدولة ووزارة الأوقاف إغراء الشيخ بقبول العمل مفتشا أو مديرا بالأوقاف ، فأبى إلا أن يعود إماما وخطيبا — ورغم حصوله على حكم قضائي بعودته للعمل — لم يُنَفَذ الحكم إلا في نهاية عام 1984م بعد مجئ الدكتور محمد الأحمدي أبو النور — رحمه الله — وزيرا للأوقاف ، والذي التقى به الشيخ باستراحة الوزير بالإسكندرية، وطالبه بحقه في أن يعود لمسجده وجماهيره ، وأظهر له صورة الحكم القضائي — بأحقيته في العودة للعمل — فأجابه الوزير : لامانع عندي من عودتك بشرط أن لاتهاجم أحدا من الحكومة . فرد عليه الشيخ : أنا ولله الحمد إمام ملتزم بما يُمْليه علىّ ديني وضميري، وعملي ورسالتي علىّ تحتم قَولَ الحق والجهر به ومحاربة الفساد والمفسدين ، فوافق الوزير — خاصة والشيخ يحمل حكما قضائيا ، وطبعا بمشورة الوزير مع رجال الأمن الذين كانوا يعلمون أن الشيخ المحلاوي رغم جرأته وصدعه بالحق وفضحه للفساد والمستبدين لكنه عالم صادق ورجل معتدل صاحب منهج وسطي ، فهو عندهم أرحم من التكفيريين وحاملي السلاح على الدولة — فعاد الشيخ لمسجده وفرح أحبابه وتلاميذه بعودته وقُدُومه ، فحملوه على الأعناق فرحين مستبشرين.
واستمر فضيلة الشيخ المحلاوي بمسجد القائد إبراهيم معلما ومربيا للجماهير بالإسكندرية وبمصر كلها ، ومرشدا وقائدا للدعاة والأئمة المخلصين ، وصادعا بالحق ومفسرا لكتاب الله –عزوجل — من خلال خطبه ودروسه وساعيا لقضاء حوائج المسلمين وعون الفقراء والمساكين من خلال مايجود به الخَيّرون ،وحتى بعد أن أُحيل للتقاعد استمر بالعمل بمسجد القائد إبراهيم لحاجة الناس إليه وتمسك الجماهير به ، إلى أن أوقفه المخلوع حسني مبارك عام 1996م ، لكنه عاد للخطابة والتدريس بالمسجد وقيادة الجماهير بالإسكندرية أثناء ثورة يناير المجيدة عام 2011م ، إلى أن وقع الانقلاب المشئوم ، فظل الشيخ في بيته بشقته المتواضعة — غرفتين وصالة فوق السطوح بمنطقة كليوباترا — والتي لم يُغَيّرها منذ مجيئه الإسكندرية عام 1963م .
ومايزال فضيلته بفضل الله — عزوجل — رغم بلوغه الثالثة والتسعين من عمره بكامل صحته وعافيته وذاكرته ، يلتقي أحبابه وتلاميذه بمنزله ، بل ويُلقي لهم درسا اسبوعيا في التفسير ، ويرد من خلال الهاتف على أسئلة واستفسارات الجماهير ، ويقضي مااستطاع من حوائج المسلمين ،
وتربط فضيلة الشيخ المحلاوي علاقة أخوة في الله ، ومحبة عميقة بفضيلة العلامة الشيخ “يوسف القرضاوي” -‘ حفظه الله — رغم أنهما لم يلتقيا سوى مرة واحدة في الدوحة عندما زار الشيخ المحلاوي أخاه العلامة القرضاوي في قطر أواخر الثمانينات من القرن الماضي ، ورغم ذلك تجد كلا منهما يسأل عن الآخر ويدعو له بخير ويطلب مني إن هاتفته أو قابلته : إبلاغ التحية والسلام لأخيه.
ومن عجائب هذه المحبة وتلك الإخوة قول الشيخ المحلاوي في الشيخ القرضاوي : تمنيت لو صَلح هذا التمنى وهذا الدعاء وهو: أن يأخذ الله من عمري ويعطيه للشيخ القرضاوي ، فإن النفع به أعظم وأشمل . وعندما نقلتُ هذه العبارات وذكرتها لشيخنا القرضاوي — حفظه الله — رَقّ وتأثر واغْرورقت عيناه بالدموع ، وقال بعبارات فيها تأثر وبكاء : حفظ الله الشيخ المحلاوي وحفظكم وبارك فيكم.
