مقالاتمقالات المنتدى

الشيخ الغزالي في عامه الأول بعد المائة .. كيف نفهم الإسلام؟

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

يعد الإمام محمد الغزالي (22 سبتمبر 1917م-9مارس 1996م) من أهم رجالات الفكر والدعوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الماضي. ويمكننا -دون مبالغة- أن نؤرخ لتاريخ الدعوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين قبل وبعد محمد الغزالي. فقد كان الغزالي نسيجاً وحده، في أسلوب كتابته السهل الممتنع العميق، وفي حرارة كلماته التي تصل لأعماق القلوب، وتلمس جوانب الفطرة النقية؛ في قراءه وسامعيه والمتعاملين معه على حد سواء، فتوقظها وتدفعها للعمل للإسلام والإنسان.

فقد كانت معالجاته لمشكلات أمتنا العربية والإسلامية، النابعة من واقع تلك المجتمعات، تضفي على كتاباته ومحاضراته جدية دائمة. وكانت ملاحقته لمكامن العيوب في مجتمعاتنا، ورصده لمخططات أعدائنا، وسقطات نظمنا السياسية والاجتماعية، توقظ مشاعر الانتماء في كل مسلم وعربي غيور على دينه وأمته، وكل مسلم متطلع لقيادة البشرية لعالم أكثر عدلاً وأماناً وسلاماً.

وفي ذكرى وفاة الغزالي الحادية والعشرون، التي توافق العام الأول بعد المائة على ميلاده، نتناول رؤيته لفهم الإسلام التي صاغها في كتابه “كيف نفهم الإسلام؟”، لتعريف الأجيال الجديدة بجانب من فكر أحد أعلام أمتنا، الواجب الاهتمام بتراثهم الفكري والانتفاع به وتقريبه لهم، كي يتلمسوا طريقهم نحو إسلامهم بشكل صحيح، يمكنهم من التفاعل مع قضايا واقعهم وعالمهم بفاعلية.

جملة من المزالق

أحصى الغزالي، في هذا الكتاب، جملة من المزالق التي عرضت للحياة الإسلامية، وحاكمها للدين الحق المحفوظ في كتاب الله وسنة رسوله، واجتهد في نفي الزيف الكثير الذي راج للأسف بين الخادعين والمخدوعين ممن لم يفهموا الإسلام، ولم يحسنوا تعلمه ولا تعليمه ولا الدعوة إليه. وهو يؤكد أن هذه المزالق، تسببت في أن تفسد نظم المسلمين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. في حين أن الإسلام، ليس ديناً غامضاً حتى يحتاج في فهمه وعرضه إلى إعمال الذهن وكد الفكر. فالإسلام، آيته الأولى، هي البساطة، وميزته التي سال بها في الآفاق، هي السهولة البادية في عقائده، وشعائره وسائر  تعاليمه. ومن أهم هذه المزالق التي تناولها:

أولاً: مساوئ التعليم الديني

يؤكد الغزالي، أن النكبات التي طاحت بمجد الإسلام، تعود-أكثر ما تعود- إلى قلة العلماء الراسخين، والخبراء الفاقهين، وإن كثر المتزيون بزي العلماء والحاملون لإجازاتهم الدراسية. ثم يبرز عدة مآخذ على سياسة تخريج العلماء المسلمين وهم بهذه المكانة من القصور، منها:

1- فقدان الخصائص النفسية والذهنية، التي ترشح أصحابها للعلوم الدينية، فليس كل امرىء يصلح-مهما بلغت ثقافته- أن يشتغل بالنواحي الروحية أو الجوانب الإلهية في دنيا الناس.

2- التخصص المبكر في علوم الدين، قبل تحصيل ثروة محترمة من المعارف الإنسانية، والدراسات الكونية التي لابد منها قبل التوفر على علوم الدين، وعلاج قواعدها ودقائقها. فالإسلام، لا يمكن أن يدرس دراسة واعية، ولا أن يفهم فهماً صحيحاً قبل تحصيل هذه الثروة المحترمة من الثقافة. ذلك أن القرآن الكريم، والسنة النبوية، تعرضا لشئون نفسية وكونية، ولمسائل اجتماعية وتشريعية، ولتوجيهات داخلية وخارجية، يتطلب الخوض فيها طاقة ذهنية عالية، إلى جانب الاستعداد الروحي العتيد.

3-ضعف الاستيعاب لجملة الحقائق التي جاء بها الإسلام، والغلو في تقدير الأجزاء المتبلورة التي تتاح معرفتها للبعض مع القصور في معرفة الأجزاء المكملة الأخرى مع ما يكون لها من خطر وأثر.

4-أن بين العلماء والدعاة، نفراً كبيراً لا تصدق أحوالهم أقوالهم، يستمع الناس إلى كلامهم عن الله والآخرة والعبادة والتقوى، فإذا رأوا فعالهم أخذتهم الحيرة من بعد الشقة بين القول والعمل.

 

ثانياً: الأخطاء التي شاعت عن الإسلام

يبين الغزالي، أن هناك أخطاء كثيرة شاعت عن الإسلام، فعكرت على المسلمين حياتهم، وعكرت على الإسلام رونقه، منها:

ا-أن الحياة شر، وأن التعمير على الأرض مرحلة يجب على المسلم أن يستحث السير إلى نهايتها كي يتخلص منها، ويجب عليه ان يمر بالدنيا غريباً لا تربطه بأحوالها علاقة موثقة، ولا يلابس شئونها إلا كما يلابس الزيت الماء. وكانت عقبى هذا الفهم السقيم، أن عاش جمهور المسلمين فوق أرض ما يحسنون استغلالها، وتحت سماء ما يرمقون آفاقها، وفي كون ما تعنيهم أسراره ولا تبهرهم أنواره.

ب-الجهل بالدنيا والسقوط فيها: في حين أن الدنيا التي يذمها الإسلام، دنيا الغفلة والبلادة، والذهول عن الواجبات، والجري وراء الشهوات. إلا أن المسلمين في الاعصار الاخيرة جهلوا الدنيا بمعناها الصحيح هذا، وأقبلوا عليها بالمعنى الشقي الذي حقره دينهم: التي يركن إليها الجبناء، ويتعلق بها البخلاء وينحصر القاصرون في مآربها. ولهذا يدعونا الشيخ، رحمه الله، لنعود للفهم الصحيح للدنيا كما جاء بها الإسلام.

ج-الانفصال التاريخي بين العلم والحكم: يؤكد الشيخ، رحمه الله، أن  الإسلام ترك لأتباعه حكماً شورياً، لا يسمح بتسلط جبار، ولا افتيات مستبد، إلا أننا نجد أن الحكم في الإسلام، اليوم، صورة بدائية هزلية، لم يعرف العالم لها مثيلاً إلا في أطواره القبلية الأولى.

كما أن الجفوة بين العلم والحكم، أضرت بسير العلم على مر الزمن. ويؤكد الشيخ، أن تاريخ الاستبداد ناطق بأن السلاطين والأباطرة يضيقون باليقظات العلمية ويتوجسون خيفة من انتشار المعارف. ولهذا يرى الشيخ، رحمه الله، أن  فساد المجتمعات المسلمة تحت وطأة الحكم الفردي والاستبداد السياسي، هو الذي سجن العقول وحجر على الأفكار وقتل الكفايات الكبيرة، وعاقها أن تؤدي واجبها في خدمة الدين. فبقي المجال أمام التافهين الصغار وذوي المواهب المحدودة، وهؤلاء حجاب كثيف دون الحقيقة، بل هؤلاء عنصر خطير في إفساد الحقائق وإبرازها للناس وفق أهواء معينة، أو تلوينها لتترك في النفوس آثاراً ضارة.

د-الصراع السياسي: الذي أفسح المجال واسعاً أمام الاستعمار المباشر وغير المباشر ليحتل مجتمعاتنا الإسلامية.

ثالثاً: جمود علم العقيدة

يتحدث الغزالي من موقع العالم والداعية، عن حال علم العقيدة وما اكتنفه من طرق وأساليب ملأت كتبه، جعلته أبعد شيء عن تعليم الإيمان، وشرح الأفئدة ببشاشته. في حين يرى أن خير درس في تعريف الله إلى الناس وتعليمهم عقائد دينهم، أن ننتقل بهم إلى مشاهد الكون، فنذهب بالطلاب إلى حديقة نضرة، أو حقل مهتز، ثم نلفت أنظارهم إلى ما انشقت عنه الأرض من أغراس وأعواد. فالعقائد التي أسسها الإسلام تتسم بالبساطة والوضوح والقوة، وهي تتخذ طريقها إلى العقل والقلب ذلولاً قويماً، إن وجدت طرق التعليم القائمة على التفكر في الكون ومخلوقات الله.

رابعاً: الانقسام بين سنة وشيعة

يؤكد الشيخ، رحمه الله، أن انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة سببه التنافس السياسي، وأن أضغان الاسر الحاكمة والأسر المحرومة على مر القرون، غورت الجراحات، وورثت الثارات،  وجعلت الشقاق بين الشيعة والسنة متصلاً بأصول العقيدة، ليتمزق الدين الواحد مزقتين، وتنشعب الأمة الواحدة شعبتين، كلتاهما يتربص بالأخرى الدوائر، بل تتربص بها ريب المنون(قارن بما يجري اليوم).

وهو يرى أن قضية السنة والشيعة، هي قضية إيمان وعلم معاً. فإذا رأينا أن تحل مشكلاتها على ضوء من صدق الإيمان، وسعة العلم، فلن تستعصي علينا عقدة، ولن يقف أمامنا عائق.

خامساً: غياب عمد التربية الصحيحة:

ينبه الشيخ، رحمه الله، إلى أنه لا توجد لدى المسلمين، سياسة واضحة ولا غامضة للتربية الدينية العامة. وكل ما هنالك بعض المعارف الإسلامية الصحيحة، أو المشوهة، أو المختلفة، تنتقل بين الناس كيفما اتفق، عن طريق درس عابر، أو قراءة مسلية. فقد عزل التعليم العام عن أية ثقافة دينية محترمة. وتسربت إلى التربية أغلاط خطيرة.

ولهذا يرى الشيخ، رحمه الله، إن التربية الصحيحة المجدية أكبر شأناً من أن تحصر بين تقاليد الأقدمين المخرفين، وبين مزاعم المحدثين المأخوذين ببريق الغرب. وأن التربية الناجحة تعتمد على حقائق مقررة، ومسلمات لا تقبل جدلاً.

وأن الأرض الإسلامية، اليوم، في أمس الحاجة إلى قواعد من التربية تنهض على أصول دينية ثابتة تشد النفوس إلى عرى الإيمان الراسخ، كما تشد السفن في موانيها إلى صخور لا تتزحرح.

سادساً: غياب التجديد والاجتهاد:

يشدد الشيخ، رحمه الله، على أن تجديد الإسلام، هو إحياء علومه، والكشف عن جوهره؛ كما نزل من عند الله. وأن التجديد الحق، هو هداية الفطر أن تلمح بريقه، وتأخذ طريقه، وتصون حقوقه بدافع من الحب والرضا والاقتناع. وهو، كذلك، إحكام الصلة بين الإسلام وبين قافلة الحياة، لا ليلاحق سيرها فحسب، بل ليشرف على هذا السير، ويهيمن على اتجاهاته، وبذلك يكون الزمام لهدايات الرحمن، لا لهمزات الشيطان.

فتجديد الإسلام، هو حفز الهمم لرد العوادي عنه، وتجلية صورة القوة فيه، وإثارة غرائز الحياة في بنيه، حتى لا يهونوا، وتهون معهم حقائق الوحي الأعلى. وليس تجديد الإسلام، نقل الدين من مكانه إلى حيث يهوى الناس، بل نقل الناس من نطاق أهوائهم إلى حيث يرضى الله.

سابعاً :غياب الفهم الصحيح للسنة

ينبهنا الشيخ، رحمه الله، إلى أن الثروة الطائلة من السنن-مع الفقر الظاهر في فقه القرآن-ليست طريقة صحيحة في تصور الإسلام وتصويره، فلابد من دراسة شاملة للقرآن الكريم، وإحاطة واعية بنظراته في الحياة وتناوله لشئونها، حتى يمكن أن تفهم السنة الفهم الصحيح، وتؤدي دورها في تربية الإنسان المسلم وتأهيله لمقتضيات الخلافة في الأرض.

ولا بد كذلك لمن أراد التحدث في الإسلام، أن يجيل بصره في طول السنة وعرضها، غير مكتف بمعرفة القليل منها، فإذا ورد حديث لم يفهم على حدةـ إنما يفهم على ضوء ما استقر في الأذهان من جملة الكتاب والسنة.

خاتمة

محمد الغزالي، باب سهل الفتح والدخول بيسر وأمان إلى الإسلام، كما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، لناشئتنا وشبابنا، إن أحسننا الاستفادة من تراثه العلمي الكبير، وتبسيطه، وترتيبه ل: يبني ذائقة الأجيال القادمة اللغوية، ويقوي عاطفتهم الدينية، ويربي عقائدهم الإسلامية السليمة، ويرتقي بأخلاقهم، ويربطهم بهموم أمتهم ومشاكلها المختلفة، ويعرفهم بأدوارهم المنوطة بهم اليوم والغد للنهوض بها.

يقول لنا الغزالي، في كتابه الذي بين أيدينا، إن الإسلام الحق يخلق نظام اجتماعي سياسي أخلاقي حقيقي يحقق الحياة الطيبة، وأنه كلما ابتعدنا عن هذا الهدف، نكون قد انحرفنا في فهمنا للإسلام، وعلينا العودة إليه لفهمه من جديد، لنحيا حياة طيبة.

وقد انتهج الغزالي، في كتابه، تحليلين متوازيين: الأول يقوم على الرد على من يشوهون الإسلام من أهله وغير أهله، والثاني يبين الطريق السليم لفهم الإسلام اليوم. فهذا الكتاب-كما باقي كتبه-تجسيد حقيقي لخبرته في معالجة مشاكل أمتنا. وهو، أيضاً، عملية فحص للمجتمعات المسلمة، والكشف عن الكثير من جوانب ضعفها. وعرض لاقتراحات عملية وعلمية، كي تتمكن من القيام بعمل إيجابي من الدفاع عن إسلامها والنهوض بأحوالها.

وأخيراً، فإن الوعي على ما جاء في هذا الكتاب، وغيره من كتب الغزالي، عن كيفية فهم الإسلام، ترتب للإنسان المسلم وجماعة المسلمين فهماً جديداً للعالم ودوراً جديداً للإنسان ينطلق من الإسلام الحق.

رحم الله شيخنا الغزالي رحمة واسعة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى