بقلم منتصر الصواف
في سنة 1941م تقدم الشاب الصواف وطلب يد شقيقة زوجته الأولى أم نوفل حسب وصيتها له قبل سفره للقاهرة في البعثة الأولى حيث صدق حدسها في قرب موعد مفارقتها للحياة، فتزوج من الشقيقة الثانية وأنجبا ولده البكر مجاهداً، وكان العراق حينئذ يعيش أحداث ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الإنجليز.
لم تتوقف حركة وطموح الشاب الصواف، فمع عمله واعظاً سياراً في أوقاف الموصل وتطوافه قراها ونواحيها ومع خطاباته التوجيهية الرمضانية في جامع الصابونجي في باب الطوب التي أبهرت الجماهير بأسلوبه الخطابي الارتجالي الجديد والحماسي المؤثر؛ آثر الوجيه مصطفى جلبي الصابونجي إرسال بعثة على حسابه الخاص للأزهر الشريف، وتحققت الفكرة، وطلب الصابونجي من الشاب الصواف تولي مسؤولية البعثة وانتقاء طلابها، فسافر الشاب الصواف سنة 1943م إلى القاهرة للمرة الثانية تاركاً زوجته أم مجاهد لتحقيق ما كان يصبو إليه.
دخل الشاب الصواف إلى الجامع الأزهر الشريف بعد وصوله وبعثة الصابونجي إلى القاهرة سنة 1943م، وسجل مقعداً طلابياً في الرواق الحنفي بكلية الشريعة الإسلامية؛ فبدأت رحلته العلمية على مقاعد الدراسة، ولتمتعه بعقلية حركية وذكاء وقّاد جاءته فكرة كانت جديدة على العقلية العلمائية الأزهرية آنئذ؛ وهي «الاختزال الدراسي»، حيث قدم طلباً إلى مشيخة الأزهر الإدارية – ممثلة بشيخ الأزهر حينئذ الشيخ مصطفى المراغي – بهذا الموضوع بأداء امتحان دراسة البكالوريوس في مواد المرحلتين الأولى والثانية مجتمعة، فوافقت المشيخة الإدارية على هذا الطلب، ونجح الشاب الصواف في اجتياز الامتحانات؛ مما أذهل من حوله شيوخاً وطلاباً بتلك الظاهرة الاختزالية!
وبعد ذلك كرر هذا الأمر في المرحلتين الثالثة والرابعة، فاجتاز مراحل البكالوريوس ذات الأربع سنوات بسنتين، وكرر نفس المنهاج في استكماله دراسة العالمية – التي تعادل درجة الماجستير في ذلك الوقت – وتخصص في موضوع «القضاء الشرعي»؛ فاجتاز الدراسة العليا بسنة والتي هي بالأصل سنتان.
فاعترض أحد المشايخ واسمه أحمد حمروش، وقال للشاب الصواف معنفاً باللهجة المصرية: «إيه ده.. أنت عاوز تطوي الزمن إيش هذا..!».
وطلب إعادة الامتحان شفوياً لشكه بالشاب الصواف وتخوفه من احتمالية غشه في الامتحان التحريري، فاستجاب الشاب الصواف بكل أدب لطلبه وشكلت لجنة وحدد موعد الامتحان.
ويشاء الله أن يرى الشاب الصواف رؤيا مع استعداده لمواد الامتحان وكأنه أمام اللجنة وهو يجيب عن كافة الأسئلة بطلاقة وبلا تلعثم.
فلما حل موعد الامتحان دخل الشاب الصواف على اللجنة وتحققت رؤياه، فأجاب عن نفس الأسئلة التي رآها؛ مما أبهر أساتذته، فأعلن بعد حين عن نتيجته وهي النجاح ومن الأوائل على دفعته.
نجاح باهر
أحدث نجاح الشاب الصواف بعد تخرجه خاصة في اختزاله الزمني لدراسة البكالوريوس والماجستير ضجة إعلامية؛ حيث كتبت عنه الصحف والمجلات المصرية في القاهرة تتحدث عن عبقرية عراقي بلغ من التأثير بشيخ الأزهر- الذي خلف الشيخ المراغي – وهو الشيخ مصطفى عبدالرازق أن يقول له: «لقد فعلت يا ولدي ما يشبه المعجزة وسننت سُنة في الأزهر لم تكن».
وكان المشايخ الذين يدخلون إلى مكتب شيخ الأزهر الذي أجلس الشاب الصواف بجانبه بعد تفوقه على أقرانه يقولون له متعجبين: “هو هذا الشيخ الصواف؟”، فيجيبهم بالإيجاب والإعجاب، حتى نقل البعض من الأزهر للملك فاروق – ملك مصر في حينه – خبر نجاح الشاب الصواف العراقي المتألق.
فحقق الشاب الصواف طموحه في تحصيل العلم الأزهري في الفترة الزمنية 1943 – 1946م.
ووصلت أخبار نجاحه إلى بلده الموصل قبل عودته سنة 1946م؛ حيث كتبت الصحف العراقية ومنها جريدة “فتى العراق” الموصلية تتحدث عن نجاح بعثة الوجيه الصابونجي وتألق رئيسها الشاب الصواف الطالب الطموح.
تاريخه الحركي العراقي
أتاحت البعثة الأولى (بعثة وزارة الأوقاف العراقية) للشاب الصواف فرصة اللقاء بمثله الأعلى الإمام المجدد الإسلامي وباعث الصحوة الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) حسن البنا المؤسس للجماعة المصرية الأم «الإخوان المسلمون» سنة 1939م، الذي كان يلقي خطبة حينئذ في جامع محمد فاضل باشا بباب الخلق في القاهرة.
فكانت لحظة إلهام للشاب الصواف منحته الثقة بأنه يسير في الاتجاه الصحيح، هذا اللقاء الملهم للشاب الصواف سبقه قراءاته عن الإخوان المسلمين في مصر وهو لا يزال في الموصل.
فكانت تلك القراءات دافعاً أساسياً لتأسيسه جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين تخطى جمعية الشبان في فترة الثلاثينيات لتوافق خطه مع منهجية الإخوان في التصور والحركة.
فتوطدت العلاقة بعد ذلك اللقاء الأول بين الشاب الصواف الحركي المتحمس بالإمام المؤسس خاصة بعد مشاهدته للبناء الضخم المجسد في المركز العام للجماعة المصرية الذي احتوى أقساماً وتشكيلات وأسر وكتائب ورحلات ومعسكرات حرّكت في تكوين الشاب الصواف كوامن الحركة الفعالة والمنتجة؛ فكانت الجماعة المصرية هي ما يبحث عنه منذ زمن بعيد.
فأعطى الشاب الصواف البيعة على العهد الإخواني المعروف للإمام المؤسس.
محاولة لتأسيس فرع إخواني مصغر في الموصل:
حال فشل البعثة الأولى سنة 1939م في إتمام الصحبة الدعوية بين الشاب الصواف والإمام المؤسس.
ولكن الشاب الصواف قام يدعو في المجتمع الموصلي بدعوة الإخوان المسلمين بدون تنظيم مؤسسي من خلال عمله التدريسي كمعلم دين ولغة عربية في مدرسة من مدارس وزارة المعارف (التربية)، والعمل الوعظي في المساجد والجوامع بالموصل وقراها ونواحيها.
وفي بداية عقد الأربعينيات وصلت الشاب الصواف رسالة من الإمام المؤسس كان فحواها انتخابه عضواً في الهيئة التأسيسية للجماعة المصرية، فكانت نظرة الإمام المؤسس جديرة في وزن الرجال حيث لاحظ ما تمتعت به شخصية الشاب الصواف من العبقرية والحماسة والشجاعة والحركية والاقتحام والعزم والصمود والوعي كشروط أهَّلته للقيادة.
فكانت تلك الرسالة التنظيمية قد دفعت بالشاب الصواف لمحاولة جريئة من نوعها في سنة 1943م؛ إذ قدَّم مع أقرانه طلباً لوزارة الداخلية لتأسيس جمعية باسم «الإخوان المسلمون»، فرفضت الوزارة الطلب بحجة قانونية تقضي أن قانون الجمعيات في العراق يمنع إعطاء رخصة لجمعية إسلامية باسم موجود في دولة عربية أو إسلامية أخرى، ويجب أن يكون الاسم مستقلاً بذاته.
الصحبة واليد الواحدة في العمل الحركي الإسلامي:
شكلت بعد ذلك سنوات البعثة الثانية (بعثة الوجيه الصابونجي) للأزهر الشريف الممتدة من سنة 1943 – 1946م للشاب الصواف تشبعاً بالصحبة الدعوية مع الإمام المؤسس، واستيعاباً للفكر الإخواني التجديدي الذي وضع أُسسه البنا ولم يسبقه فيه أحد؛ فأضحى الشاب الصواف من أقرب الشباب الحركي صلة بالإمام المؤسس وأقربهم منزلة من قلبه.
وكانت خطب ومحاضرات وحركة حسن البنا في القطر المصري قد دفعت بحماس الشاب الصواف إلى الابتكار الحركي؛ فاقترح على البنا فكرة الاتصال بالشباب وأهل العلم والفكر من ذوي الاتجاه الإسلامي الوافدين للقاهرة، ودعوتهم لزيارة المركز العام للتعارف والتنسيق لنسج علاقات تسودها الديمومة لدفع عجلة الدعوة عالمياً نحو التطور.
فكانت فكرة وغدت فعلاً تجسَّد في تأسيس قسم الاتصال بالعالم الإسلامي.
مثَّل ذلك القسم إضافة حركية جديدة من الشاب الصواف للأقسام الرئيسة في الهرم التنظيمي للجماعة المصرية أبهرت الإمام المؤسس فوافق وشجَّع على تفعيلها.
فعاضد الشاب الصواف في تلك الفكرة الابتكارية الجديدة إخوة الخندق الإخواني من مثل: الفضيل الورتلاني من الجزائر، وإسماعيل مندا من إندونيسيا، وعبدالحفيظ الصيفي من القاهرة.
بعثة البنا للعراق
حالَ انغماس الشاب الصواف بدراسته في الجامع الأزهر بينه وبين تأسيس الفرع العراقي للجماعة المصرية الأم؛ فحدث أن انتدبت مصر عدداً من الأساتذة للتدريس في العراق بناء على طلب وزارة المعارف العراقية سنة 1944م، وكان عدد من هؤلاء من الدعاة المؤسسين للجماعة المصرية.
فتناغماً مع البعثة ارتأى حسن البنا توجيههم للدعوة لأسلمة المجتمع العراقي من خلال الانبثاث الأفقي في وزارة المعارف على اعتبارها ذات أثر عميق في التنشئة الدعوية التي كانت مبثوثة في الأدبيات الإخوانية التي وزعتها تلك البعثة على المستجيبين للدعوة.
فكان أعضاء بعثة البنا هم الأساتذة: حسين كمال الدين، مسؤول الجوالة، وكان يدرّس المساحة في كلية الهندسة، وعلي عبدالحفيظ، وكان يدرّس علم الري في كلية الهندسة أيضاً، ومحمد عبدالحميد أحمد، عضو الهيئة التأسيسية للجماعة المصرية، الذي سبق تلك البعثة منذ سنة 1943م؛ حيث كان يدرّس في المدارس الثانوية ولا سيما في ثانوية الميتم الإسلامي في بغداد، ومدرساً في متوسطة البصرة للبنين بالبصرة، ومحمود يوسف، وكان يدرس اللغة العربية في المدارس الثانوية، وكامل النحاس، وممدوح أزل، مدرسين في ثانوية الصناعة، كانوا قد توزعوا في دوائر بغداد، إلا أحمد كامل المنوفي، المدرس في ثانوية الصناعة، فهو المدرس الوحيد الذي عمل في دائرة الموصل.
فبذل أولئك الإخوان المصريون المنتدبون جهداً شاقاً ومساعي محمودة في نشر الفكر الإخواني بين الطبقة الشبابية المثقفة في كليات الهندسة والطب والحقوق ودار العلوم في بغداد، فشكلوا أسراً إخوانية وعقدوا اجتماعات في دور متعددة خاصة بمنطقة الأعظمية.
ولكن لم يأخذ عملهم قالبه التنظيمي الذي كان من المؤمل أن يؤسس الجماعة العراقية.
(المصدر: مجلة المجتمع)