ومن اقترابي من الشيخين الفاضلين بفضل الله عزوجل وجدت لديهما صفات وخصال عديدة مشتركة ، أهمها العمل بالإسلام والعمل من أجل الإسلام والإخلاص والجد في حمل أمانة الدعوة والاهتمام بأمة الإسلام مع الجرأة في قول الحق والصدع به ، والزهد والورع وعدم الحرص على الجاه والمنصب ، والتواضع في عزة والمحبة للمسلمين والحُنوّ والإهتمام بالأحباب والتلاميذ، حفظهما الله وبارك فيهما.
وللشيخ المحلاوي سبعة من الأبناء ثلاثة ذكور وأربع إناث ، ولديه من الأحفاد واحد وعشرين حفيدا ، أكبر أبنائه الأستاذ محمود المحلاوي وهو ضابط سابق بالقوات المسلحة تخرج من الكلية الحربية فى بداية السبعينات وتم فصله من الخدمة في عهد السادات عقب اعتقال والده ، وأخرجوه للتقاعد برتبة النقيب وهو يعمل الآن مديرا للحسابات بإحدى الشركات بالإسكندرية ، وأما ابنه الثاني فهو الأستاذ عبدالله المحلاوي خريج كلية العلوم ، ويعمل مدرسا للرياضيات بالمدارس الثانوية ، والثالث أحمد المحلاوي درس بالأزهر وتخرج من كلية اللغة العربية ويعمل بالإسكندرية ، والإناث هن الأستاذة فاطمة خريجة كلية العلوم ومتزوجة من المهندس إبراهيم والذي كان معلما وضابطا بالكلية الفنية العسكرية وتم فصله وقت إعتقال الشيخ أيضا في عهد السادات، والابنة الثانية هي الدكتورة هناء المحلاوي تعمل طبيبة وزوجة الدكتور طبيب علاء أبو الحمايل ، والثالثة الدكتور هدى المحلاوي وتعمل طبيبة وزوجة الدكتور طبيب محمد أحمد ، والرابعة الأستاذة إيمان المحلاوي المحامية وزوجة المحامي الصعيدي السكندري عبد الحليم علام.
وتزوج الشيخ المحلاوي مرة واحدة في حياته من زوجته وحبيبته ورفيقة عمره ، وأم أولاده الحاجة أم محمود حفظها الله وأمدها بالصحة والعافية .
وأحمدُ الله — عزوجل — الذي عرّفني وقرّبني من هذا الشيخ الجليل منذ أكثر من أربعين عاما ، فقد عرفت الشيخ المحلاوي المعروف بعلمه وحركته ونشاطه ، وسمته وقوة شخصيته ، وطوله الفارع — فقد أعطاه الله عزوجل بسطة في العلم والجسم — وقت أن كنت طالبا في المرحلة الثانوية عندما كان يزور معهدنا الأزهري بسموحة ويَفِد زائرا لشيخ المعهد وقتها ابن محافظته كفر الشيخ فضيلة الشيخ محمد أبو اخوات — رحمة الله عليه — ومتفقدا للطلبة والمعهد ومساهما في شراء المقاعد للطلبة من أموال الخيّرين الذي تَحَمّل أمانتها ومايزال يؤديها على خير وجه .
وتوطدت صلتي به ، وزاد القرب منه بعد تخرجي وتعيني إماما وخطيبا بالإسكندرية ومن فضل الله عزوجل أنه كان يُنيبُني في مسجده أثناء سفره وتغيبه، بل إنه كثيرا مارشحني أمام المسؤلين بالوزارة كي أَخْلُفه في مسجده بعد تركه له وتقاعده وهذه ثقة اعتز بها وأحمد الله عليها .
زار شيخنا المفضال كثيرا من دول العالم في أوروبا وأمريكا ، ورافقته بفضل الله عزوجل في بعض زياراته وسفرياته خاصة وقد عُرِف الشيخ وذاع صيتُه عالميا بعد أحداث سبتمبر عام 1981م وعقب خطاب السادات الذي سبّ فيه الشيخ ووصفه للأسف الشديد بأنه : مرمي في السجن زي الكلب ، ولم يعش السادات بعدها سوى أيام قليلة ، فنكَّل الله به وأصبح بعدها جيفة تعافها الكلاب .
حفظ الله شيخنا المفضال — والذي نحسبه وآلله حسيبه من العلماء العاملين والزاهدين الورعين– فضيلة الشيخ أحمد المحلاوي وبارك في عمره وأمده بالصحة والعافية ، وسائر العلماء العاملين ، والدعاة المخلصين وجمعنا به عن قريب بقدرته ورحم الله عبدا قال آمين.
(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)