الشيخ الشعراوي.. الذي أذاب الإلحاد بحرارة الإيمان البسيط
بقلم د. محمد الجوادي
أبدأ حديثي عن هذا الشيخ المحبوب بأن أروي واقعة لا يطيق أعداء الإسلام أن يرووها أو أن يسمعوها أو أن يروها متداولة، كما أن كثيرا من المسلمين المتصلين بالعمل الثقافي قد يستهينون بدلالتها، بل إن بعضهم سيراني مخطئا في نظري إليها، الواقعة تتمثل في أن الفنان العالمي عمر الشريف بكل ثقافته وما حفلت به من عناصر العلم والعلمية والعملية والعالمية والعولمة والعلمانية لم يكن مغرما في سنواته الأخيرة إلا بشيء واحد فقط، هو أن يتقمص شخصية الشيخ محمد متولي الشعراوي في حركاته وسكناته وأقواله واستنباطاته، ومن الواضح لكل منصف ولكل مبصر أن ما تناثر من مقولات الفنان عمر الشريف في أحاديثه الأخيرة عن الرزق والمال والسعادة والقيم الإنسانية وعن أمانيه وندمه كانت كلها تعبيرا عن رؤية متأثرة تماما ولا نقول إلى حد كبير بفهم الشيخ الشعراوي وأطروحاته. نسأل الله الرحمة لوالدينا ولهما.
أنتقل إلى التاريخ بادئا بمكانة الشيخ محمد متولي الشعراوي في التاريخ العقلي لمصر ومحيطها العربي والإسلامي في عصره، وباختصار شديد فإن مصر ومعها هذا المحيط الذي تنتمي إليه كانت قد اضطرت إلى أن تمضي خطوات واسعة في الانتماء إلى معسكر الاتحاد السوفييتي والدول الشرقية، وكان هذا يقتضي الإعلان الصريح عن القبول بالفكرة الشيوعية تمهيدا لتسييد هذه الفكرة، ومع أن هذه العملية الأيدولوجية كانت تسير بخطوات واثقة ومتتالية فإن النظام الناصري كان من الذكاء (و الخبث) بحيث احتاط فروّج لفكرة موازية تتمثل فيما سمي بالاشتراكية العربية التي لا تعادي الدين على نحو ما تفعل الاشتراكية العلمية التي هي الاشتراكية التي يعرفها العالم كله ولا يعترف بنسخة عربية منها، فلما جاء الرئيس أنور السادات إلى الحكم كان أول توجهاته المعلنة هو دولة العلم والإيمان، وسرعان ما غزا هذا التعبير وهذا التوجه كل الأدبيات السياسية والدستورية بل وتحول على يد الفن والإعلام إلى برنامج تلفزيوني كان صاحبه ونجمه هو الدكتور مصطفى محمود بما عرف عنه هو نفسه في تاريخه العقلي والشخصي من تجربة التحول من الشك إلى الإيمان وبما عرف عنه أيضا من كونه طبيبا آثر الاشتغال بالفكر.
وكان لابد لطريق العودة إلى الإيمان أن يخطو خطوته التالية الطبيعية وهي أن يتحول من العلم والإيمان إلى الإيمان والعلم وهو ما تم بنجاح ساحق على يد الشيخ محمد متولى الشعراوي. هنا والآن فقط أعود إلى التاريخ العقلي في المرحلة السابقة على رئاسة الرئيس السادات وأطروحات الدكتور مصطفى محمود لأشير إلى الأدوار الحقيقية التي لم ينتبه إلى فاعليتها أحد، فقد كان الفضل الأوفى في التحذير بصوت عالٍ من تعارض الشيوعية والاشتراكية مع الإيمان والأديان راجعا إلى المفكر العظيم الأستاذ عباس محمود العقاد، ومن المدهش أن تمكين الأستاذ العقاد من أداء هذه المهمة بقوة مروعة تم بجهد صادق من النظام الناصري في فترة حرصه على إعلان عدائه للشيوعية، ويكفيك على سبيل المثال أن تجد كتبا قيمة متاحة على أوسع نطاق تحمل عنوانا من قبيل “هذه هي الشيوعية “، وعلى الغلاف أن الكتاب بتقديم الأستاذ عباس محمود العقاد، ومن المصادفات أن الأستاذ العقاد توفي في 1964 قبل أن تعود الشيوعية إلى الظهور الفاعل في 1965.
أزيد الأمر تعميقا فأذكر لك أن الأستاذ نجيب محفوظ برصده الفلسفي الدقيق كان يفعل في رواياته بهدوء ما فعله الأستاذ العقاد بصوت عال، وعلى سبيل المثال فإن نهاية روايته الطويلة المشهورة المحجوبة كانت تقول باختصار إن حارتنا بعد مسيرتها الطويلة عرفت أنه لابد من الإيمان مع العلم. لكن كل هذا التاريخ العقلي والجدل العقلي سرعان ما اختفيا تماما في عصر العودة إلى الإيمان أو عصر الشعراوي على نحو ما يحب الراصدون أن يسموا العصور بأسماء نجومها.
أنتقل الآن إلى التاريخ الشخصي والعام، وقبل أن أورد تاريخ هذا الرجل العظيم أجد من الضروري أن أشير إلى أنني توليت كتابة تاريخه في عدد من الموسوعات، ونشرت عنه أكثر من فصل في عدد من كتبي المتداولة، كما كتبت مقال تأبينه في الأهرام، وبالطبع فقد نقل كثيرون عني سواء مع ذكر المصدر أو مع التغاضي عن ذكر المصدر، وفي هذا المقال اعتمدت على ما نشرته من قبل على نحو ما اعتمد كثيرون عليه.
ولد الشيخ محمد متولي الشعراوي في 16 من أبريل 1911 بقرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وهي الآن في زمام المدينة الكبيرة، وحفظ القرآن الكريم في كتاب قريته، وانتقل إلى الزقازيق ليتلقى التعليم الأزهري في معهدها الديني، وعرف وهو طالب بعدد من مقومات الزعامة الواعدة، فقد عرف بقدراته الشعرية الفائقة، واهتماماته السياسية الواعية، وممارسته اليقظة للحياة العامة، وشغفه اللا متناهي بالصحافة، ومن المهم أن نضبط المعلومات التاريخية حول فترة الشاب الثائر في حياة الشيخ لأنها تبدو مضطربة في كل ما كتب عنه وذلك بسبب الافتقاد إلى نظمها في موضعها الصحيح من مسبحة (أو سلسلة) تاريخنا الوطني.
لم يكن معهد الزقازيق بعيدًا عن قلعة الأزهر في القاهرة، ولا عن مجريات السياسة وروح الثورة، وثورة ذلك الوقت ثورتان اتحدتا معا، فأصبحتا ثورة 1935 التي يتجاهل تاريخنا الرسمي تفصيلاتها، وذكرها لأنها كانت ثورة طلاب ناجحة هادرة تستهدف حرية الوطن والديموقراطية وكرامة الإنسان، وقد ارتبطت أهدافها وتقاطعت معا على الرغم مما يبدو من تنوع هذه الأهداف وتباعدها فقد اجتمعت فيها كما قلنا ثورتان:
– الثورة الأزهرية التي قام بها طلاب الأزهر منادين بمطالبهم التي رأوها مشروعة، وفي مقدمتها المطالبة بعودة محبوب الثوار الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخا للأزهر، وإقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من المشيخة.
– الثورة الوطنية على البريطانيين، والثورة من أجل عودة دستور1923 والخلاص نهائيا من روح دستور 1930 الذي فرضه إسماعيل صدقي باشا، ومعقباته والأوضاع الأوتوقراطية التي أنشأها، والدعوة إلى اتحاد الأحزاب من أجل الديموقراطية، والاستقلال الوطني.
وكان الشيخ محمد متولي الشعراوي أحد زعماء هذه الثورة مع الشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ محمد نايل، وكان الشيخ محمد متولي الشعراوي لا يزال طالبا في التعليم الأزهري الثانوي في معهد الزقازيق، وقد أصبح أيضا رئيسًا لاتحاد الطلبة سنة 1934، فكان يقود الثورة في الزقازيق كما كان يتوجه للقاهرة من الزقازيق قائدا لزملائه إلى ساحات الأزهر وأروقته، ويلقى بالخطب والأشعار مما عرضه للاعتقال أكثر من مرة، كما كان يشترك في حركة المنشورات التي تعبر عن سخط المصريين ضد الإنجليز المحتلين والوزارة المتواطئة. ومن الحق أن نقول أن ثورة 1935 خرجت من الأزهر الشريف كما اندلعت ثورة سنة 1919 من الأزهر من قبل.
انتقل الشيخ محمد متولي الشعراوي للإقامة والدراسة في القاهرة حيث التحق بكلية اللغة العربية بالأزهر في 1937، وحصل على الشهادة العالية منها (1941)، وبعدها نال الشهادة العالمية مع الإجازة في التدريس من كلية اللغة العربية أيضا (1943) وطيلة هذه السنوات الست عاش الشعراوي القاهرة المائجة بالثورة والحراك والحياة والتقدم.
عين الشيخ محمد متولي الشعراوي عقب تخرجه مدرسا بمعهد طنطا الأزهري، ثم معهد الإسكندرية، ثم معهد الزقازيق، وأعير للعمل بالتدريس في السعودية (1950)، وعاد لمصر فأهلته أقدميته لأن يعمل وكيلا لمعهد طنطا الديني (1960)، ونقل من الأزهر إلى وزارة الأوقاف حيث اختير مديرا للدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف (1961). وسرعان ما عاد الشيخ محمد متولي الشعراوي من وزارة الأوقاف إلى الأزهر مفتشا للعلوم العربية بالأزهر الشريف (1962)، ومصاحبا للإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت في جولاته، وقد اختاره الإمام الأكبر التالي للشيخ شلتوت وهو الشيخ حسن مأمون مديرًا لمكتبه، كما اختير رئيسا لبعثة الأزهر بالجزائر (1966).
ثم عاد الشيخ محمد متولي للعمل في السعودية فعمل أستاذا زائرا بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية (1970)، فرئيسا لقسم الدراسات بها (1972)، وفي السعودية اضطر الشيخ محمد متولي الشعراوي أن يدرِّس مادة العقائد رغم تخصصه أصلًا في اللغة وآدابها وكان هذا في حد ذاته يمثل صعوبة كبيرة بسبب الاختلافات المذهبية الحادة إلا أن الشيخ محمد متولي الشعراوي استطاع أن يثبت تفوقه في تدريس هذه المادة الشائكة في مثل هذا الوقت، وقد نجح في تجاوز الخلافات المذهبية بذكاء العالم اليقظ وبدرجة كبيرة من الفهم العميق لاقت تقدير الجميع وإعجابهم.
ثم عاد الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى مصر، ونال بحكم الأقدمية الطبيعية التي يحترمها الأزهريون درجة وظيفية رفيعة في وزارة شؤون الأزهر، وهو مالم يكن ليتاح له في الوزارات الأخرى التي تطبق قواعد المدد البينية والسلم الوظيفي ولا تعتد بالكفاءة ولا بحكم الأقدمية في مؤهلات الوظيفة العلمية، لكنه بالطبع لم يتول موقعًا وظيفيًا مؤثراً في الإدارة اليومية، وإن كان قد تولى الوزارة نفسها في السنة التالية لسن التقاعد.
وهذا ملخص تعاقبي للوظائف التي تولاها الشيخ محمد متولي الشعراوي في الفترة التي تختلف الروايات فيها وفي ترتيبها:
– عين وكيلًا لمعهد طنطا الأزهري سنة 1960.
– عين مديرًا للدعوة الإسلامية في وزارة الأوقاف سنة 1961.
– عاد إلى الأزهر عين مفتشًا للعلوم العربية بالأزهر الشريف 1962.
– عين مديرًا لمكتب الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ حسن مأمون 1964.
– عين رئيسًا لبعثة الأزهر في الجزائر 1966.
– عين أستاذًا زائرًا بجامعة الملك عبد العزيز في كلية الشريعة بمكة المكرمة 1970.
– عين رئيسا لقسم الدراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز 1972.
– عاد إلى مصر وشغل درجة عالية في وزارة الدولة شئون الأزهر 1975
عرفت الجماهير الشيخ محمد متولي الشعراوي فجأة وبقوة وعلى نطاق واسع بعد تكرار ظهوره الساطع في برنامج «نور على نور» الذي كان الأستاذ احمد فراج يقدمه بصفة أسبوعية في التليفزيون المصري، وأصبح الشيخ في سرعة بالغة أبرز نجوم الدعوة الإسلامية. لم تكن للشيخ الشعراوي حتى بزوغ نجمه الساطع في السبعينيات مؤلفات إسلامية في مجال بعينه، ولم يكن قد ركز على موضوع ما في أحاديثه، لكنه كان بحكم العلم الغزير والقدرة البيانية قادرًا على أن يأخذ بألباب سامعيه في كل ما يعرض له من قضايا الإسلام والعصر. وقد ظهرت قدرات الشيخ محمد متولي الشعراوي المتميزة في تناول القضايا القديمة والحديثة على حد سواء، كما تميز منهجه في التناول بذكاء بالغ، وكان من المتفق عليه أنه رزق التوفيق في الاختيار والمعالجة والتعقيب والجدل جميعا.
ويرى الدكتور محمد رجب البيومي وهو صاحب الفضل الأكبر علينا في توثيق كثير من التاريخ العلمي للشيخ الشعراوي أنه كان ظاهرة علمية فريدة، حيث تألق فجأة بعد الخمسين فجذب الأنظار إليه على نحو غير معهود، وتناقل حديثه الخاصة والعامة معا، إذ استطاع أن يرضى الجانبين بما رزق من وضوح الأسلوب، وقوة الحجة. وسرعان ما تهافتت الإذاعات المرئية والمسموعة في شتى بقاع العالم العربي على تسجيل دروسه الأسبوعية، كما تطلعت دور النشر إلى طبع مؤلفاته على أوسع نطاق. كذلك فقد كان اسمه وحده كافيا لإنجاح الرحلات التي قام بها داخل العالم العربي وخارجه، مما لم يقدر لغيره على هذا النحو المنفرد، وذلك لأن الرجل جمع من مواهب الإقناع إلقاء وتعبيرا وتفهما لنفسيات المستمعين ما جعله فوق الأنظار.
اختير الشيخ محمد متولي الشعراوي وزيرًا للأوقاف عند تشكيل وزارة ممدوح سالم الثالثة (أكتوبر 1976)، واحتفظ بمنصبه في وزارات ممدوح سالم الثلاث الأخيرة طيلة عامين (أكتوبر 1976م – أكتوبر 1978) وقد جاء توليه الوزارة خلفا للشيخ محمد السيد حسين الذهبي، أما خلفه في الوزارة فكان الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار. على أن من الطريف أن تاريخ الحياة السياسية يذكر أن أهم إنجازات الشيخ محمد متولي الشعراوي الإدارية في الوزارة كان هو إنهاؤه لسطوة محمد توفيق عويضة في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وهي قصة ممتدة الفصول أتعبت وزراء الأوقاف المتعاقبين لم ينجح فيها إلا الشيخ محمد متولي الشعراوي بفضل تجرده.
وقد أتيح للشيخ محمد متولي الشعراوي أن يكون أول من أصدر قرارًا وزاريًا بإنشاء أول بنك إسلامي في مصر وهو بنك فيصل الإسلامي المصري، ومع أن الترخيص للبنوك من اختصاص وزير الاقتصاد فإن الوزير د. حامد السايح فوضه في هذا القرار بالذات، ووافق مجلس الشعب على القرار، وقد آثر الشيخ محمد متولي الشعراوي بعد خروجه من الوزارة أن يمارس نشاطه في الدعوة وتفسير القرآن والإفتاء بعيدًا عن المناصب الرسمية والشرفية، على الرغم من أنه كان مرشحا لكثير منها. وقد عين عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية 1980. وقد توجت حياته العلمية بانتخابه عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة (1987) وجاء انتخابه في الكرسي العاشر خلفا للأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن، وفيما بعد فإنه وقف من ماله جائزة يمنحها مجمع اللغة العربية بالقاهرة بصفة سنوية.
بعد أن أصبح الشيخ محمد متولي الشعراوي نجم الحياة العامة والإعلامية كلها فإنه سرعان ما ركّز جهده في تفسير القرآن، وبهذا كان يبدأ حديثه من النص القرآني ويدور حوله، وسرعان ما أصبحت دروسه في التفسير وسيلته المفضلة لنشر أفكاره الدينية، والاجتماعية، والخلقية، صادفت أحاديث الشيخ محمد متولي الشعراوي ودروسه قبولا وذيوعا لم يتحقق لأحد قبله، ولم يصل إليه سلف، وقد علل المعاصرون هذا النجاح بأسباب كثيرة ومتعددة، منها قدرته الفائقة على الشرح والتبسيط، ومنها بساطته، ومنها تلقائيته، ومنها حرصه على الأخذ بألباب مستمعيه. وفضلًا عن هذا فقد كانت هناك عوامل أخرى واكبت هذه المواهب والقدرات لا يتحدث عنها المحللون لنجاحه، وهي مناخ الحرية، وروح الانتصار، والثقة في النفس بعد حرب أكتوبر، فضلًا عن موجة الازدهار التي شهدتها وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، وارتفاع مصداقية الوسائط الإعلامية وقدرتها على التأثير في الجماهير.
ومن زاوية ثالثة فقد تميز بمنهجه المحبب في إلقائها، إذ كان حريصًا على أن يقدم أفكاره متناسقة ومتسلسلة، ويجعلها شبيهة بالقضايا المنطقية ذات النتائج الملزمة دون غموض، فإذا اتضحت القضية أيدها بالنص القرآني المحكم، فيكون بعد الاقتناع السابق دليلا ملزما لا يقبل النقض، وقد وصف الشيخ محمد متولي الشعراوي باستطراده في بعض الأحيان، لكن استطراده كان تشويقا يجذب الكثرة التي ترحب بالطرائف، وحين جمع تفسيره في مجلدات متتالية فإنه حذف الاستطرادات، وقدم التفسير على النحو الكلاسيكي المعهود.
وقد أصبح الشيخ محمد متولي الشعراوي بهذه الدروس وانتظامها وذيوعها وجماهيرها بمثابة جامعة علمية شعبية وبمثابة جامعة مفتوحة أيضا تنتقل إلى المشاهدين في نواديهم وبيوتهم بالدروس، وهم يجلسون حولها متابعين وكأنهم يجلسون بالفعل في قاعة الدرس في معهد علمي. تميز تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي للقرآن وحديثه المتشعب حول هذا التفسير بما يدل على القدرة الفائقة على الاستنباط، وعمق التحليل، بينما كان هو نفسه حريصًا على أن يكرر القول بأن ما يلقيه من الدروس ليس تفسيرا للقرآن، ولكنه خواطر إيمانية تفد على قلب المؤمن فيفصح بما جاش في خاطره.
وربما كان من المهم أن نذكر أن الشيخ محمد متولي الشعراوي انتهى بتفسيره عند أواخر سورة الممتحنة وأوائل سورة الصف وحالت وفاته دون أن يفسر القرآن الكريم كاملاً. ومن الطريف أنه من المعروف أن له تسجيلًا صوتيًا يحتوي على تفسير جزء عم (الجزء الثلاثون) وهكذا فإنه ينقص تفسيره جزء ونصف: النصف الثاني من الجزء 28 والجزء 29. وقد لاحظ المتابعون أن الشيخ محمد متولي الشعراوي في الأجزاء الأخيرة من تفسيره آثر الاختصار بسبب مرضه وحتى يتمكن من إكمال خواطره، ثم عاد واعتذر على الشاشة عن اختصاره واستغفر الله عن إيجازه في هذه المعاني حرصا منه على أن يتمم بحول الله تفسير كتاب الله في حياته، وأنه عوتب في ذلك وقيل له: الموت له أجل، ورزقك من الله له أجل.
كثيرا ما أجاب الشيخ محمد متولي الشعراوي عن كثير من الأسئلة المتكررة التي كانت توجه له حول منهجه في التفسير فقال: “خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيرًا للقرآن. وإنما هي هبات صفائية. تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات.. ولو أن القرآن من الممكن أن يفسر. لكان رسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتفسيره، فعليه نزل، وبه انفعل، وله بلغ، وبه علم وعمل، وله ظهرت معجزاته. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بأن يبين للناس على قدر حاجتهم من العبادة التي تبين لهم أحكام التكليف في القرآن الكريم، وهي «افعل ولا تفعل..».
اعتمد الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسيره على مجوعة من المقومات الذكية التي يصعب اجتماعها إلا لعالم أزهري موهوب ومتفتح ومختلط بالحياة العامة وواسع الخبرة بالحياة العلمية:
– اللغة العربية وأدبها كمنطلق لفهم النص القرآني.
– فهم فصاحة القرآن وسر نظمه.
– تجاربه الشخصية وما مرّ به من واقع الحياة.
– إجادة اختيار المثل وحسن تصوير وجوه التماثل.
– المزاوجة بين العمق والبساطة وذلك من خلال توظيف تجليات اللهجة المصرية الدارجة القادرة على تحقيق تزاصل أسرع مع الحفاظ على خيوط الاستطراد الموضوعي.
لم يشغل الشيخ محمد متولي الشعراوي نفسه كثيرا بالتمحور حول قضايا محددة كقضية إعجاز القرآن، أو الإعجاز العلمي للقرآن، لكنه كان يتناول هذه القضايا أيضا ومن حين لآخر برؤية متكاملة وكأنه عرض لها عرضاً، وعلى سبيل المثال فقد كانت وجهة نظره أن الإعجاز القرآني لا يكون في السورة أو الآية أو الكلمة فحسب، بل في كل حرف، واستشهد لذلك بما يؤيد وجهة نظره، كما قرر أنه سيستجد من وجوه الإعجاز في الغد ما لا نعرفه اليوم، وكان الشيخ باتساع معارفه يضرب على صواب هذا الرأي أمثلة قوية.
وربما كانت ثقافة الشيخ محمد متولي الشعراوي الأزهرية القديمة ودراسته في كلية اللغة العربية خير عون له على هذه القدرة الظاهرة التي كان يتمتع بها في مخاطبة الجمهور، في كافة الشئون معتمدًا على التحليل اللفظي للنصوص القرآنية التي يتولى مخاطبة الجماهير من خلالها، وبنجاحه في اتخاذها محورا للمواعظ أو القيم التي يريد الحديث عنها.
تمتع الشيخ محمد متولي الشعراوي بقدرة فائقة على اجتذاب أكبر عدد من مختلف الطوائف إلى محيطه الهادي والهادئ، وكان شأن أصحاب الدعوات الصالحة يزداد أتباعًا مع الأيام، وقد نجح في أن يرتقي بهؤلاء جميعًا في مدارج الإيمان بالله والاهتداء إلى السلوك المستقيم، والنفس المطمئنة، والشخصية الآمنة.
وقد وجد الشيخ محمد متولي الشعراوي نفسه وقد أصبح بمثابة القدوة لمجموعات كبيرة جدًا من الناس في طريق الهداية الذي كتبته له إرادة الله فلم يصبه للحظة واحدة غرور الزعيم، وإنما تصور نفسه كما كانت بالفعل نفسًا مسؤولة عن أنفس، وضميرًا مسؤولا عن ضمائر، وأدرك منذ بداية صعود نجمه أنه رجل مسؤول في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل أو إقرار، وعرف أن أتباعه يريدون منه القدوة وأن أعداءه قد يتربصون به في أي فرصة للخطأ، وعلم أن عليه ألا يكف عن الاستزادة من علوم الدين والدنيا وأن يرتقي بثقافته إلى حيث وصلت ثقافة العصر، وأدرك من دون خوف ولا وجل مدى سطوة آلة الأعلام الرهيبة في عصر التليفزيون ثم الفضائيات والأقمار الصناعية.
في مرحلة النجومية الخاطفة للأبصار اهتدى الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى أن يكون في سلوكه العام كما هو على حد تعبير المثل الإنجليزي وهكذا قدم نفسه للناس على الصورة التي هو عليها فكانت ثيابه أو جلده الثاني شيئًا قريبًا جدًا من جلده الأول، وكانت لهجته أقرب إلى لهجته في الطفولة منها إلى لهجته في الكهولة والشباب، وكانت معلوماته أقرب إلى الشباب من معلومات الأستاذ القديم، وكان أداؤه أقرب إلى إمام ميت غمر منه إلى أداء إمام أي مسجد قاهري، وكانت تعبيراته وتشبيهاته ومجازاته وصوره واستعاراته وتجريداته أبسط من أن يكتنفها أي تكلف أو تعقيد أو تركيب.
وظلت صلة الشيخ محمد متولي الشعراوي بمريدي فكره ومردديه ومستمعيه ومنتقديه على أبسط ما يكون، وكانت مباشرة جدًا وحميمية جدا، وفي بعض الأحيان كانت صلته بأتباعه تبدو للمتفلسفين واهية كخيوط العنكبوت، وبخاصة أنه لم يكن شيخ طريقة، ولا صاحب مذهب، ولكنها كانت فيما بدا ومازال يبدو أقوى وأصلب من أي صلة أخرى، لأنها كانت صلة قلبية راسخة من حيث الطبيعة وإن لم تكن كذلك من حيث بناء العلاقة.
نجح الشيخ محمد متولي الشعراوي في أن يحمي نفسه من الجوانب المؤذية والمرضية التي قد تصحب الشعور بالتفوق، ولم يكف عن تذكير نفسه والناس ببساطة أصوله بل وببساطة علمه، وكان أقرب الناس الذين كتبوا سيرتهم إلى الغربيين في انتهاج منهج الصدق المطلق والحديث عن كل نوازع النفس، فقد حرص على أن يسلط الأضواء على الجوانب الصعبة في حياته العقلية والدراسية. وقد انتهج الشيخ محمد متولي الشعراوي في هذا أيضا سلوك الواثقين الراضين حين نأى بخطوات حياته أن تكون متأثرة بظلم وظيفي أو خوف من عهد الثورة وما ساده من سيطرة رأي واحد مع أنه كان في وسعه أن يفعل، ولكنه آثر أن يمضي بحياته بعيدًا عن مثل هذه المسالك قصيرة الأجل أو قاصرة الأمل.
وعلى الرغم من حرص الشيخ محمد متولي الشعراوي الدائم على ذكر ابتعاده عن قراءة ما عدا القرآن، فقد كان تفسيره وحديثه منبئًا عن اطلاع متكرر بما يتوافق مع قدراته الفائقة في الاطلاع والتمثل والاستيعاب على الجديد في علوم النفس والتربية والاجتماع والنظريات الاقتصادية العامة، والعلوم الحديثة.
ومن الإنصاف أن نشير هنا إلى قصة بسيطة تنم عن شغفه البالغ بالثقافة واستزادته المبكرة منها ذلك أنه عندما أراد والده إلحاقه بالأزهر الشريف كان الشيخ يؤثر زراعة الأرض والبقاء فيها على العلم، ولكن إصرار الوالد دفعه لاصطحابه إلى الزقازيق ودفع المصروفات وتجهيز المكان للسكن فما كان منه إلا أن اشترط على والده أن يشتري له أمهات الكتب في التراث واللغة وعلوم القرآن والتفاسير وكتب الحديث النبوي الشريف، وكان يفعل هذا من باب التعجيز حتى يرضى والده بعودته إلى القرية. لكن والده فطن إلى تلك الحيلة، واشترى له كل ما طلب قائلًا له: أنا أعلم يا بني أن جميع هذه الكتب ليست مقررة عليك، ولكني آثرت شراءها لتزويدك بها كي تنهل من العلم.
كان الشيخ محمد متولي الشعراوي يستعمل المنطق والفلسفة والقياس فيما استعمله الأقدمون وربما أكثر، وكان يمضي مع قواعد المنطق في استنتاجاتها إلى نهايتها ما دام مطمئنا إلى وسائله ومقدماته، ولكنه كان يؤمن كذلك برحابة الفكر حتى وإن لم يدرك الآفاق المادية الملموسة لهذه الرحابة بما مكنه الله من وسائل عقلية، ولهذا فإن الاهتداء القلبي كان هو أهم ما يقود خطواته في التسامح الفكري وتقبل الآخر.
كان الشيخ محمد متولي الشعراوي إنسانا نقيا بلغ أقصى حدود الأنسنة، والرقي، ولو أنه كان مغرضًا ولو بنسبة واحد في المليون لأشعل في العقدين الأخيرين حروبا لا تقل ضراوة عن الحروب الصليبية، ولعقد محاكم لا تقل قسوة عن محاكم التفتيش، ولكنه لحسن الحظ لم يفعل هذا ولم ينسق إليه، وكان امتناعه عن كثير من السلوك الأرعن أعظم من كل إنجازاته الفكرية والفقهية والبيانية بل ومن كل إنجازات أقرانه على مدى القرن العشرين، وكان الشعراوي موفقًا جدًا في التوقف عند لحظة حاسمة في كل الخلافات التي اشتعلت بينه وبين أعلام الفكر والأدب والسياسة والصحافة.
قدم الشيخ محمد متولي الشعراوي من خلال دروسه الدينية رأى الإسلام في كثير من قضايا العصر التي طال الجدل فيها، ومنها قضايا المرأة والمذاهب الفكرية والاقتصادية والفلسفية والشيوعية والرأسمالية والوجودية، وقد تميز بالقدرة الفائقة على اختيار نقاط مقارباته مع هذه القضايا، متخذا من نصوص القرآن مدخلًا لما يرى أن يقدمه من النقد لمَنْ يحاولون تجاهل النص القرآني.
وقد مضى الشيخ محمد متولي الشعراوي في عرض أفكاره على طريقة الرواد المخلصين لأفكارهم، المؤمنين بها، القادرين على الإقناع من دون أن يلجأ إلى طريقة الزعماء في توفيق آرائه لتتسق مع السياسة أو الفكرة السائدة أو أصحاب الأصوات العالية، وهيأ له موقفه الصلب الانتصار حينًا بعد آخر، ومع هذا فإن الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي آثر طريقة الرواد على منهج الزعماء نال من الزعامة أضعاف ما نال من الريادة.
وعلى سبيل المثال فإن الشيخ محمد متولي الشعراوي في كتابه «ردا على الملاحدة والعلمانيين» يشير إلى أن العلمانية ازدهرت في أوروبا لأن الكنيسة تحكمت في الناس، أما الإسلام فليس في حاجة إليها، إذ ليس لدينا تسلط كنسي، وليس لدينا حجر على الفكر، وإذا كانت الكنيسة بسيطرتها قد عاقت التقدم الفكري، فالإسلام بسماحته وعدالته قد حمى الحرية، وترك للعلم أن يغزو الكون، وأعلام الأمة في العصور الزاهرة هم الذين رفعوا الحضارة الإنسانية في بغداد والقاهرة وقرطبة حين كانت أوروبا غارقة في الظلمات.
وكان موقف الشيخ محمد متولي الشعراوي من قضية اللغط حول مكانة المرأة في الإسلام واضحًا، مؤكدا أن هذا الدين صان كرامتها، ولم يجعلها خليلة تمتهن، بل زوجة ذات حق، ولها شخصيتها المالية التي لاتزال تنكرها أكثر القوانين الغربية حتى الآن!
لم يكن الشيخ محمد متولي الشعراوي حريصًا على التفصيل الدقيق في حديثه عن الأحكام الفقهية وأصول الفقه على نحو كان متهيئا لمعاصريه من خريجي كليات الشريعة، والعاملين في الفتوي والقضاء الشرعي، ومع هذا فقد كان ذا قدرة عالية على ممارسة دور قريب من دور الفقيه الأصولي المجيد لفهم العموميات، وتطبيقها بروح نافذة قادرة على الوصول إلى الصواب، بعيدًا عن الحرص على استعراض العلم الغزير بمواطن الخلاف الفقهي وأسبابها.
وقد واتته هذه القدرة وظهرت بوضوح عندما انهالت عليه الأسئلة عن رأي الدين في كثير جدًا من القضايا، بل ربما في كل القضايا المعاصرة، وكانت له إجابات قاطعة نجت بذكاء من الغرق في النقول الفقهية والتعريفات الاصطلاحية، واتجهت إلى العقل المباشر، تشرح له القضية، فإذا اتضح مدلولها استدعى بعد هذا وليس قبله ما يعرفه هو من السند القرآني، أو النبوي لما عرضه من راي وجعل النص مؤيدا للفتوي بما يضمن الاقتناع الكامل بما يقول.
ومن خلال تفسيره للقرآن وأحاديثه نجح الشيخ محمد متولي الشعراوي بالفعل في كسب أنصار جدد للغة العربية أصبحوا يدركون ويقدرون مدى القدرة التعبيرية الهائلة الكامنة في ألفاظ هذه اللغة، والتي كان الشيخ يبين عنها بكل وضوح وقوة عندما يتعرض لتفسير آيات القرآن الكريم. كذلك نجح الشيخ محمد متولي الشعراوي بتفسيره في محاور أخرى عديدة منها:
– الإصلاح الاجتماعي والمجتمعي وروحهما.
– رد شبهات المستشرقين، وتأويلاتهم المتكررة.
– رسم صورة واعية ومضيئة للصوفية الفاعلة.
– تصوير حدود الأسلوب المنطقي الجدلي من دون إنكار جدواه.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن الشيخ محمد متولي الشعراوي كان يلجأ إلى العامية الراقية حين يحتاج إليها، وكان يفعل ذلك بسلاسة وفي أسلوب يجمع بين براءة الأطفال ومهارة الدعاة، ولهذا فقد كان في تقدير مجمع اللغة العربية له بانتخابه عضوًا في مجمع الخالدين ما يتضمن اعترافا بالعامية الراقية على نحو ما وظفها الشيخ محمد متولي الشعراوي.
ونأتي إلى حديث سريع جدا عن شاعرية الشيخ محمد متولي الشعراوي، وإني لأذكر بكل فخر أن ديوان الشيخ محمد متولي الشعراوي بعد جمعه على يد الأستاذ الدكتور صابر عبد الدايم كان من أول الأعمال التي توليت نشرها حين كنت مشرفا على النشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد دفعت به إلى المطبعة في اليوم الذي كان جاهزا فيه فانتهى طبعه في اليوم التالي. ونحن نعرف بالطبع أن الشيخ محمد متولي الشعراوي ي كان من طلاب العلم الذين شغفوا بالأدب، بل لقد كان الشيخ نفسه يقول عن نفسه: «عرفوني شاعراً».
وقد ترك الشيخ محمد متولي الشعراوي آثارا شعرية جميلة في ميادين الوطنية والثورة أولا، والحكم والوعظ ثانيا، والمناسبات والإخوانيات ثالثا، والوجدان رابعا، والوصف والطبيعة خامسا، ومما تحدث عنه الشيخ محمد متولي الشعراوي في مذكراته التي نشرتها ” الأهرام اشتراكه في تسابق أعضاء جمعية الأدباء في تحويل معاني الآيات القرآنية إلى قصائد شعر. وهو يذكر أن رفقاءه أعجبوا أشد الإعجاب بهذا النوع من شعر الحكم إلى درجة أنهم تولوا طباعتها على نفقتهم وتوزيعها.
ومن أبيات الشعر التي كان يعتز بها، ما قاله في معنى الرزق:
تحرى إلى الرزق أسبابه فإنـك تجـهل عنـوانه
ورزقـك يعرف عنوانك
وكما قلنا فقد كان له باع في شعر الوصف والصوفية، وهو يقول في قصيدة بعنوان «موكب النور»:
أريحي السماح والإيثـار لك إرث يا طيبة الأنوار
وجلال الجمال فيـك عريق لا حرمنا ما فيه من أسـرا
تجتلي عندك البصائر معنى فوق طوق العيون والأبصار
سر إلى السجن واذهب بي إلى الهون فإني لمصيري غير محزون
فمــا اعتقـلت لجرم نال من شرفي لكنني بالمعـاني جد مفـتون
فـسر بمثـلب لبيت جاء سـاكـنه كبائر الإثـم بالأوغاد مشحون
فهل تسوي به نفس لها أمل شتان ما بين فـتان ومفـتون
الصبر يا والدي عهدي به رجلاً له في الخطب رأي غير مأفون
وطب شقيقي فؤداً فخراً قد كنت بالسجن لكن ليس مسجون
وهذان بيتان يبدي فيهما الشيخ محمد متولي الشعراوي عجبه من أن يكون شارع عماد الدين في وسط القاهرة هو شارع الملاهي:
وأعظم الظـلم بعد الشـرك منزلـة أن يظـلم اسم ” بمسمى” ضده جعل
فشــارع كعمـــــــــاد الدين تسميته لكنه لفســــــــــــاد الدين قد جـعـل
ونأتي إلى السياسة فيسعدنا كما يسعد كل وطني محب لتيار الأغلبية الوطنية أن نجد الشيخ محمد متولي الشعراوي وقد ظل طيلة حياته واضح الانتماء في أفكاره السياسية، ومع أنه لم يكن ميالا إلى الحزبية بمعناها الدينامي فإنه حين اختار طريقه السياسي كان دائمًا في الصف الذي فيه أغلبية الشعب، وكان حريصًا على أن يكون مع الجماعة الوطنية التي مثلها الوفد في عهدى سعد زغلول والنحاس.
وعلى الرغم من أن معظم متاعب الشيخ محمد متولي الشعراوي جاءته من هذا الاختيار فإنه لم يتراجع عن اختياراته السياسة المبكرة، وقد أكسبه هذا صفاء نفسيا وعقليا، حتى من دون أن يكون واعيا لهذا المعني الطبي النفسي، وقد ظل على الدوام فخورا بوفدتيه المبكرة وبعلاقته بالزعيم مصطفى النحاس باشا ومدحه له، وفي كل حواراته السياسية وغير السياسية فإن الشعراوي لم يدلس أبدًا ولم يزعم على الإطلاق أنه قاد ولا انضوى تحت أي حزب غير الوفد! وقد سببت له صراحته في هذه النقطة كثيرًا من المتاعب الخفية.
كانت للشيخ محمد متولي الشعراوي كثير من الذكريات الوطنية والثورية وبخاصة أنه كان كما أشرنا من أنشط المتحمسين للعمل الوطني والثوري لكن هذه الذكريات لا تزال في حاجة إلى تحقيق وضبط حتى في أسماء أبطال الأحداث الواردة فيها، ولنقرأ على سبيل المثال هذا النص الذي لا يدل بنفسه على صحة الواقعة، كما أن الأسماء الواردة فيه تختلط مع الحقائق، لكن طبيعة الروايات السياسية في مصر لا تخرج عن هذا الطابع الذي لا يمنعنا من أن ندرك الجوهر من دون إقرار تام بصحة الوقائع والأسماء، وهي ( من باب إحقاق الحق ) في هذه الرواية تفتقد إلى الدقة:
“وأتذكر حكاية كوبري عباس الذي فتح على الطلاب من عنصري الأمة، وألقوا بأنفسهم في مياه النيل شاهد الوطنية الخالد لأبناء مصر. فقد حدث أن أرادت الجامعة إقامة حفل تأبين لشهداء الحادث ولكن الحكومة رفضت. فاتفق إبراهيم نور الدين رئيس لجنة الوفد بالزقازيق مع [محمود ثابت (؟!) رئيس الجامعة المصرية] على أن تقام حفلة التأبين في أية مدينة بالأقاليم. ولا يهم أن تقام بالقاهرة. ولكن لأن الحكومة كان واضحًا إصرارها على الرفض لأي حفل تأبين فكان لابد من التحايل على الموقف».
«وكان بطل هذا التحايل عضو لجنة الوفد بالزقازيق [حمدي المرغاوي (!!)] الذي ادعى وفاة جدته، وأخذت النساء تبكي وتصرخ. وفي المساء أقام سرادقا للعزاء وتجمع فيه المئات وظنت الحكومة لأول وهلة أنه حقًا عزاء. ولكن بعد توافد الأعداد الكبيرة بعد ذلك فطنت لحقيقة الأمر. بعد أن أفلت زمام الموقف، وكان أي تصد للجماهير يعني الاصطدام بها. فتركت الحكومة اللعبة تمر على ضيق منها. ولكنها تدخلت في عدد الكلمات التي تلقى لكيلا تزيد للشخص الواحد على خمس دقائق».
وهو يواصل رواية ذكرياته مضفرا الشعر بالوطنية فيقول:
«وفي كلمتي بصفتي رئيس اتحاد الطلبة قلت:
شباب مات لتحيا أمته
وقبر لتنشر رايته
وقدم روحه للحتف قربانا لحريته».
«ولأول مرة يصفق الجمهور في حفل تأبين. وتنازل لي أصحاب الكلمة من بعدي عن المدد المخصصة لهم لكي ألقى قصيدتي التي أعددتها لتأبين الشهداء البررة والتي قلت في مطلعها:
نداء يا بني وطني نداء |
|
دم الشهداء يذكره الشباب
|
وهل نسلو الضحايا والضحايا |
|
بهم قد عز في مصر المصاب |
شباب برَّ لم يفْرِق.. وأدى |
|
رسالته، وها هي ذي تجاب |
فلم يجبن ولم يبخل وأرغى |
|
وأزبد لا تزعزعه الحراب |
وقدم روحه للحق مهراً |
|
ومن دمه المراق بدا الخضاب |
وآثر أن يموت شهيد مصر |
|
لتحيا مصر مركزها مهاب |
تمتع الشيخ محمد متولي الشعراوي بروح عالية في التعامل مع مخالفيه ومعارضيه والناقمين عليه، ومن الطريف أن بدايات أجوبة الشعراوي على أسئلة القراء بدأت وتواصلت على مدى سنوات في مجلة «حواء»، ومجلة الشباب وعلوم المستقبل التي تصدرها الأهرام، وقد دار أكثر ما نشر في حواء بالطبع حول قضايا المرأة، وكان من الطريف أن يدلي بدلوه على صفحة مجلة كان الملتزمون يرون أنها جاهرت كثيرا بما يخالف قول الله، ولم تستطع المجلة أن توقف النشر، لأن السائلات والسائلين كانوا يطلبون رأي الشعراوي بالذات.
وقد جمع كثيرون حواراتهم مع الشيخ محمد متولي الشعراوي في كتب لاقت كثيرا من الذيوع:
– الشيخ محمد متولي الشعراوي وفتاوى العصر: محمود فوزي.
– الشيخ محمد متولي الشعراوي وقضايا إسلامية حائرة تبحث عن حلول: محمود فوزي.
– الشيخ محمد متولي الشعراوي ويسألونك عن الدنيا والآخرة: محمود فوزي.
– الشعراوي بين السياسة والدين: سناء السعيد.
وهناك مجموعة من المؤلفات تنسب إلى محاوريه من قبيل:
– مائة سؤال وجواب في الفقه الإسلامي مع الشيخ محمد متولي الشعراوي للأستاذ عبد القادر أحمد عطا.
– أضواء حول اسم الله الأعظم للأستاذ محمد السيد أبو سبع مع الشيخ محمد متولي الشعراوي.
كذلك سجل كثيرون ذكرياته في حوارات معه كان منها ما نشره الأستاذ محمد زايد في جريدة الأهرام على حلقات ثم في كتاب بعنوان «الراوي هو الشعراوي» صدر عن دار الشروق. ذكرنا فيما تقدم أن الشيخ محمد متولي الشعراوي لم يبدأ التأليف ونشر مؤلفاته إلا بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من شهرة عالمية ومع هذا فإن المكتبة العربية احتفظت لاسمه بمؤلفات كثيرة، وقد طبعت هذه المؤلفات عدة طبعات، وكونت للقراء مكتبة مستنيرة صادفت قبولًا وذيوعا ولا تزال تطبع إلى الآن.
ومن هذه المؤلفات:
«تفسير الشعراوي» الذي صدرت طبعته الكاملة عن مؤسسة أخبار اليوم، ويعده الدكتور رجب البيومي أوفى مرجع لآراء الإمام، ومنزلته منه كمنزلة «المنار» من مؤلفات السيد محمد رشيد رضا، وبالإضافة إلى التفسير فقد نشرت للشيخ الشعراوي كتب مستقلة بموضوعات تقليدية، وقد اجتهدت في أن أقدم للقارئ هذه القائمة مجمعة ومرتبة ألفبائيا بحيث يمكن البناء عليها في المستقبل إن شاء الله.
– الإسراء والمعراج.
– الإسلام والفكر المعاصر.
– الإسلام والمرأة، عقيدة ومنهج.
– الإنسان الكامل محمد صلى الله عليه وسلم.
– الأحاديث القدسية.
– الأدلة المادية على وجود الله.
– الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى.
– البعث والميزان والجزاء.
– التوبة.
– الجنة وعد الصدق
– الجهاد في الإسلام.
– الحج الأكبر.
– الحج المبرور.
– الحسد.
– الحصن الحصين.
– الحياة والموت.
– الخير والشر.
– الحلال والحرام.
– الربا.
– الرحلات.
– السحر.
– السحر والحسد.
– السيرة النبوية.
– الشورى والتشريع في الإسلام.
– الشيطان والإنسان.
– الصلاة وأركان الإسلام.
– الطريق إلى الله.
– الظلم والظالمون.
– الغارة على الحجاب.
– الغيب.
– الفتاوى.
– الفضيلة والرذيلة.
– الفقه الإسلامي الميسر وأدلته الشرعية.
– القضاء والقدر.
– الله والنفس البشرية.
– المرأة في القران الكريم.
– المرأة كما أرادها الله.
– المعجزة الكبرى.
– المنتخب في تفسير القرآن الكريم.
– النصائح الذهبية للمرأة العصرية.
– الوصايا.
– إنكار الشفاعة.
– أحكام الصلاة.
– أسرار بسم الله الرحمن الرحيم.
– أسماء الله الحسنى.
– أسئلة حرجة وأجوبة صريحة.
– أنت تسأل والإسلام يجيب.
– بين الفضيلة والرذيلة.
– جامع البيان في العبادات والأحكام.
– حفاوة المسلمين بميلاد خير المرسلين.
– خواطر الشعراوي.
– خواطر قرآنية.
– ردا على الملاحدة.
– شبهات وأباطيل.
– عداوة الشيطان للإنسان.
– عذاب النار وأهوال يوم القيامة.
– على مائدة الفكر الإسلامي.
– فقه المرأة المسلمة.
– قصص الأنبياء.
– قصص الحيوان في القرآن.
– قضايا العصر.
– لبيك اللهم لبيك.
– محمد صلى الله عليه وسلم.
– معجزة القرآن.
– من فيض القرآن.
– نظرات في القرآن.
– نهاية العالم.
– هذا ديننا.
– هذا هو الإسلام.
– وصايا الرسول.
– يوم القيامة.
نال الشيخ محمد متولي الشعراوي من التكريم بعض ما يستحق، وكل ما ناله من التكريم يستأهل الحصر وإن كان الحصر صعبا. وقد حصل الشيخ محمد متولي الشعراوي على الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعتي المنصورة والمنوفية ونال وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عند بلوغه سن التقاعد في 15/4/1976 م قبل تعيينه وزيرًا للأوقاف وشؤون الأزهر كما منح وسام الجمهورية من الطبقة الأولى مرتين عام 1983م وعام 1988م، ومنح وسام الاحتفال بيوم الدعاة، واختارته محافظة الدقهلية شخصية المهرجان الثقافي لعام 1989م، واختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عضوًا بالهيئة التأسيسية لمؤتمر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية، الذي تنظمه الرابطة، وعهدت إليه بترشيح من يراهم من المحكمين في مختلف التخصصات الشرعية والعلمية، لتقييم الأبحاث الواردة إلى المؤتمر.
تزوج الشيخ محمد متولي الشعراوي وهو في المرحلة الثانوية بناء على رغبة والده الذي اختار له زوجته، ووافق الشيخ على اختياره، وقد رزق ثلاثة أبناء وابنتين: سامي وعبد الرحيم وأحمد، فاطمة، وصالحة. توفي الشيخ محمد متولي الشعراوي في 17من يونيو 1998 بعد أن عوفي أكثر من مرة من أزمات الصدر التي ازدادت عليه نوباتها في الآونة الأخيرة من حياته، وقد ودعه الجمهور بما فاق كل تصور في تشييع جنازته، ودفن بقرية دقادوس مسقط رأسه، وخلد ذكر اسمه بمؤسسات كثيرة أنشئت لهذا الغرض النبيل.
(المصدر: مدونات الجزيرة)