مقالاتمقالات مختارة

الشيخ الصالح العالم العامل نصير أحمد خان البلند شهري

الشيخ الصالح العالم العامل نصير أحمد خان البلند شهري

بقلم محمد أجمل القاسمي

آثر الخمولَ وقابَع في بيته متوفرًا على المطالعة والدراسة متجولاً في بطون الكتب، ولم يبتغِ الشهرةَ والسمعةَ مع أن السُبُل لنيلها كانت ممهَّدة، والفُرَص لها متاحة، والإمكانيّات لها موفورة. زهد في الدنيا وعاش بالكفاف راضيًا مقتنعًا، ولم يصْرِف همومَه في تكديس الثروة، ولم يجعل من المناصب ذات الخطورة التي تولاّها مكسبًا للمال ومصدرًا للخير شأن بعض العلماء الذين هممهم بطونهم، ولو بغى لنفسه المالَ لجمع الكثيرَ الوفيرَ. تواضع وأخبت وألان جنبه لصغاره وتلامذته، وكان حريًّا أن يتكبر ويعتدّ بنفسه ويعتز؛ لكونه كان كبيرًا يتمتع بنفوذ وثقل ووقار. تولّى المناصبَ الهامة فما أزعج أحدًا ولا أسخَطَ ولا آذى بيده ولسانه المراجعين ومن دونه من المدرسين والموظفّين، وكان خليقًا أن يرغِمَ ويفرض نفسه ورأيه على من هم دونه رتبة ومنزلة وسنّا وشأنًا. إن هذه الصفات الكريمة إذا تجمّعت في إنسان فإنّها تأتي شهادة كبرى على عظمة الرجل، كما هي في الوقت نفسه تأتي دليلاً على نزاهة مخبره وسيرته وحسُنِ سريرته. هذه هي سمات فقيدنا العظيم وراحلنا الكريم التي اعترف بها الأعداءُ والأصدقاء على السواء، والتي جاءت تبرهن على عظمة الرجل وجلالته وتُبرز قيمتَه ومنزلتَه الساميّة في مجتمعنا المدرسيّ، ومدى احتياجنا إليه.

     أكتب هذه السطورَ وتتمثل في ذاكرتي تلكَ الصورة اللطيفة الطريفة التي تشكَّلتْ أمامي لدى نزول الشيخ من عربة “ركشا” أمام البوّابة الرئيسة لدارالعلوم ليلقي فاتحة محاضراته على صحيح البخاري في بداية السنة، وكان هذا أولُ عهدي به إذ كنت سمعتُ عنه ولم أكن أعرفه لكوني واردًا جديدًا في الجامعة. رأيت شيخًا بهيّ الطلعة، مُشْرق المحيَّا، وضّاء الجبين، يَرِفّ عليه نور الصلاح والتقوى، تبدو عليه براءةُ الملائكة، معمِّمًا بشماغ أصفر فاقع لونه، مرتديًا بـ”شيراني” في يده عكازة سوداء يستعين بها في مشيه، فارقتْه نضرةُ الشباب وسواده، وحَلَّ محلَها الشيبُ فأضفى عليه الوقار والمهابة، يمشي في وقار، خافضًا طرفه، مسدَّد الخُطَا، ماضيًا إلى الأمام، ناظرًا بين يديه لايلتفت يمينًا وشمالاً. سألتُ صاحبي: من هذا الشيخ؟ فأجابني هذا “الشيخ الأوّل” وكان معروفًا بهذا اللقب في المجتمع الطلابي؛ لكونه يدرس المجلد الأول من صحيح البخاري، فسُرِرتُ جدًا، وعلق قلبي بالرجل، وازددت حبًّابه وإعجابًا؛ إذ صادفت المشاهدةُ الصورة التي رسمتُها في ذهني، فتبعتُ الرجلَ وألقيتُ عليه نظرةً حانيةً تُعانقه إذا لم استطع أنا معانقته، حتى دخل الشيخ قاعةَ الحديث واُغلِق الباب دوني. وهنا انتهى السيناريو الطريف الذي أذاقني لذة لا أكاد أصوغها في كلمات.

