الشيخ السيد ذو الفقار أحمد القاسمي (رحمه اللّه)
شيخ الحديث بدارالعلوم فلاح الدارين، تركيسر، سورت، غجرات، الهند
بقلم: الأستاذ محمد إقبال الفلاحي الندوي(*)
استأثرت رحمة الله تبارك وتعالى بفضيلة شيخ الحديث بدار العلوم فلاح الدارين، تركيسر، سورت، غجرات، الهند. والمسؤول التعليمي بها الأستاذ الكريم السيد ذوالفقار أحمد القاسمي (رحمه الله) يوم الاثنين التاسع عشر من ربيع الثاني من سنة 1431 الهجري المصادف للخامس من شهر أبريل من عام 2010 الميلادي. فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد ناهز عمره عند الوفاة سبعين عامًا هجريًّا.
كان الشيخ رحمه الله تعالى من خريجي الجامعة الإسلاميّة: دارالعلوم بديوبند عام 1386هـ المصادف لعام 1966 الميلادي وقد قام بخدمة التدريس بدار العلوم فلاح الدارين على دعوة من فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن إسماعيل الكافودروي/ حفظه الله رئيس دارالعلوم سابقًا، وقضى بها حوالي ثلاثة وأربعين عامًا حافلة بالنشاطات المتنوعة والخدمات الجليلة في مجالات التعليم والتربية والدعوة إلى الله وتوعية المسلمين بالوعي الإسلامي الصحيح.
كان فضيلة الشيخ يعاني منذ عشرين عامًا من مرض السكر بالصبر والمصابرة ومع اتخاذ كامل للحيطة والعلاج المطلوب، وقد اشتدت وطأة هذا المرض عليه ليلة الجمعة السادس عشر من ربيع الثاني 1431هـ وصادفت اشتداد المرض ضغطةٌ قلبيةٌ شديدة، فنُقِل أولاً إلى المستشفى القريب ثم إلى مستشفى الأمراض القلبية في مدينة “برودة” حيث بقي ثلاثة أيام تحت العناية الطبية المركزة في غرفة الإسعاف تحت إشراف الأطباء الاخصائيين؛ ولكن غلب قدر الله وقضاؤه الحكيم، فلبّى الشيخ الكريم نداء ربه راضيًا آمنا مطمئنا مؤمنًا مستبشرًا ببشارة ربه (بإذن الله) “يا أَيُّهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عَبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي” وقد نُقِلَ جثمانُ الشيخ الكريم إلى وطنه في ولاية “ايم بي”، بعد أن أدَّى ألوف مؤلفة من تلاميذه ومحبيه من العلماء والعوام من الناس صلاة الجنازة عليه في مدينة “بروده” ودفن في مقبرة قريته “نرور” في جوار والده الحافظ السيد مختار أحمد رحمهما الله تعالى رحمة واسعة.
وقد أم الناس في صلاة الجنازة التي صليت عليه في قريته نجل الراحل الكريم سعادة الأستاذ السيد جنيد الفلاحي حفظه الله ورعاه .
كان رحمه الله تعالى عالمًا دينيًا متضلّعًا ومدرّسًا ناجحًا وداعيًا موفقًا وخطيبًا بارعًا مصقِعًا وكاتبًا قديرًا باللغة الأردية وملمّا بالثقافات والنظريات المعاصرة مُطَّلِعًا على أُصول الجماعات الدينية ومبادئ النظم والحركات السياسية والاقتصادية الجديدة، وقد أكسبه إلمامه بهذه الحركات والنظم والجماعات والمذاهب القدرةَ على المقارنة الصحيحة بينها وبين النظم والمبادئ الإسلامية في هذه المجالات، بحيث كان يثبت بها تفوق النظم الإسلامية في مختلف مجالات الحياة على الأديان والمذاهب والنظريات المعاصرة.
وقد كان رزقه الله تبارك وتعالى مزايا جمّة وخصائص كثيرة فذّة لا تجتمع في رجل واحد عادة؛ فكان دمث الخلق متحليًا بالرفق والعطف على الصغار والكبار، لم يُرَغضبان متوتّرًا قط، كان متواضعًا متسامحًا مع الجميع، يتمتع بأريحيّة كريمة وطبيعة متوادعة، يُرَى دائمًا طلق الوجه هش المحيا يمتع المتحدث إليه بحديثه الممتع ويضاحكه بلطائفه العلمية ونكاته الحلوة، فكان متحدثه يحظى بالفوائد العلمية والحكم الغالية مع الحُظوة الأديبة.
كان رحمـه الله خطيبًا بارعًا يُدْعَى إلى مناسبات مختلفة وحفلات دينية في قرى ومدن ولاية غجرات الكبرى وأحياناً إلى ولايات أخرى من الهند وإلى بلدان خارج البلد من أمريكا وأوربا وأفريقيا، وكان يتسأسر المستمعين بخطابته الرشيقة وحديثه العذب، المجمر لمجامر القلوب، والغزيز الثرّ بالمعارف الدينيــة، المستقاة من الكتاب والسنــة، والمزود بأقــوال الصحابــة رضي الله عنهم والتابعين، والمزدان بحكم علماء الإسلام وحكمائه، كان يستأسرهم إلى ساعات وهم هادئون ساكنون كأن على رؤوسهم الطير.
وقد كان رحمه الله تعالى مُنِحَ من الله تبارك وتعالى موهبة خاصة وملكة فذة في تربية الطلاب وتثقيفهم بكفاءات وقدرات متنوعة، تؤهليم للقيام بمسؤوليات التعليم والتربية في المدارس والمراكز العلمية، وتساعدهم على حمل أعباء الدعوة والخدمة الإسلامية في مجالات شتى، فكان يتعهدهم بالتوجيه وإدلاء النصائح والمشورات الغالية مِنْ عَلى منصة الرئاسة في برامجهم الثقافية وحفلات جمعياتهم الأدبية في دارالعلوم فلاح الدارين وغيرها من الجامعات الإسلامية في الهند وخارجها التي يُدعى إليها كضيف شرف.
وكان يمثل عن دارالعلوم بالمشاركة في الندوات العلمية والمؤتمرات العلمية والتربوية والمنتديات الثقافية والأدبية، وكانت محاضراته ومقالاته تترك أثرًا بالغًا في الحضور، وما عنّا محاضرتُه القيمة الجياشة التي ألقاها في الندوة الأدبية الأخيره المنعقدة على أرض غجرات بعنوان “جهود الشيخ محمد طاهر البتني” العلمية والأدبية ببعيدة، فقد كانت محاضرة فذة تاريخية أشار بها إلى دور الأدب الإسلامي في إعداد الجيل الإسلامي الصالح القوى في إيمانه والقويم في أخلاقه، وقد نوّه فيها كذلك بجهود فضيلة الشيخ الداعية السيد أبي الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى.
وكان رحمه الله تعالى صاحب القلم السيال السلسال، فكان يكتب بعبارة رشيقة قوية باللغة الأردية، وقد ساعدته على إنشاء المقالات والمكالمات العلمية القيمة مطالعتُه الواسعة ومعرفته الموسوعية بالكتب ومصادر العلم المتنوعة، واطلاعه على الظروف والأوضاع الراهنة والنظم والنظريات المعاصرة.
وقد صدر له مجلدان يشتملان على محادثات وحوارات دينية أدبية، كان أعدّها للطلاب لتقديمها في الحفلات والبرامج الدينية والثقافية، وصدرت له كذلك كتب ورسائل أخرى حول عناوين إسلامية شتى، يمتاز كلها بوضوح العبارة وعذوبتها، وكانت حياته العلمية الممتدة على ثلاثة وأربعين عامًا قضاها في دارالعلوم فلاح الدارين حياة حافلة عامرة بأعمال وخدمات جليلة للإسلام والمسلمين.
وقد أحدثت وفاته ثلمة كبيرة في البيئة المدرسية والجامعية والأوساط العلمية والدينية يُرى أنه لا ترتق إلى المستقبل البعيد بالسهولة؛ فكانت وفاته صدمة شديدة للعاملين في مجال التعليم والتربية خاصة وفي مجال الدعوة والإصلاح عامة، ويدل على تأثير حادثة وفاة الراحل في قلوب محبيه والمستفيدين منه ما عبّروا عنه من مشاعر الحزن والتأسف على سانحة وفاته بالطريق المفاجئ وعلى غفلة منهم، عبروا عن تلك المشاعر في حفلات التعازي والتأبين التي عقدوها في القرى والمدن والدور العلمية والجامعات الإسلامية في الهند وخارجها، وفيما أرسلوا من رسائل العزاء الإلكترونية والبريدية إلى مكتب المدير في دارالعلوم فلاح الدارين أو عبروا عنها عندما اتصلوا به هاتفيًّا وخاصةً في حفلة التأبين التي عُقدت بعد وفاته بيوم يوم الأربعاء السابع من شهر أبريل من عام 2010م في رحاب دارالعلوم فلاح الدارين بتركيسر.
وقد شاركتها الوفود القادمة من الجامعات والمراكز العلمية القائمة في ولاية غجرات وخارجها، وأبدى فيها رؤساء الوفود عن تأسفهم الشديد وحزنهم البالغ على هذا المصاب الفاجع وقدّموا تعازيهم الخالصة إلى الطلاب والأساتذة ومسؤولي دارالعلوم وإلى ذوي الفقيد الغالي، وعلى طليعة المؤبّنين والمعزّين فضيلة الشيخ الرئيس السائق لدار العلوم العلامه الحاج عبد الله بن إسماعيل الكافودروي الموقر حفظه الله، فقد حاول مشكورًا تخفيف آثار وطأة هذا الحادث الماجئ الفاجع على القلوب بحديثه الضافي الذي أشاد فيه بخدمات ومآثر الفقيد الكريم الجليلة، وبين فيه مزاياه الخلقية والعلمية والعملية، وناشد الحضور بالتأسى بها وأوصاهم بانتهاج منهجه: منهج الجِدّ في تحصيل العلم والانهماك فيه، منهج تقديم التضحية بكل غال ونفيس في خدمة العلم والإسلام والمسلمين، وقد قرأ كلمات العزاء فضيلة الشيخ نائب مدير الجامعة سعادة الأستاذ محمد أرشد الكافودروي بإيعاز من فضيلة مدير الجامعة سعادة الشيخ خليل أحمد بن موسى راوت الموقر الذي قد قَدِم الجامعة فور وصول نبأ الوفاة إليه من بلده.
ونحن إذ ننعى فقيد العلم والدين والدعوة والتربية نلتمس من القراء الكرام من العلماء والدعاة والمصلحين والمربين ومن كلّ من بلغه أو يبلغه نبأ وفاة هذا الشيخ الكريم أن يدعوا الله تبارك وتعالى الرؤوف الرحيم أن ينزل على قبر الفقيد شآبيب رحماته وبركاته وأن يكرم نزله ويجعل جنات النعيم والفردوس مأواه وأن يجزيه عنا وعن خدماته الإسلامية الجليلة جزاءً كاملاً، وأن يوفق ذويه السادات الكرام أهله وآله للصبر الجميل ويمنحهم السلوان وبرد العزاء.
آمين يا رب العالمين.
* * *
(المصدر: مجلة دار العلوم ديوبند)