مقالات

الشيخ القرضاوي .. الهمة العالية والعقل الحر

بقلم د. جاسر عودة

مقدمة

النظر المنصف يقتضي الاعتراف لشيخنا وأستاذنا الحبيب الدكتور يوسف القرضاوي بفضله وعلمه وجهاده وإمامته، والاختلاف مع الشيخ الجليل في بعض القضايا – لو حدث – لا ينبغي عند المنصفين العقلاء أن يمحو بجرة قلم تاريخ الرجل الطويل منذ نعومة أظافره وقد بلغ التسعين! ومن المعروف أن حكمة الله عز وجل، وطبيعة هذا الدين المتين، ومكانة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم – كل ذلك اقتضى أن يؤخذ من كلام كل أحد ويردّ، إلا الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم. وكل إمام من أئمة هذا الدين العظيم قد كان له من الآراء والاجتهادات ما اختلف فيه معه تلامذته وعلماء آخرون، فكان ماذا؟

صفتان مميزتان

هناك صفتان من صفات شيخنا الجليل كان وما زال لهما في نظري الأثر الأكبر على حياته العملية وإنتاجه العلمي والأثر الأكبر على تلاميذه ومتابعيه في كل مكان، ألا وهما: الهمة العالية والعقل الحر. وهذه مقالة أقص فيها طرفاً من مواقف شهدتها منه على مدار العقود ظهرت فيها هاتان الصفتان بشكل جلي، وأذكر خلاصات لفكره وفقهه ظهرت فيها هاتان الصفتان كذلك – مما أرجو أن يكون تعبيراً عن امتناني لبعض ما تعلمته من الشيخ عن طريق رد الفضل لأهله، وعسى كذلك أن تنفع هذه الكليمات من أراد أن يسلك طريق الشيخ من محبيه، طريق العلم والتعليم والدعوة إلى الله، وهو طريق لا يسلكه بحق إلا أصحاب الهمم العالية والعقل الحر.

فمنذ كان الشيخ يزور القاهرة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي ليخطب العيد أو يلقي بعض الدروس والمحاضرات كنت ألاحظ تلك الهمة العالية التي تظهر أول ما تظهر في حرارة إلقائه وجزالة تعبيراته وجهورية صوته وعلو نشاطه، ولاحظت كذلك عقله الحر وأفقه المتسع في تناول الموضوعات وجدة الطرح وجرأة الفتوى، ثم تأكدت لي هذه الملاحظات في تسعينيات القرن الماضي بالاحتكاك بالشيخ من مسافة أقرب خلال زياراته المتكررة لأمريكا لإلقاء المحاضرات والاشتراك في الفعاليات الدعوية التي كنا ننظمها هناك خاصة اجتهاداته في ما سماه فقه الأقليات المسلمة وإسهامه في توطين هذه الأقليات وتكاملها في مجتمعاتها، ثم أسعدتني الأقدار في العقد الأخير بالعمل مع الشيخ بشكل مباشر من خلال مركز دراسات مقاصد الشريعة بلندن ثم كلية الدراسات الإسلامية بالدوحة، وأخيراً من خلال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث. وبالتالي فهذه المقالة تختلف عن سابق ما كتبت عن فكر الشيخ وكتبه لأن مصادرها هي التجربة والملاحظة الشخصية المباشرة وليس فقط المكتوب والمسموع من إنتاجه العلمي.

في طلب العلم

أشهد أن الشيخ وقد بلغ التسعين – متعه الله بالصحة والعافية – ما زال ينزل مكتب منزله كل صباح دون استثناء فيقضي سحابة يومه قارئاً وكاتباً، لا يقطعه عن ذلك إلا الصلاة واستقبال الضيوف الذين يقرر أن يستقبلهم كل يوم في مواعيد محددة، فإذا انصرف الضيف عاد هو إلى القراءة والكتابة مباشرة. وإنني ما دخلت عليه مكتبه في صحة أو مرض أو صيف أو شتاء أو صخب من الأحداث الخاصة أو العامة أو هدوء منها إلا وجدت أمامه على مكتبه كتاب مفتوح أو أكثر، وهو جالس يتصفح أحياناً ويكتب أحياناً أخرى.

وقد أنتج هذا الدأب على تحصيل العلم موسوعية في الاطلاع واتساع في النظر يندر أن يوجد في علماء الإسلام بل وأصحاب الفكر بشكل عام، فلا عجب إذن أن يكون الشيخ ملماً لفلسفات غربية وشرقية قديمة ومعاصرة كأنه درسها في بلادها، ومطلعاً على دقائق في مذاهب اللغة والتصوف والشعر وكأنه لا هم له إلا هذه المسائل، وعارفاً بأعلام ومدن وأحداث لا يعرفها المتخصصون في التاريخ والجغرافيا، ومستوعباً للكم الهائل من الثروة الفقهية على مدار تاريخنا الإسلامي الطويل – وقد شهدت طرفاً من هذا على مدار السنوات.

وحرص الشيخ على طلب العلم حرص عجيب، فهو يتحرق حسرة على ما لا يعرفه ولم تتح له الفرصة لتعلمه. فمثلاً، رأيت الشيخ يهتز حسرة وألماً يوماً ذكرت له فيه الجهد الذي بذلته لتعلم اللغة الإنجليزية، ففوجئت بمدى انفعاله وتألمه لأنه لم يتعلم لغات غير اللغة العربية وأن السن قد تقدمت به بما لا يسمح بذلك الآن على حد قوله، وقد حاولت أن أخفف من ألمه بقولي إن قضية اللغات قضية جانبية في علوم الإسلام وأنه يمكن أن يستعين بالترجمة فرد الشيخ أن الترجمة لا تغني عن اللغة خاصة كوسيلة للتواصل والتعلم عن حضارات وأفكار الآخرين.

في الكتابة والتأليف

والشيخ لا يضيع وقتاً يمكن أن ينفقه في الكتابة في حضر ولا سفر، بل إنه في سفره دائماً ما يحمل كمية من الورق الفارغ حتى يكتب عليه، فإذا نفذ الورق الذي يحمله معه في الطائرة طلب من طاقم الضيافة حزمة من الأوراق التي توضع عليها صينيات الطعام حتى يكتب على ظهرها ولا يضيع الوقت دون كتابة.

وبمناسبة الورق أذكر كذلك أن الشيخ يحرص على الورق حرصاً شديداً ولا يقبل أن ترمى ورقة بيضاء أبداً ولا أن يكتب المرء على جزء منها دون أن تملأ الورقة بوجهيها تماماً. فإذا رأى جزءاً من الصفحة فارغاً قال:  “لا يجوز إضاعة الورق”، ثم يقص الصفحة حتى ينقذ الجزء الفارغ ويكتب عليه فيما بعد.

والشيخ يحرص على وقت التأليف جداً ويلغي أو يؤجل بعض مواعيده وأسفاره حتى يستكمل مشروعات كتبه. أذكر أنني في أواخر التسعينيات اتصلت به من كندا إلى الدوحة لأدعوه مجدداً لحضور مؤتمر الشباب المسلم العربي بأمريكا، وهو المؤتمر الحاشد الذي كان يحضره بانتظام كل سنة لبضعة أيام، فرد قائلاً: “يا بني عندي مشروعات كتب أريد أن أنتهي من تأليفها قبل أن أموت، وبالتالي فلن يتسع وقتي لحضور مؤتمركم إلا كل سنتين مرة”.

وكان من أمنيات الشيخ أن يستكمل تفسير المنار، وهو التفسير الذي كتب أجزاءه الأولى الشيخ رشيد رضا راوياً إياه عن شيخه الأستاذ الإمام محمد عبده، ثم أكمل الشيخ رشيد رضا التفسير على نفس المنوال دون الوصول إلى نهاية المصحف، ولطالما تمنى الشيخ القرضاوي إكمال التفسير على نفس المنوال فلم يتسع وقته لذلك، وحزن الشيخ لذلك حزناً لم يخففه إلا إنجازه تفسيراً للجزء الثلاثين من القرآن على نفس المنهج.