     بدأ الشيخ رحلتَه العلميّة من مدرسة “منبع العلوم” ببلدة “جلاوتهي” بإشراف شقيقه الكبير الشيخ بشير أحمد خان رحمه الله الذي كان أستاذًا بالمدرسة، وتعلَّم منه معظمَ المقرّرات الدراسيّة، ولمّا عُيِّن الشيخ بشير أستاذًا بالجامعة الإسلاميّة دارالعلوم بديوبند عام 1364هـ انتقل معه إلى ديوبند، وكانت آنذاك تختزن أجلة العلماء والمشايخ الصالحين الربّانيين، فانتهل من معينهم وتخرَّج على المحدّث الجليل العالم العامِل العلامة حسين أحمد المدني المعروف بـ”شيخ الإسلام” والعلامة الأديبِ الأريب الشيخ محمد إعزاز علي الأمروهوي، والعلامة الحكيم المقرئ محمد طيب، والشيخ عبد الخالق الملتاني وغيرهم، وبعد التخرج عُني بالتجويد والقراءة فتعلّمه من الشيخ المقرئ حفظ الرحمن، وبايَعَ للتزكية والإصلاح العلامة حسين أحمد المدني، وبعد وفاته تخرّج في الإحسان على الشيخ المقرئ محمد طيب، وصحب الداعيَة المُلْهَم الموهوب الإمام محمد إلياس الكاندهلوي – كما ذكر خلال دروسه – في رحلاته الدعويّة التي قام بها – رحمه الله – بادئ بدء، فقبس من جمرة قلبه شعلةَ اليقين، وشحن عنده بطارية الإيمان. وانعكس صلاح المربِّين وتقواهم على الشيخ وتمثل ذلك في أخلاقه وسلوكيّاته وأعماله وتصرُّفاته وصارَ كما قال أبو فراس الحمداني:

     صنائع فاق صانعها ففاقت

                      وغرس طاب غارسه فطابا

     وكنا كالسهام إذا أصابت

                      مراميها فــراميها … أصابا

     وبما أنّ الشيخ اُتيح له فرصةُ الاستفادة من المشايخ المشهود لهم بالإتقان والنبوغ العلمي والإخلاص والصلاح والتقوى مالا تَيَسَّر لغيره من المشايخ المتواجدين في ديوبند لتأخّر زمانهم، وبما أنه كان يتمتع بالجدِّ والوقار اللذين لايزالان سمة العلماء الصالحين، وبما أنه كان أستاذ الأجيالِ المتلاحقة، فهناك عدد لايُحصى من الآباء والأبناء الذين تخرّجوا على الشيخ في أوانهم، ولأنه كان أستاذَ معظم شيوخ ديوبند العاملين في الجامعة والقائمين عليها؛ لهذا وذاك وآخر فإنه كان له حُبٌّ متجذِّرٌ في القلوب والاحترامُ الكبير لدى العلماء والطلاب؛ فكانوا يفرشون له العيون، ويُحبّونَ مجالستَه وزيارته. ولاغروَ إذا أحبه العلماء والأساتذة والطلاب؛ فإنّه كان جديرًا أن يحظى بالحب والاحترام عندهم لدوافع المحبة التي أبنّاها؛ وإنما العجب إذا أحبه الجماهير وأهالي المدنية وأصحاب عربة “ركشا” حيث كان لاتربطهم به علاقةٌ مثلما تربط العلماء والطلاب به، ولاشك أن هذا راجع إلى تواضعه وصلاحه وتقواه: الأمور التي تجلب رضا الربِّ ومحبَّته، وإذا أحبَّ أحدًا يُحبُّه ملائكته وعباده كما جاء في الحديث النبويّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

     “إنّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبرئيل فقال: إني أحِبُّ فلانًا فأَحِبَّه قال: فيحبُّه جبرئيل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يُحبُّ فلانًا فأَحِبُّوه، فيحبّه أهل السماء، ثم يُوضَع له القبول في الأرض. (رواه مسلم، باب الحب: مشكاة المصابيح ص 425).

     كان الشيخ عالمًا متقنًا، ومدرسًا كثير النفع، بسيط الألفاظ، ربما يعمد إلى ضرب الأمثال وسرد القصص لتقريب المعاني إلى أفهام الطلاب، يوجز الكلام في شرح الموادّ، ولايضنّ بالإفاضة إذا دعت الحاجة إليها، وكان يجمع بين الذكاء وإتقان العلم إلى الصلاح المركوز في طبيعته والجد الذي عُجِنت به طينتُه، وكان يخزن لسانه فيما لايعنيه من الكلام، وكان شديد الاحتراس من الغيبة وأكل لحم أخيه المسلم.

     وكان واضحَ النطق، جميلَ النبرة، جهيرَ الصوت، وكان كلامُه مفصولاً بَيِّنًا صريحًا يتناهى من أقصى القاعة إلى أقصاها غير متهدِّج ولا مختلط. وهذه ميزةٌ أخرى من مزاياه الكثيرة بقي متمتعًا بها إلى آخر ايام حياته. وكان الرجلُ يقضي من عجبه إذ يراه طاعنًا في السن يُشارف المئةَ، وسقط من أسنانه ثناياه وأنيابه وطواحنه ثم لايعتري صوته التهدُّجُ والارتعاشُ، ويتكلَّم بكلام واضح مسموع مفهوم. ونظرًا لميزته هذه كثيرًا مّا سمعنا الطلابَ يُسمُّونه “إذاعة البي بي سي” المعروفة بجمال عرض النشرات، وهكذا قواه الأخرى من السمع والبصر والذاكرة كانت مصونة لحد كبير، فلم يكن هناك اختلال يعتري سمعه وعقله وذاكرته، اللّهم إلاَّ الضعف الذي اعتراه فإنّه لامعدى عنه لأي إنسان يكون في مثل عمره، وهذه نعمة كبيرة أكرم الله بها الرجلَ، وماذا نقول عنها إذا لانرجِّعُها إلى إخلاصه لله في عمله وحُبِّه حبًا صادقًا لكلام رسوله الذي دعا للمشتغلين بكلامه قائلاً:

     “نَضَّر اللهُ أمرأً سمع مناشيئًا، فبلَّغه كما سمعه، فربَّ مَبلَّغ أوعى له من سامع”. (رواه الترمذي وابن ماجة ورواه الدارمي عن أبي الدرداء كتاب العلم: مشكاة المصابيح ص 35).

     ومن سماته الاحترامُ البالغ لمشايخ ديوبند والاعتدادُ بهم وبآرائهم العلميّة والاعتزازُ بشخصيّتهم، فقلَّما ذكر خلال الدرس أحدًا منهم إلا وعيناه ذرفت بالدموع حبًا له، وكان مغمورًا بحبِّ أستاذه العظيم المحدث الجليل شيخ الإسلام حسين أحمد المدني، شديدَ الاحترام والإجلالِ له، يُكثر ذكره خلالَ حديثه بشوق وتلهُّفٍّ وشغف. واحترامه كان لايقتصر على أساتذته فحسب وإنما كان يحترم معاصريه بل من هم دونه علمًا وسنًا ومنزلة بكثير، من الأساتذة العاملين في الجامعة والقائمين عليها. كما أنّ احترامه للكبار كان بقدر شفقته وحنانه على الصغار، فكان يُخاطِبهم بلهجة تفيض رحمةً وعطفًا عليهم، شديدَ التحاشي عن كلمات تمس ضميرَ إنسان، فكان إذا أراد التنبيهَ يقول: “ياورثة الانبياء! يا معشر الملائكة! بلغني أن البعضَ منكم يَفْعَل كذا وكذا، وإني أُحسِنُ الظنَّ بكم ولا أحسبُ أنتم فاعلوه؛ ولكن إن صدر منكم كذا وكذا عن خطأ وغفلة، فهيهاتَ أن تعودوا لمثله فإن هذا لايَليق وشأنَكم” وإذا نظرنا إلى هذا الجانب – وكان جانبًا واضحًا من جوانب حياته – وجدناه كأنّه قوَّمَ أخلاقَه على مبدءِ يستمده من الحديث النبويّ المعروف الذي ورد فيه:

     “ليس منا من لم يَرحم صغيرنا ولم يوقّر كبيرنا، ويَأمُرْ بالمعروف ويَنْهَ عن المنكر” (رواه الترمذي، باب الشفقة، مشكاة المصابيح ص 423)

     وإذا ذكرنا جانبَ رضاه وشفقته يجدر بنا أن نصوِّر للقارئ غضبَه وسخطَه وإن كان هذا جانبًا شاذًا لحياته لايخلو عنه إنسانٌ مهما كان خليقًا آلفًا مألوفًا مادام يتمتع بالإباء والغيرة الإنسانية الكريمة. كان من تقاليد الجامعة الإسلاميّة منذ عهد شيخ الإسلام حسين أحمد المدني – رحمه الله – أن الجامعة كانت تهتم بالدعاء بمناسبة إتمام تدريس صحيح البخاري؛ حيث جرّب العلماءُ الصالحون استجابةَ الدعاء بعد إتمام الكتاب، وقد جرت العادةُ بهذه المناسبة السعيدة أن الجماهيرَ من المسلمين من سكان المدينة وخارجها كانوا يقصدون الجامعةَ؛ ليحضروا الدعاء ويؤمِّنوا على دعاء الشيخ، وبعد انتهاء الدعاء كانوا يعودون من حيث أتوا، إلاّ أنّ هذه السلسلة المباركة المستمرة بسذاجة منذ أمد بعيد عادت تُمثِّل في الأعوام الأخيرة صورةَ المهرجان الفخم يحضره تجمُّع كبير من الرجال والنساء، وأصبح الطلاب المتخرجون يقيمون مأدبة فخمة لأهلهم وذويهم الذين كانوا يقصدون الجامعة على دعوة منهم، وكانت هذه بدايةً تؤشِّر بعواقبَ غير محمودة تنبهت لها إدارة الجامعة ودارالإفتاء بها في أوانها، فقرّرت الجهتان إيقاف هذه السلسلة، والشيخ لمّا بلغه الخبر تألّم كثيرًا حيث كان شديدَ الاقتفاء بما رسمه له شيوخُه من الخطوط، وممّا زاد الطنبُور نغمة أنّه بلغه – وليس الواقع كذلك – أنّ دارالإفتاء تَعتبر المناسبةَ بدعة، وهنا اشتاط غضبه وثارت ثائرتُه، فما كان منه إلاَّ وأن رفَضَ إتمام الكتاب، إلاَّ أنّ رئيس الجامعة طالبَه إتمامَ الكتاب وألَحّ، فنزل الشيخ عند طلبه راغمًا، وحضر دارالحديث – قاعة الحديث – بشكل مفاجئ دون إخطار مسبَّق، فوجَدَ القاعة شاغرة، فانصبَّ جام غضبه على الطلاب، وبالَغَ في توبيخهم، ثم صمت وأخذ القارئُ يتلو الأحاديث وهو لايزال صامتًا على عكس ما عُهد منه، واستمر القارئ حتى أنهى الكتابَ. وهنا انفجر بركانهُ، فلم يتكلم بكلمة في شرح ما تُلي عليه من الأحاديث، وما وجَّهَ كلمته الناصحة إلى المتخرجين التي تعوَّد إلقاءَها بهذه المناسبة، وإنما أرعد وزمجر وهاجَمَ المفتين بالجامعة بأفظع الكلمات وألذعها، ووصفهم بما بدا له من الجهل والحمق وعدم معرفة الحق من الباطل والجرأة الزائدة في إصدار الفتوى في مهام الأمور، وبكى فأجهش بالبكاء، ثم نهض ومضى لسبيله، ونهى في صرامة بأن لايتبعه أحد من الطلاب.

     رحم الله الشيخ نصير أحمد فقد كان الصوابُ مع المفتين الكرام، وخطوتهم كانت رشيدة مناسبة جاءت في وقتها المناسب. أما الشيخ – رحمه الله – فله العذر؛ فإنه لأجل تقدُّمه في السن وصلاحه الغالب على طبيعته، وقلةِ احتكاكه بالناس والعباد، ولكونه يعيش حياة شبهَ عُزلة فإنّه كان لايعرف مقدارَ الفساد والانحلال الخُلُقّي اللَّذين يَعمّان مجتمعنا المعاصر، ومن ثم فإنّه كان لايُدرك مدى حجم الفتنة التي ربما يتمخضّ عنها التجمُّع العشوائي للرجالِ والنساء بهذه المناسبة.

     كان رحمه الله من أقدم أساتذة دارالعلوم عملاً وسنًا؛ فإنّه لدى وفاته كان يُشارف المئة؛ حيث كا يناهز 96 بالنسبة إلى العام الهجري و 94 بالنسبة إلى العام الميلادي، أمّا نشاطاته العلميّة والتدريسيّة فإنّها تستوعب مسافة زمانيّة طويلة تتجاوز أكثر من ستة عقود ونصف؛ فقد أوتي فرصة مديدة للدراسة والتدريس والعمل لصالح دارالعلوم. وهذا ممّا يُميِّز الشيخ عن الآخرين، فإنه ما أوتي أحد قبله هذه الفترة الطويلة في الجامعة، ويبدو من شبه المستحيل أن يحظى بها أحد بعده، وذلكَ فَضْلُ اللهِ يُوْتِيْه مَنْ يَّشَاءُ وَاللّهُ ذُوالْفَضْلِ العظيمُ.

     ومن مزاياه أنّه قام بتدريس معظَم الكتب المُدْرَجَة في المنهج الدراسي المتَّبَع لدى معظم المدارس الإسلاميّة في شبه القارة الهنديّة بدءًا من كتاب “نحومير” (المقرر الدارسي في مادة النحو للناشئين) وانتهاءً على صحيح البخاري، ودرّس هذه الكتب بكفاءة، وعُني بعلم الهيئة وأتقنه لحد مدهش فهمًا وتفهيمًا. وكان يحترم العلمَ وأدواته وأهلَه من المعلمين والمتعلمين، وكان أشدَّ الناس إجلالاً وتعظيمًا لكتب التفسير والحديث، وشُغف بصحيح البخاري شغفًا ربّما لانجد في القرون الأخيرة نظيرًا لهذا النوع من الشغف به اللّهم إلا ماشاء ربّك، فقد تعوِّد – كما ذكر خلال بعض دروسه – تلاوة صفحات من الصحيح يوميًّا إلى تلاوته القرآنَ الكريمَ، واستمرّ على ذلك حتى أكرمه الله بمنحه فرصةً لتدريس الكتاب، وبقي على تدريسه موفقًا مبروكاً حتى بلغ من الكبر عتيًّا، ولازمه المرض ولم يقدر معه على أداء مهام التدريس فتقاعد عنه. ومن المألوف المشاهد أنّ الألفة تُذهب الاحترام إلا أن حبّه الصادق بالكتاب زاده تعظيمًا واحترامًا.

     وكان للشيخ وقار المحدثين ومهابتهم اللذان كانا يَسودان جوَّ دارالحديث لدى إلقائه المحاضرات، وكان يجلس لها على دكة التدريس جلوسَ المصلي في تشهده، واضعًا ذراعيه على المكتب الذي أمامه، والصحيح مفتوح بين يديه وهو مُنحَنٍ إليه انحناءً، وهيئته هذه لاتبرح طوال الدرس الذي كان يطول في الغالب إلى ساعة ونصف وربّما أكثر، لايُغيِّر من جلسته، ولايُسند ظهره إلى المسند الموضوع بجانبه، وقد مكَّنتْه من ذلك القوةُ الروحانيّةُ المعنويّة التي يُكرم الله بها عباده الصالحين، إلى جانب ذلك كان الشيخ خلال دروسه مُفرطَ الجد، قليل الهزل، قليلَ الإشارة والاستعارة: وهذه الأمور هي الأخرى التي جاءت نابعة من الاحترام الجمّ الذي كان يتمتع به تجاه الحديث الشريف.

     ولم يكن الشيخ نصير أحمد خان مدرِّسًا أدّى دورَه في مجالات التعليم والتدريس والتلقين وإنّما ساهم بجانب ذلك في إدارة الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم ديوبند؛ حيث تولّى المناصبَ الهامَّة بها، فقد شغل منصب نائب رئيس الجامعة إلى مدة طويلة، وعمل كمدير التعليم، وعُيِّن مديرًا لهيئة التدريس، وتولّى شياخة الحديث، وأدّى المهامَ الموكولة إليه وفقَ المطلوب.

     وُلِد الشيخُ يوم 21/ربيع الأول 1337هـ = 23/ ديسمبر 1919م، وعُمِّر طويلاً حتى بلغ من الكبر عتيًّا، واستوفأ ظمأ حياته الأخير في نحو الساعة الثانية من الليلة المتخلِّلة بين الأربعاء والخميس 17-18/ صفر المظفَّر 1431هـ المصادف 3-4/فبراير 2010م بعد ما برّح به المرض طويلاً، وجعله طريحَ الفراش منذ سنتين ونصف، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار. وقد صلى عليه آلاف من خير خلق الله على الأرض من العلماء والمشايخ والدعاة وطلاب العلم وذوي الصلاح والتقوى من الجماهير، ووُرِّي جثمانه في المقبرة القاسميّة التي تضمُّ رفات كثير من العلماء النابغين والمشايخ الصالحين. غابَ – رحمه الله – عن دنيانا ولم يَغب عن قلوبنا، وسيمكث ذكره في الأرض بقدر إخلاصه بمشيئة الله تعالى، أجزل الله مثوبته وأكرم مثواه، وأدخله فسيحَ جنّاته وتجاوز عن زلاّته وسيّآته. آمين!

(المصدر: مجلة دار العلوم الشهرية – ديوبوند)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى