الشيخ المحدث محسن بن يحيي الفريني الترهتي المونكيري صاحب اليانع الجني
هو العلامة الفاضل والشيخ النبيل صاحب الكتاب الطائر الصيت “اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبدالغني” من أحلى أثبات المتأخرين على قول مؤرخ الأسانيد والأثبات العلامة عبدالحي الكتاني المغربي، وهو العمل الوحيد لهذا العالم الفريد النابغ الذي يمثل أسلوبا رائعا بديعاً سلسالا في العربية أعجب كبار علماء العربية، فوصفوه وصفا ومدحوه بكلمات عظيمة، ومن الذي أخذهم سحر أسلوب الكتاب العلامة الشهير الشيخ أبو الحسن علي الندوي كاتب العربية القدير والعالم المتضلع منها، فإننا نرى الشيخ يصفه في كتاباته ونراه معجبا بأسلوبه، ويعدّه بعد الشيخ ولي الله الدهلوي أكبر العلماء في قدرته البديعة على الكتابة العربية والاسترسال في الكلام،(1) كما يعترف بمكانته في ذلك في تعليقه على ترجمة الشيخ في كتاب والده الإعلام بمن في الهند من الأعلام الشهير بنزهة الخواطر.(2)
ويقول العلامة عبدالحي الكتاني في كتابه وهو يصف الكتاب: ” وبالجملة فإن الكتاب المذكور هو أحلى أثبات المتأخرين وأوثقها سياقاً وأعذبها مورداً، وأفصحها كتابة وأصوبها في الضبط، ولا أعجب من إنشاء مؤلفه بالعربي مع أنه عجمي اللسان والنسب ولله في خلقه عجب”.(3)
وقال: “وفي حق الثبت المذكور (أي اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبد الغني ) أنشد شيخنا عبد الجليل برادة لنفسه:
أيَا طَالِبًا عِلْمَ الحَدِيثِ مُسَلْسَلاً وبالسَّنَدِ العَالي المُعَنْعَنِ قَدْ عُنِي
عَلَيْكَ إذَا مَا رُمْتَ تَظْفَرَ بالمُنَى وتَجْنِي ثِمارَ العِلْمِ باليَانِعِ الجَنِي
والبيتان قد تمّ إثباتهما على غلاف الكتاب المخطوط منه والمطبوع بالطبعة الأولى في الهند.
ولكن الأسف أننا رغم مكانته العلمية العظيمة هذه والإكثار من الإحالة إليه وتكررها في الأثبات والأسانيد والمصادر لا نجد من أخباره وقصص حياته ومكارمه إلاّ ما ذكره لنا الشيخ عبدالحي الحسني في كتابه الطائر الصيت الإعلام السابق ذكره، وهو كذلك استفاد هذه المعلومات من كتابه هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه، فإنه لعله قد قام بدراسة الكتاب عن آخره مراراً لحاجته إلى تراجم العلماء الوارد ذكرهم في الكتاب، وقد أكثر من نقل مقتبساته في تراجم رجال أسرة الإمام ولي الله الدهلوي وغيرهم ممن ذكرهم الشيخ الترهتي، فإنّ الكتاب مع ما وصفناه به أول وأوثق مصدر بالعربية في تراجم هؤلاء، ويتحدث عنهم في شيء من التفصيل، كما أشار إليه العلامة السيد صديق حسن القنوجي البخاري في كتابه “أبجد العلوم” في ترجمة الإمام ولي الله الدهلوي قائلاً: “وذكر له معاصرنا المرحوم المولوي محمد محسن بن يحيي البكري التميمي الترهتي ترجمة بليغة في رسالته اليانع الجني وبالغ في الثناء عليه، وأتى بعبارة نفيسة جداً، أطال في ذكر أحواله الأولى والأخرى وأطاب، فإن شئت زيادة الاطلاع فارجع إليها”.(4)
فنذكر من أحوال الشيخ الترهتي وأخبار حياته ما اطلعنا عليه بعد البحث والتحقيق.
كان الشيخ ـ كما يخبرنا الشيخ منة الله الرحماني أحد كبار علماء الهند وهو من أقاربه وأقرب إليه وطناً ـ أصله من سلالة بكرية من مدينة مونكير الواقعة في ولاية بهار من الهند من إحدى قراها المسماة بـ”مظفره”، ثمّ انتقلت أسرته منها إلى قرية قريبة اسمها “خضرجك” (5)ـ بالجيم الفارسي ـ وتلك المنطقة هي مساكن السلالات القرشية العربية البكرية وغيرها، والمنطقة كانت إذ ذاك تعرف بـ”ترهت” ولم تكن قرية الشيخ تابعة لمديرية مونكير بل كانت تابعة لمديرية “ترهت” التي كان يفصلها عن مديرية “مونكير” نهر الكنك، ثم ألحقت القرية بمدينة مونكير في تنظيمها الإداري.(6)
وبما أنّ والد الشيخ كان موظفاً رسميّا في مدينة فورنيه ـ التي كانت تابعة لولاية بنغاله سابقاً ثم ألحقت بولاية بهار ـ وكان هناك مع أسرته،(7) فلعلّ ولادته كانت خلال إقامته بها فنسب نفسه إلى كلتا المديريتين إذ أثبت النسبتين الفريني والترهتي على غلاف كتابه اليانع الجني، وذكر نسبة التيمي لما أنّ سيدنا أباكر كان من بني تيم، فنجد على غلاف الطبعة الأولى من الكتاب ـ ولعلها تعتمد على أصل المصنف ونسخة الشيخ عبدالجليل برادة الذي نسخها من أصل المصنف بعد ثلاثة أشهر من التأليف: “تأليف العبد الفقير إلى ربه الغني محمد بن يحيى المدعو بالمحسن التيمي الترهتي الفريني عفا الله عنه وعن سلفه “وقد زاد عليه الشيخ عبدالجليل برّاده كلمة “فريد دهره ونادرة عصره” في نسخته التي نسخها بعد ثلاثة أشهر من تصنيف الكتاب، والمخطوط موجود في مكتبة الحرم النبويّ الشريف، مما يدلّ على الاعتراف بمكانته، فقال “اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبدالغني متعنا الله ببقائه وطيَّب الخافقين بعرَف ثناءه، تأليف فريد العصر ونادرۃ الدھر الشيخ محمد بن يحييٰ المدعو بمحسن التيمي ثمّ البكري الترهتي ثمّ الفريني عفا الله عنه وعن سلفه وعن مشايخه وذويه”. كما أنشد قصيدة في الثناء على عمله العلميّ هذا وهي مثبتتة في خاتمة الطبعة الهندية وسندرجها بتمامها.
أمّا اسمه واسم والده فكان كلّ من الاسمين مركباً على عادة الأسماء الهندية فكان اسمه محمد محسن مع إضافة كلمة محمد تبرّكا على عادة أهل الهند، واسم والده غلام يحيى كما ذكره الشيخ منة الله الرحماني المونكيري،(8) ثمّ مراعاة للذوق العربي إنه أثبت الاسمين على غلاف كتابه “محمد بن يحيى المدعو بالمحسن”، وكذا ذكر أسماء جلّ من ذكره من رجال الهند، وكان اسمه جده ـ كما تدلنا عليه الوثيقة الرسمية للوقف ـ(9) “كردگاربخش” ومعناه عطية الصانع، ولا نعرف الأسماء فوقه من نسبه إلى سيدنا أبي بكر.
لم نطلع على شيء يقطع بتاريخ ولادة الشيخ، وبما أنّ العلامة الكتاني حكى وفاته عن الشيخ أبي الحسن على بن ظاهر المدني في بداية العقد الأخير من القرن الثالث عشر الهجري في الثلاثين من عمره ـ كما نحققه في ما بعد ـ فنكاد نقدر ولادته في نحو51ـ1250هـ الموافق 38ـ1837م، وما ذكره الشيخ عبدالحي الحسني في الإعلام أنه “ولد ونشأ في بورنيه من أرض ترهت” فلعلّ ذلك قياس منه لنسبته في الكتاب، لأنها لم تكن فورنيه من أرض ترهت بل غيرها كما ذكرنا، وعسى أن يكون قد سمع من بعض معاصريه لأنه أقرب إليه عهداً.
بدأ الشيخ دراسته في منطقته، وكان والده يحتلّ منصباً عاليا في وظيفة من الوظائف الرسمية ويملك مالاً كثيراً فأنفق على تعليم نجله بكلّ رجابة صدر(10).
إنّ الشيخ ذكر أساتذته في تعليق له على كتابه المذكور، وهذا ما ذكره الشيخ عبدالحي الحسني في “الإعلام بمن في الهند من الإعلام” بكلماته وعبارته.
وذكر الشيخ الرحماني أنه تلقى مبادئ دراسته في مدينة كلكتا، وليس لنا مانع من الاعتراف بهذا إلاّ أنّ هناك له أساتذة بارعين ذكرهم وهم ينتمون إلى المنطقة التي كان ينتسب إليها، أشهرهم الشيخ المحدث والعالم الشهيرسعيد العظيم آبادي من أشهر المدرسين في مدينة عظيم آباد الشهيرة ببتنه، وكان قد استفاد من الشيخ سلامة الله البدايوني في كانفور، وقد تلمذ عليه المترجم له، كما كان قد استفاد من علماء الحجاز خلال رحلته إلى الحج، وعسى أن يكون له الأثر الأكبر في تكوين شخصيته، ولعله هو الذي كان قد أشار عليه بالاستفادة من الشيخ سلامة الله وكبار علماء الحجاز.
أمّا أساتذته الآخرون فممن ذكرهم الشيخ بنفسه، الشيخ محمد وجيه الكلكتوي الذي كان من كبار المدرسين ورئيس الأساتذة في المدرسة العالية بكلكتا، ولكن كان أصله من منطقته ترهت ولم يزد على ذلك كما في الإعلام للحسني(11). وعسى أن يكون قد استفاد منه في مدينة كلكتا، أو يمكن أن يكون قد استفاد منه في منطقته ترهت.
وكان منهم الشيخ واجد علي العمري البنارسي، وقد ذكره الحسني في الإعلام، وعلى قوله كان من كبار علماء المنطق والحكمة، توفي في بلدة جهبره التابعة لبهار في 23 ربيع الأول سنة 1276هـ(12)
وكان منهم الشيخ سلامة الله البدايوني ثم الكانفوري من تلامذة الشيخ عبد العزيز الدهلوي وصنوه الشيخ عبد القادر الدهلوي، وكان قد قرأ الحديث على الأول ثمّ قام بالتدريس في مدينة لكنو وكانفور حيث قضى حياته كلها في هذه الخدمة وتوفي في 3 رجب سنة 1280هـ.(13) ووصفه الشيخ عبدالحي بالشيخ العالم المحدث، وقال كان من كبار العلماء.(14)
وأمّا الشيخ سعيد بن واعظ على العظيم آبادي الذي مرّ ذكره فسافر إلى كانفور وقرأ على الشيخ سلامة الله البدايوني ثم قام بالتدريس في عظيم آباد ثم رحل للحج والزيارة فأخذ الحديث هناك عن السيد محمد بن علي الحسيني السنوسي الخطابي والشيخ عبدالغني الدمياطي والشيخ السيد محمد العطوشي والشيخ يعقوب بن محمد أفضل العمري الدهلوي المهاجر، توفي في 4 شعبان 1304هـ عن عمر يناهز73 سنة.(15) كما كان من تلامذته المحدث الشهير ظهير أحسن النيموي العظيم آبادي.
ذكر الشيخ الترهتي أنه أخذ عنهم النحو والعربية، ولكن لا يستبعد أن يكون قد استفاد منهم مبادئ الفقه كما كانت العادة المتبعة في التعليم آنذاك.
ويقول الشيخ الترهتي في كتابه في ترجمة الشيخ سلامة الله”وھو من أجلة أشياخي في الهند، انتفعت به كثيراً وصحبته نحو سنتيں، وسمعت عليه من أوائل كتاب البخاري ومن غيره سماعاً ليس بالمنتظم”.(16)
ثمّ يقول في تعليقه عليه في الهامش: “أجلّ مشائخي الذين كثر بهم انتفاعي ولو قليلاً من الزمان ھؤلاء الذين ذكرتهم علي الترتيب، فأولهم الصدر ركن الدين القرشي الترهتي ثمّ الشريف عبد الغني المفتي السارني و علي جواد السلھطي البنجالي ثم الفقيه المدرّس الأجلّ أبو الفضل محمد المدعو بوجيه الدين البكري الترهتي ثم الكلكتي، ثمّ سعيد بن الواعظ علي البكري العظيم آبادي، أخذت عن ھؤلاء النحو والعربية، ثمّ ارتحلت إلي الشيخ سلامة الله صاحب الترجمة وانتفعت به في أنواع العلوم ثمّ إلي أبي العلاء الفضل بن الفضل العمري ثم بالواجد(كذا في النسخ) علي بن إبراهيم بن عمر البنارسي العمري رحمھم الله تعالي وأثابھم الجنة وجزاھم عني خير الجزاء”.
وهذه العبارة هي التي كتبها الشيخ عبد الحي الحسني بكلماته كما يلي: “وأخذ عن الصدر ركن الدين القرشي الترهتي ثم الشريف عبدالغني المفتي السارني وعلي جواد السلھتي والفقيه محمد البكري الترهتي ثمّ الشيخ محمد سعيد بن واعظ علي العظيم آبادي، أخذ عن ھؤلاء النحو والعربية ثمّ سافر إلى كانفور، ولازم الشيخ سلامة الله الصديقي البدايوني، وصحبه نحو سنتين، وسمع عليه من أوائل كتاب البخاري سماعاً ليس بالمنتظم، وانتفع به في أنواع العلوم ثمّ لازم العلامة فضل حق بن فضل إمام الخير آبادي وقرأ عليهم، ثمّ قرأ على المفتي واجد علي بن إبراهيم بن عمر البنارسي، ثم منّ الله عليه بالحج والزيارۃ فسافر إلى الحرمين الشريفين وأخذ عن المحدث عبد الغني بن أبي سعيد العمري الدھلوي بالمدينة المنورة”.(17)
والشيخ فضل حق بن فضل إمام الخير آبادي من أشهر علماء العلوم العقلية في الهند صاحب سلسلة علمية فيها، والظاهر أن الشيخ استفاد منه فيها وعليه قرأ جميع كتب الفنّ على عادة أبناء ذلك الزمان.
وقد ذكر الشيخ منة الله الرحماني أنه ذهب إلى دهلي، ولعله أخطأ إذ قدر أنه استفاد من الشيخ عبد الغني الدهلوي في دهلي، لأن الشيخ الدهلوي كان قد هاجر إلى الحجاز في السنة التي حدثت فيها الثورة في الهند، أي سنة 73ـ1272هـ الموافق 1857م، ونكاد نقدر مدى سن الشيخ محسن الترهتي في تلك السنة ثلاثة أو أربعة عشر، ويستبعد عادة من الفتيان في هذه السنة في الهند أن يدرس كتب الحديث، ثمّ إنه بنفسه لم يذكر استفادته في الهند إلاّ من الشيخ سلامة الله البدايوني.
ثم رحل الشيخ إلى الحجاز، وعلى قول الشيخ منة الله الرحماني أقام هناك سبع سنوات، يستفيد ويدرس، ثمّ أفاد،(18) ولكن لا نطلع على شيء من تفاصيل ذلك، ممن أخذ عنه الشيخ واستفاد غير الشيخ عبدالغني، وذكر الشيخ عبد الستار الدهلوي في ترجمة الشيخ علي بن ظاهر الوتري المذكور وصديق المترجم له أنه “سمع منه(من الشيخ عبدالغني) جميع المسلسلات التي في آخر حصر الشارد مرتين، إحداھما حين قدم عليه الشيخ محسن بن يحييٰ البكري الصديقي مؤلف اليانع الجني المدينة المنورۃ، قرا عليه الستة بكمالها وغيرھا”(19) مما يدلّ على أنه قرأ على الشيخ عبدالغني جميع الصحاح السته وعرضها عليه، ولعله كان من أحب الطلبة إليه مما دفعه إلى جمع أسانيده.
وخلال هذه الفترة نسخ الكثير من الكتب من مكتبات المدينة المنورة والحجار وادخر مكتبة كبيرة بالنسخ والاشتراء عاد بها إلى الهند و نظم في قريته تلك المكتبة النادرة التي كانت تحوي النوارد الكثيرة من الكتب، وقد شاهدها الشيخ منة الله الرحماني والشيخ مناظر أحسن الكيلاني، (20) وكلاهما شهدا بعظمتها وندرتها وأشادا بها. حتى إن بعض كتبها كانت بمثابة أن عرضت عليها الكتب للتصحيح في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد.
أما وفاة الشيخ فقد كانت على اطلاع الشيخ عبدالحي الكتاني في المدينة المنورة كما يقول نقلاً عن أستاذه الشيخ علي بن ظاهر الوتري فيقول “ووجدت بخط مجيزنا أبي الحسن علي بن أحمد بن موسى الجزائري علي ھامش ’”قطف الثمر”في حق محمد يحيىٰ المذكور نقلا عن شيخنا أبي الحسن علي بن ظاهر الوتري أنه توفي بالمدينة المنورۃ في أوائل العشرۃ الأخيرۃ من القرن المنصرم بحرق أنوار جذب عرضت له، رحمه الله، لم يطق حملھا، قال عالجت تسكينه فأعياني أمره وقوي حاله إليٰ أن كانت به منيته وهو في حدود الثلاثين من عمره”(21).
ولو اعترفنا بأنه توفي في المدينة المنورة في رحلته الأولى ولم يرجع إلى وطنه لكذبنا قول الشيخ منة الله الرحماني والشيخ مناظر أحسن الكيلاني ومكتبته النادرة مع أنها أشهر من “قفا نبك”، كما لا يمكن الإعراض عما قاله الشيخ أبو الحسن الوتري وما فيه من تفصيل، فإنّ مثل هذا التفصيل والمشاهدة قلما يمكن صدور الخطأ فيه، إذاً التطبيق بين أقوال الشيخين في رأي هذا العبد الضعيف هو أنّ الشيخ رحل إلى الحجاز رحلته الأولى، واستفاد فيها من علماءها وأفاد أيضاً كما يقول الشيخ الرحماني، ثمّ خلال هذه المدة يمكن أن يكون قد رحل للاستفادة من المكتبات العلمية من الحجاز إلى مصر والبلدان الأوربية كما يقول أقاربه على ما سمعوا عن أباءهم، وهناك جمع الكتب النادرة ثمّ عاد بتلك المكتبة القيمة إلى وطنه، وقام بنتظيمها، ثمّ سرعان ما راح إلى الحجاز لأعماله، وهناك بعد قليل انتقل إلى رحمة الله تعالى، إذ لو أقام في وطنه مدة لما أمكن أن لا يشتهر أمر مثل هذا العالم الضليع، بينما لا نجد ذكره في شيء من المصادر والكتب التي ألفت في الهند أو في منطقته، ويمكن تقدير وفاته كذلك في بداية العقد الثامن من القرن الثاني عشر الهجري، أي سنة1281 أو 1282 هـ، الموافق سنة 68ـ1867م، وهذا ما عبر عنه الشيخ الوتري بـ”أوائل القرن المنصرم”، وليس معنى ذلك لزوما أن يكون في العقد التاسع قطعاً كما قدر سائد بكداش في كتابه حول الشيخ عابد السندي سنة وفاته 1293هـ،(22) إذ ربما يطلق العقد الأخير على ما قبله تجوزاً لأنه لو كان قد عاش عقداً لما أمكن أن لا يشتهر أمره ولا يصدر من قلمه شيء غير هذا، والله أعلم.(23).
والعجب من صاحب الفيض الملك المتعالي على إهمال ترجمته في كتابه مع أنه كان قد اطلع عليه ولقي الكثير ممن صحبه وعايشه وذكره في ضمن تراجم الكثير من الرجال كما ذكر أستاذه الشيخ سعيد العظيم آبادي، وكذا ينقل عنه مقتبسات وعبارات،(24) وقال عن الشيخ الترهتي والده الشيخ عبدالوهاب الدهلوي “كان ھذا ۔۔من أھل الحديث، وكان عالما كبيرا وذكيا” (25) ووصفه الكتاني بالشاب المحدث البارع العلامة.(26)
هذا ما ذكرنا عن المصنف، أمّا عن الكتاب فيمكن لكلّ أحد يراجعه أن يشهد بمكانة المؤلف وعظمته، وقد طبع طبعته الأولى في الهند من المطبع الصديقي بمدينة بريلي سنة 1287هـ بإشراف من صاحبها الشيح محمد أحسن الصديقي النانوتوي، ولا تشير كلمة من الكتاب أنّ المصنف على قيد الحيا مما يوثق رأيي في وفاته. وعسى أن يكون قد بنى هذه الطبعة على أصل المصنف أو نسخة صديقه الشيخ عبد الجليل برادة المدني الذي نسخ منه بعد ثلاثة أشهر من تأليف الكتاب، وأشاد بمكانة المؤلف وأثنى عليه، ثمّ صدرت له الطبعة الثانية على هامش كشف الأستار من دهلي بعد ذلك بكثير، ثمّ اهتمّ بطبعه الأستاذ ولي الدين الندوي (27).
قال المؤلف في نهاية الكتاب وهو يشرح في الخاتمة منهجه في الكتاب وكيفية تأليفه له: “قال مؤلف هذه العجالة وملفق ھذه الرسالة وقاه الله تعالىٰ شرّ نفسه وجعل يومه خيراً من أمسه، ھذا آخر ما أرد الله سبحانه مني من جمع أسانيد الكتب السبعة وما يتعلق بها ومن تراجم أصحابها والثناء علي مصنفاتهم ثم من تذكرۃ بعض المشائخ رحمهم الله تعالىٰ، وله الحمد علىٰ ما أسعدني عليه، وكذا علىٰ سائر نعماءه التي لا يحصيها إلاّ ھو سبحانه، ولقد نفعني الربّ عند جمعها بكتب مفيدۃ من كتب المتقدمين من العلماء والمتأخرين منهم الخطابي والنووي، والعراقي، وابن حجر، والأسيوطي، والقطب ولي الله وابنه عبدالعزيز، وعابد السندي والشوكاني والفلاني والفاسي وغيرهم، رحمهم الله تعالىٰ جميعا، وجزاهم عني خير الجزاء، وأرجو أن أكون قد تحريت فيها الصواب وبالغت في الاحتياط، فمن اعتمد علىٰ شيء من ذلك رجوت أن يسوغ له إن شاء الله تعالىٰ.
وأمّا وفيات رجال الأسانيد وتحقيق أنسابهم فليس بتلك المثابة فإنما ألحقتها ملتقطا لها من نسخة لم أحسن قراءتها، ولم آمن عليها الغلط من الناسخ، وكنت عند ذاك مستعجلا لما يطول شرحه، وكذلك التذييل إليٰ آخره، فإنما أمليت أكثره علىٰ الكاتب إملاء من لفظي من غير سبق مسودۃ مني، ولا بدّ أن يكون فيه غلط ولحن، فمن وقف علىٰ شيء مني فاليأخذ بسيرۃ الكرام وليعذرني، فإني لم استاهل لما انتصبت له، ولم أعرف بذلك ولا بما هو دونه، والله المستعان۔
وقد وافق الفراٖغ منها عشية يوم الأربعاء لإحدى عشرۃ ليلة بقيت من رجب سنة ثمانين ومائتين وألف بالمدينة المنورۃ النبوية علي صاحبها السلام والتحية”.(28)
ثم نذكر ما وعدنا بإيراده من قصيدة الشيخ عبدالجليل براده المدني رحمه الله كما في الطبعة الأولى من الكتاب، وقد صدرها بهذه الكلمة ـ ولعلها من المصنف ـ: “وهذه صورۃ ما كتبه الحبر الجليل والفاضل النبيل أخونا في الله السيد عبدالجليل بن عبد السلام المدني مقرّظاً علي هذه الرسالة”.
“الحمد لله تعالىٰ وصلي الله علي سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم، يقول أسير ذنبه المفتقر إلىٰ عفو ربه عبد الجليل بن عبدالسلام برّاده المدني، لما سرحت الطرف في هذه الخبيلة وأجلت طرق الفكر في محاسنها الجميلة قيدت هذه الأبيات الحرية بعدم الإثبات راجياً ممن نظر إليها أن يسبل ذيل إغضاءه عليها، وهي:
لا يفتخر أحد بالنظم للدرر=لم يبق ذاك النثر فخر لمفتخر
وكيف لا وبه حسن النظام حوىٰ=إسناد أستاذنا عبدالغني العمري
هادي الطريقة منهاج الشريعة بل=حامي الحقيقة حقاً مقتفي الأثر
حويٰ أسانيد كتب سبعة جمعت =أصح ما جاء عن الهادي من الخبر
موصولة دون قطع صحّ مرسلها=وهو الغريب أتي في أحسن الصور
يرويٰ لنا وبه يرويٰ غليل صدي=ري البقاع أتاها رائق المطر
سلك منظم من زهر النجوم فما=أزهار روض أريض طيب عطر
إن تشتهي اليانع الداني الجني فخذ=في حصر شارده واقطف من الثمر
إني ومبدع هذا الحسن محسن من=أتي بكلّ عجيب الصنع مبتكر
ذاك السميدع رب الفضل من شهدت له الأفاضل من بدو ومن حضر
أبقاه ربي لأهل الفضل قدوتهم=يهدي الفضائل في الآصال والبكر
آمين
وجاء في النهاية خاتمة الطبع وقصيدة في سلسلة الطريقة ندرجها كاملة في ما يلي:
خاتمة الطبع
حامداً ومصلياً وبعد، فيقول العبد الضعيف محمد أحسن الصديقي غفر الله له ولوالديه، أحسن إليهما وإليه،إنه لله درّالمؤلف ما ألطف كلامه وأطيب مرامه
ألفاظ تحكي علوّالصانع معناه أحلي من قطوف اليانع
ولكن لما اقتصرر حمه الله في هذه الأرجوزۃ علي تقييد سلسلة شيخنا العلامة الظاهرية أردت أن أوشيها بطراز سلسلته الباطنية لتكون الصحيفة مجمع البحرين ويستفيد منها كل من سلك إحدي الطريقتين فاكتفيت من سلاسله بهذه الشجرۃ المنظومة المجددية لواحد من أصحاب أبيه فإنها إن شاء الله تعالي تكفي الطالب وتغنيه
القصيدۃ في السلسلة النقشبندية المجددية.
ربي بسرّ الذات عالي الشان وحبيبك المختار من عدنان
وكذا أبي بكر خليفته الذي فضـ ل الصحاب براجح الإيمان.
وكذا بسابق فارس من عدّ من آل الرسول المصطفى سلمان
وبقاسم أحد الكبار السبعة الفقهاء بحر العلم والعرفان
أيضاً بباب مدينة العلم الإمام عليّ الكرّار بالمطعان(29)
وكذا بمن لطفاً تنزل عن خلافة جدّه الحسن العليّ الشان
وبسيّد الشهدا الحسين المجتبى من كربه ينسي كرى الأجفان
وكذا بزين العابدين عليّهم وبباقر من للمعالم بان
وبمجمع البحرين جعفر من =من الصديق طامي والفتى الربّاني(30)
وكذا بسائر آل بيت المصطفى سفن النجاة أئمة الأعيان
وبقطب بسطام جناب أبي يز يد من سما بشواهد الإحسان
وكذا بمن يعزى لفارمد جناب أبي عليّ زال سرّ تدان
وبرأس سلسلة الشيوخ الغجدواني عبد خالق إنسهم والجان
وكذا بريوكريهم بحرالفضائل عارف بالله عن وجدان
وبمن إلى ابحير فغنى ينتمي محمود سيرة السرى الصمدانى
وعليّ الراميتني النساج قطب أعزة منحوا فيوض تهاني
ومحمد بابا السماسيّ الذي أسنى العوالم فيضه النوراني
وبسيّد السادات حبرهم كلال منبع العرفان ذي البرهان
وكذا بهاء الدين شاه النقشبد محمد غوث الورى السبحاني
وعلاء دين الحقّ عطارالوجود محمد بنقائح الرحمن
والمجتبى يعقوب الصرخيّ من شرف الوجود بفضله الإنساني
وكذا بناصر ديننا العالي عبيد الله من حاز المقام الداني
وهو الذي فلك العلى كحبابة في قلبه الطامي بفيض معان
ومحمد ذاك السمّي بزاهد في ما سواك من الحديث الفاني
وكذا بدرويش محمد الذي رقّى القلوب بنفحه الروحانيّ
ومحمد ذاك الشهير بخواجكي ومحمد الباقيّ بربّ داني
وكذا مجدد ألفنا الثاني المسمّى بأحمد قيّومنا الربّاني
ذاك الذي حاز المعارف والعلوم بكشف حقّ عنده وبيان
والعروة الوثقى المتين محمد=معصوم سرّ شاع في كتمان
وكذا محمدهم سعيد من حوى سرّاً أنيقاً جلّ عن أذهان
وكذا بعبد مهيمن أحد علا=و محمد هو عابد حقاني
وكذا بسيف الدين(31) ثمّ بسيّد=السادات نور محمد البدواني
وبمن سما فلك الشهادة شمس دين مظهر الأنوار ذي فيضان
وهمامهم أعني غلام عليّ المقدام قطب عوالم الإمكان
وأبي سعيد من له اسم محمد=نجل المجدد قبلة الأعيان
وبنجله عبدالغنيّ من الذي فاق الوري في العلم والعرفان(32)
جد يا إلهي منه وتفضلاً=بفيوض نور أقدس لجناني
أنا عبدك الجاني المسيئ بذنبه ولأنت ذو الإكرام والإحسان
ما لي جميل صالح أدنو به=فامنن عليّ بفضلك الرحمانيّ
وصلاتك العظمى على طه ومن تبع الهدى بمحبة الإيمان
هذا، ولما كانت هذه الرسالة تشتمل علي خبيات الأسرار مبني وتحتاج لكشف الأستار في بعض المواقع معني رفعت اللثام عن وجوه خرائدھا ووضعت علىٰ طرف الثمام كنوزفرائدھا، وأضفت منهيات المؤلف كما كانت في المنقول عنه مسطورۃ خصوصا علي الأسما(كذا) البلاد الهندية المشهورۃ ولله الحمد علي الإتمام وحسن الاختتام.
قطعة
تالله أحسن تحفة من محسن أكرم به لوذعيّ متقن
أتممتها طبعاً وقلت تيمنا أعني لعام الطبع عن عبدالغني
1287ھ
وآخردعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله علي سيدنا و مولانا محمد وآله وصحبه أجمعين”(33)
وعلى كلّ فإن هذا الكتاب لا يزال يعدّ أهمّ مصدر في عالم الأثبات والأسانيد وفي ذكر رجال الحديث من الهند ولا سيما من أسرة الشيخ ولي الله الدهلوي رحمه الله، والناس لا يزالون يستفيدون منه منذ أول يومه ولكن لا يعرفون من نسبة مؤلفه وأحواله وأخبار حياته فيخطؤون، وقد استفاد منه الشيخ عبد الحي الحسني في نزهة الخواطرالشهير بالإعلام بمن في الهند من الأعلام كثيراً، وكذا العلامة عبدالحي الكتاني في فهرس الفهارس وأكثر من الإحالة إليه، والعلامة صديق حسن القنوجي في أبجد العوم والعلامة عبدالستار الدهلوي الصديقي في كتابه فيض الملك الوهاب المتعالي والشيخ المفتي محمد شفيع في ما زاد عليه بعنوان “الازدياد السني على اليانع الجني” وغيرهم. وترك الشيخ معظم أسانيد المسلسلات للشيخ عبدالغني الدهلوي ثمّ جمعها الشيخ عبدالستار الدهلوي بعد وفاته فاستوعب جميع الأسانيد ورتبها بعنوان “المورد الهني في أسانيد الشيخ عبدالغني” ولم يزل مخطوطاً. وتعجب على ترك كلّ ذلك الشيخ الكتاني وقال “وعندي صورة إجازتهما له والعجب من عدم إدراجها في اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبدالغني”.(34).
1 مجلة كاروان ادب الأردية يناير ـ مارس 1995م
2 7/ 49 طبعة حيدرآباد 2010م /1431هـ
3 فهرس الفهارس، 2/1165.طبع المغرب.
4 أبجد العلوم للقنوجي ص 708طبع دار ابن حزم بيروت.
5 مكاتيب كيلاني للشيخ منة الله الرحماني. طبعة مونكير1972م، ص 374 (هامش)
6 والآن هي تابعة لبلدة بيكوسراي من توابع مونكير وقريبة من محطة “بروني” الشهيرة للسكة الحديدية وتقع على شاطئ نهر كندك.
7 المصدرالسابق.
8 نفس المصدر.و بناء عليه ذكره الشيخ الكتاني باسم محمد يحيى في كل موضع من كتابه.فهرس الفهارس 2/1166
9 وهي وثيقة لوقف إقطاع وقفه والده بعد وفاته لمدرسة باسمه وهي مخزونة في المقرّ الرسميّ الإداري في مدينة مونكير وقد اطلعت على صورتها بعناية من المكرم مصباح الدين أشرف أحد أقارب الشيخ.
10 مكاتيب كيلاني. نفس الصفحة.
11 راجع نزهة الخواطر الشهير بالإعلام بمن في الهند من الأعلام للشيخ عبدالحي الحسني 7/561 طبعة حيدرآباد.
12 نفس المصدر 7/627
13 نفس المصدر 7/245
14 نفس المصدر 7/490
15 نفس المصجر 8/431. وذكره كذلك وترجم له الشيخ أبو الفيض عبدالستار الدهلوي في كتابه فيض الملك الوهاب المتعالي بأبناء القرن الثالث عشر والتوالي.
16 اليانع الجني.ص 147 طبع دارالأروقة عمان ـ الأردن 2010م.
17 الإعلام بمن في الهند ج۷ ص۰۹۴
18 مكاتيب كيلاني، نفس الصفحة.
19 فيض الملك الوهاب المتعالي بأبناءالقرن الثالث عشر والتوالي للشيخ عبدالستارالدهلوي رقم الترجمة 1457 طبع مكة المكرمة.
20 ذكرالشيخ الفاضل والعالم الشهير مناظر أحسن الكيلاني هذه المكتبة وكتبها في عدة مواضع من كتاباته.
21 فهرس الفهارس, 2/ 1165
22 ص 157 طبع دائرة المعارف الإسلامية بيروت.
23 كما يوثق هذا الرأي أنّ وثيقة الوقف الذي وقفه والده بعد وفاته مؤرخة بسنة 1970م، فلم يقف إقطاعه إلاّ بعد وفاته، لأنه لم يكن له إلاّ ولدين أحدهما محسن وهو الشيخ الذي توفي يافعاً والثاني محمد أحسن الذي أصيب بالجنون فلم يبق من يرثه فوقف الإقطاع لمدرسة باسم نجله الفاضل المتوفى.
24 ونعتذر عنه بأنه لم يكمل الكتاب وبقي مسودة حتى أخرجه المحقق بتحقيقاته.
25 استفدت من هؤلاء المؤلفين ص 231 نقلاً عن مقدمة التحقيق لليانع الجني الطبعة الجديدة،ص 19
26 فهرس الفهارس نفس الصفحة.
27 وقد أخطأ المحقق فيها كثيراً، إذ جزم بأن الطبعة الأولى هي طبعة دهلي على هامش كشف الأستار كما نسب بعض العبارات من الشيخ عبدالجليل برادة إلى المصنف وعدّ الشيخ عبدالجليل تلميذ المصنف مع أنه معاصره وتلميذ للشيخ عبدالغني الدهلوي ولم يبالغ في التحقيق.
28 ص ۲۷۱ و۳۷۱طبع عمان الاردن،2010م
29 هذا سند آخر بواسطة أهل البيت عليه السلام.(منه)
30 أي حصل له الإجازة من الصديق بواسطتين ومن الفتى الربّاني عليّ المرتضى بأربعة.(منه)
31 لسيف الدين إجازة أيضاً من والده الشيخ محمد معصوم وإجازة أيضاً عن عمه محمد سعيد الملقب بخازن الرحمة بواسطة الشيخ عبدالأحد ومحمد عابد.(منه)
32 هذاالشعر ألحقتته لتتمّ السلسلة إلى شيخنا العلامة.(منه)
33 اليانع الجني طبع المطبع الصديقي بريلي.
34 فهرس الفهارس 2/759
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)