في الاجتهاد والفتوى

وعلو الهمة وحرية الفكر يتجليان عند الشيخ خصوصاً في مجال الفتوى، فلطالما أفتى بما وصلت إليه قناعته الصادقة بصرف النظر عن اعتراض المعترضين سواء من المشايخ التقليديين الذين لا يعجبهم فقه الشيخ الميسر وإعطائه لنفسه حرية الاختيار بين الآراء وزوايا النظر حسب ما يرى من تحقيق المصالح العامة والمآلات المنشودة، أو سواء من الذين يتنصلون من الدين كله أو بعضه ولا يعجبهم ثبات الشيخ على منهج وسطي يحافظ على الثوابت ويدور مع المتغيرات. ووقوع آراء الشيخ بين طرفين نقيضين كلاهما ناقد وناقم هو عندي علامة على وسطيته واعتداله وصحة منهجه، وكل يؤخذ من كلامه ويترك على أي حال.

ومن سمات الشيخ في اجتهاداته أنه لا يجد غضاضة في أن يتراجع عن الفتوى إذا تبين له خطأها، فمثلاً حضر الشيخ ندوة قديمة أفتى فيها الدكتور حسن الترابي بجواز بقاء المرأة التي أسلمت دون زوجها معه، فاعترض الشيخ القرضاوي على الدكتور الترابي، ولكنه بعد الندوة المذكورة ذهب فبحث طويلاً في المسألة حتى وجد رأياً بل آراء كثيرة ومتنوعة في نفس المسألة. هنا تراجع الشيخ عن رأيه وأفتى بالجواز، وكان يذكر تراجعه هذا وفضل الدكتور الترابي فيه كلما سئل عن هذه المسألة وكلما كتب فيها.

في الرحلات والأسفار

وقد طفت في بلاد كثيرة قاربت على الخمسين دولة من دول هذا العالم في كل قاراته، زائراً لمعاهد ومؤسسات ومساجد وجمعيات وجامعات إسلامية وغير إسلامية، وإنني أشهد أنني ما ذهبت إلى مدينة أو قرية في نجوع الهند أو أطراف آسيا أو عواصم أوروبا أو مجاهل أفريقيا أو براري أمريكا إلا ووجدت الشيخ قد سبقني إليها – إلا نادراً، بل ووجدته في كل أنحاء الدنيا كان قد ترك أثراً طيباً متواصلاً بأن أسس جمعية أو أطلق كتاباً من كتبه مترجماً أو افتتح جامعة أو معهداً أو درّس طلاباً أو دعم مبادرة مدنية أو حقوقية. بل إنني كثيراً ما سمعت في كل مكان ذكريات أهل تلك البلاد مع الشيخ وكيف أنه أحياناً يوفي بالزيارة المخطط لها ولو كان مريضاً حتى لو اقتضى الأمر أن يصل إلى المكان وهو مستلق على ظهره في السيارة من وجع في ظهره مثلاً كما حدث له في بعض أسفاره بالهند.

ومن المواقف الطريفة في أسفار الشيخ أنه في إحدى زياراته لأمريكا في التسعينيات حجزنا له غرفة في فندق من الفنادق الفخمة في مدينة ديترويت التي أقمنا فيها المؤتمر السنوي الحاشد لرابطة الشباب المسلم العربي هناك، وفي تلك الغرفة بالفندق فوجىء الشيخ بزجاجات خمر في ثلاجة الغرفة ولم يكن يعرف أنها غير مدفوعة الثمن إلا أن يفتحها نزيل الغرفة، وهنا قرر الشيخ أن يزيل المنكر ويهرق الخمر فأهرقها كلها في مرحاض الغرفة. ثم في اليوم التالي وفي كل يوم من أيام المؤتمر جدد العاملون بالفندق زجاجات الخمر في الغرفة، فما كان من الشيخ إلا أن أهرق الخمر كله يوماً بعد يوم! ولقد فوجئنا حين حانت ساعة مغادرة الفندق بحساب ثقيل عن خمور فرفضنا أن ندفعها وقلنا لإدارة الفندق إن هناك خطأ في الحساب لأن المسلمين لا يشربون الخمر أصلاً فضلاً عن الشيخ الجليل، فما كان من الشيخ إلا أن شرح الموقف لنا ولإدارة الفندق وأصر على دفع الفاتورة المستحقة وأن لا تتحمل الرابطة شيئاً من ذلك.

في بناء المؤسسات والهيئات

ومن أهم ما يتميز به الشيخ الجليل في رأيي عن العلماء في عصره بل وفي ما سبق من عصور هو قدرته العالية وهمته الحاضرة في تحويل الأفكار إلى مؤسسات، وإدراكه لكيفية استثمار الرأي العام حين يهتم بقضية ما من أجل تحويل رد الفعل إلى مؤسسة متكاملة ومنتجة تتعامل مع القضية بشكل منهجي ومستدام، وهذا أيضاً من علو همته واتساع أفقه.

وقد شهدت إسهام الشيخ المتميز في تأسيس عدد من المؤسسات التي كان لها أثر كبير في الواقع الإسلامي في العقود الماضية، منها موقع إسلام أون لاين في صيغته الأولى، والذي كان له أثر كبير على شبكة الإنترنت بفضل المنهج الوسطي الذي خطه الشيخ، والذي شرفت بالمشاركة في وضع سياساته في الموقعين بالعربية والإنجليزية، ومنها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي شرفت بعضويته التأسيسية ثم بالانتخاب لعضوية مجلس أمنائه لاحقاً، والاتحاد كان محاولة للتنسيق بين العلماء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وتوجيه جهودهم لخدمة قضايا الأمة خاصة قضية فلسطين والتي كان للشيخ فيها إسهام بارز، ومنها مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية الذي أسسه معالي الشيخ أحمد زكي يماني وتولى الشيخ يوسف القرضاوي رئاسة مجلسه الاستشاري الأعلى وشرفت بإدارته حين أسس ولمدة خمس سنوات نشر فيها المركز فكرة المقاصد في أنحاء مختلفة من العالم ونشر كتباً كان من أبرزها كتب الشيخ وأبحاثه المهمة في هذا الموضوع الهام، وشهدت كذلك إسهامه الرائد في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بدبلن والذي تشرفت مؤخراً بعضويته، وهو المجلس الذي كان له الأثر الأول في فقه المسلمين في أوروبا والغرب عموماً حيناً من الدهر، وشهدت كذلك في ما مضى إسهامه الرائد في كلية الدراسات الإسلامية ومركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بالدوحة وكانتا أيضاً – في وقتهما – محاولتان مهمتان لتقديم دراسات إسلامية معاصرة.

وإنه من خلال عملي الإداري في تلك المؤسسات قد شهدت كذلك أن الشيخ يرفض تماماً أن يتلقى المكافآت الشرفية التي تفرضها لوائح تلك المؤسسات ويكتفي بدخله من عمله الراتب، بل وفي إحدى تلك المناسبات نهرني أستاذنا حين طلبت منه التوقيع على استلام مكاقأة رمزية ولم أكن أعرف عادته في هذه المسألة، فقال: “ما هذا؟ أنا لم آتي إلى هنا من أجل هذا. هذا عمل لله يا بني”.

في السياسة والثورة

ومن علو همة الشيخ وسعة أفقع وابتغائه لمرضاة ربه أنه لا يقتصر في تطبيق العلم الشرعي على قضايا الفقه والسلوك فقط بل يطبقه خاصة على قضايا السياسة جميعاً، فله في كل حدث سياسي موقف، وهودائماً ما يكلف الباحثين في مكتبه بمتابعة الأخبار السياسية والأحداث العالمية وتلخيصها له، حتى يتابع أحداث الدنيا أولاً بأول ويتخذ منها المواقف بل ويشترك في ما يمكن الاشتراك فيه. وللشيخ تاريخ طويل في هذا، وناله بسبب مواقفه السياسية التي وقف فيها مع الحق وأهله ما ناله منذ شبابه وإلى اليوم.

ومن أبرز الأحداث السياسية القريبة التي شارك فيها الشيخ مشاركة فعالة وكان له فيها مواقف مؤثرة أحداث (الربيع العربي). وقد أختلف مع أستاذنا الجليل في تقييم بعض موازين القوى على الأرض، وفي نوايا بعض الحكومات الخليجية وتوجهاتها، وواقعية بعض الحركات الإسلامية في طموحها للسلطة كوسيلة للتغيير، ومآلات بعض التوازنات مع النظم القديمة والقيادات العسكرية التي لا تؤمن أصلاً بالخط الثوري الذي يلزمه الشباب، إلى غير ذلك مما يعرفه من يقرأ مقالاتي وآرائي المتواضعة في هذا الشأن، ولكنني مع هذا الخلاف أشهد في ما رأيت أن الشيخ – والله حسيبه – لا يقصد إلا مصلحة هذا الدين ومصلحة هذه الأمة، وأنه يدور مع الإسلام حيث دار، وأن تاريخ الشيخ الطويل في الكفاح ضد الاستبداد بكل أشكاله ومناصرته للحقوق ودفاعه عن الحريات – هذا التاريخ ليس من الإنصاف أن يغمط من أجل خلاف في تقديرات سياسية، بل نقدر للشيخ بلاءه وإسهامه وإمامته.

في الفكر والفقه

وأخيراً وليس آخراً، فمن حيث الفكر والفقه اللذان تعبر عنهما كتب الشيخ التي قرأتها وخطبه ومحاضراته التي حضرتها، فحدث عن علو الهمة وحرية العقل واتساع الأفق ولا حرج. وقد كتبت منذ سنوات كتاباً عن مقاصد الشريعة عند الشيخ – وهو الموضوع الذي أكتب فيه أو أدندن حوله دائماً – فقد كتبت أقول إنه إمام مقاصدي بحق، علماً وتعليماً، وتنظيراً وتطبيقاً، وفكراً وفقهاً، وتأصيلاً وتجديداً، وكتابة وفتوى، ودعوة وحركة – جزاه الله عن الإسلام والمسلمين والعلم وأهله خير الجزاء. وبحثت في هذه الجوانب كلها بدءاً من تأثر الشيخ بأئمة المقاصد من سلف هذه الأمة الذين أفردوا هذا العلم بالتأليف وأبدعوا فيه، وتأثره أيضًا بمن عاصر من العلماء “المقاصديين” خاصة من المدرسة الأزهرية المعاصرة، وتابعت تطور النظر المقاصدي عند الشيخ منذ كان يقتصر على دراسة الحكم والأسرار التي تترتب على تطبيق الأحكام الشرعية، إلى أن صار يراعي المقاصد في القياس ومآلات الأحكام، إلى أن ناقش ونقد وجدد في نظريات المقاصد نفسها، بل وإفراده أخيراً المقاصد الشرعية بالتأليف في كتابات قيمة.

وقد استقريت أبعاد المقاصد ومعانيها وتقسيماتها المختلفة عند الشيخ، وتركيزه على الفصل بين مقاصد الخلق ومقاصد الشارع حتى لا يساء استغلال موضوع المقاصد لصالح أهواء البعض، واستقريت كذلك المقاصد العامة الرئيسة عند الشيخ من تيسير، وعدل، وتعبد، ودعوة إلى الله، ومراعاة للفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، ودرست أهمية دراسة موضوع المقاصد عند الشيخ القرضاوي لفهم القرآن الكريم خاصة والشريعة الإسلامية ككل، وللتجديد في لغة الخطاب الإسلامي المعاصر وفي حركة الاجتهاد المعاصر، ولأهميتها للمفتي والداعية والمربي، ولإرساء دعائم ثقافة الحوار والتعاون مع أهل الديانات وبين المذاهب الإسلامية المختلفة. ووصلت إلى أن الفكر الإسلامي عند الشيخ هو فكر مقاصدي بالأساس: بدءاً من تصنيفه للمدارس الفكرية حسب مواقفهم من مقاصد الشريعة، إلى سمات المدرسة الوسطية التي رسمها بناء على هذا التصنيف، إلى فكره السياسي والاقتصادي والاجتماعي بفروعه المختلفة.

وقد حللت كذلك منهج الشيخ الفقهي، من اجتهاده “الإنشائي” عن طريق الاستصلاح، إلى اجتهاده “الانتقائي” بناء على المقاصد، ومن أثر المناسبة على القياس عنده، إلى “تغير الظروف التي قيل فيها النص”، على حد تعبيره. وللشيخ تعبيرات أخرى كثيرة ذكرها في ثنايا مباحثه الفقهية هي من الأهمية بمكان في مسيرة التجديد المقاصدي المنشود، منها: “التفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة”، و”تقسيم السنة إلى تشريع وغير تشريع”، و”المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها”، و”إذا فتح الشارع شيئاً بنصوصه وقواعده، فلا شيء ينبغي لنا أن نسده بآرائنا وتخوفاتنا”، و”الرسول نفسه كان ينهج هذا النهج في آرائه الإدارية والسياسية والمالية ونحوها، فيديرها وفقا للمصالح المعتبرة”، و”نحن ضد أن تسيطر الشكلية على البنوك الإسلامية”، وغير ذلك. وكتبت أخيراً عن تأسيس الشيخ حفظه الله لأنواع من “الفقه الجديد” ترتبط بفقه المقاصد كفقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه الأقليات المسلمة، والفقه الحضاري، وفقه السنن الإلهية. بل إن فقه الشيخ وفكره كله يجري مراعياً تلك السنن الإلهية، خاصة سنة “الحركة حول محور ثابت” على حد تعبيره، مما شكل فلسفة للمقاصد عند الشيخ، فهو يتحرك مع الوسائل حول المقاصد، ومع الآليات حول الأهداف، ومع المتغيرات حول الثوابت، ومع الظنيات حول القطعيات، ومع الفروع حول الأصول، ومع الجزئيات حول الكليات، ومع الفقه حول القرآن والسنة، ومع الفكر حول العقيدة، ومع الحياة حول الشريعة، وهي حركة تجري على فطرة الله في خلقه، وسننه في كونه، وهي إذن حركة مباركة على امتداد الزمان والمكان، إن شاء الله تعالى.

وهذه الجوانب المقاصدية كلها في مسيرة الشيخ العلمية – وقد ذكرتها هنا باقتضاب – لهي دليل واضح على هاتين الصفتين المذكورتين عند الشيخ، فلا يدخل في هذه الأبواب العالية من الفقه والفكر الإسلامي – فضلاً عن أن يبدع وينقد ويضيف – إلا من علت همته واتسع أفقه وتحرر عقله وانطلق اجتهاده.

في تنفيذ وصيته بمراعاة الهمة واتساع الأفق

والشيخ دائماً ما يسهم في رفع همتي – جزاه الله خيراً – كلما سألني كعادته: “كيف حالك يا دكتور وكيف حال الهمة؟”، وهو سؤال يلمس وتراً عندي خاصة منذ أن طلب مني الشيخ مؤخراً أن أشترك في حمل الراية – على حد تعبيره. فمن باب الهمة التي أوصانا الشيخ بمراعاتها وتنميتها، ومن باب اتساع الأفق وإعمال العقل الذي أوصانا الشيخ به حين طلب مراراً وتكراراً أن لا نقلده في التفاصيل ولكن نتبعه في المنهج، وأن نملك القدرة والشجاعة الأدبية على نقده هو إذا رأينا ما يستدعيه – من هذا الباب سمحت لنفسي في بعض ما كتبت عن الشيخ ببعض الملاحظات النقدية، وكل يؤخذ من كلامه ويردّ إلا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما ذكرت.

ومن هذا الباب، حمت في بعض ما كتبت مؤخراً حول عدم اتساق منهج الشيخ المقاصدي – حفظه الله – مع بعض ما صدر عنه من آراء وفتاوى، كبعض تصريحاته الأخيرة فيما يتعلق بقضية السنة والشيعة مما لا يتسق – في ما يبدو لي – مع تركيزه المعروف على مدار تاريخ طويل على نقاط الاتفاق بين المذهبين وأهمها مقاصد الشريعة، وغير ذلك من التفاصيل في بعض المسائل التي تتعلق بالجهاد والتغيير الثوري والمقاومة. ولكن هذه الملحوظات المتواضعة من وجهة عن شيخنا القرضاوي هي كما قال الإمام الذهبي في ترجمة شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله: (مغمورة في بحر علمه … وكل أحد من الأمة فيؤخذ من قوله ويترك، فكان ماذا؟)، أو كما قال أبو الطيب المتنبي: فإن يكن الفعلُ الذي ساء واحداً = فأفعاله اللاتي سَرَرن كثير، أو كما قال ابن القيم رحمه الله في نفس السياق: (من قواعد الشرع والحكمة أيضاً: أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره … والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث).

بارك الله في عمر الشيخ ووسع دوائر النفع بعلمه، وأحسب أنه ينطبق عليه قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فجزاه الله خيراً عن الإسلام وأهله خير الجزاء. والحمد لله رب العالمين.

*المصدر : موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى