مقالاتمقالات مختارة

الشيخ أسامة الرفاعي وحديث الإفتاء (1)

الشيخ أسامة الرفاعي وحديث الإفتاء (1)

بقلم معتز الخطيب

أوضحت في مقال الأسبوع الماضي -“الصراع على منصب المفتي بين النظام السوري والمعارضة”- أن تحرك المجلس الإسلامي السوري المعارض لتعيين مفت جديد هو خطوة ذكية من الناحية السياسية والرمزية، ولكنها مشكلة من الناحية الدينية والعملية، لأمرين: الأول: تمثيليته سواء لجهة انتخابه أم لجهة ممارسته لمهامه بوصفه معبّرا عن “الجمهورية العربية السورية”، والثاني: في حدود دوره بوصفه مفتيًا وكيفية ممارسته له وعلاقته بالإرث الفقهي والتقليد العلمي الفقهي. وسأخصص هذا المقال للأمر الأول، على أن أفرد مقالًا آخر للأمر الثاني.

تناول الشيخ أسامة الرفاعي -في ما سماه “حديث الإفتاء”- 5 محاور شملت:

  1. حيثيات تعيينه مفتيًا جديدًا من قبل المجلس الإسلامي السوري.
  2. وأهمية وجود مفت على ما سماه “الأرض السورية”، وتأثير طريقة تَسَلّم المفتي لمنصبه في أدائه.
  3. ووظيفة المفتي وبعض القصص المتعلقة بأداء بعض مفتي “الأرض السورية” (ذكر قصتي المفتي الأسبق أبو اليسر عابدين والإمام النووي).
  4. وبعض التوجيهات والنصائح المتعلقة باللاجئين السوريين، وأن من شروط الدعاء التجرد عن المعاصي في سياق الدعوة إلى إعانتهم.
  5. وذِكرًا مُجملًا للمعتقلين والنساء، وأنه يمدّ يده إلى جميع مكونات الشعب السوري (ذكر قصة للسياسي السوري المسيحي فارس الخوري).

على مستوى الممارسة، كيف سيثبت الرفاعي -عمليًّا- أنه ممثل لعموم أهل “الجمهورية” من السوريين؟ خصوصًا أن أحد تحدّيات المنصب الجديد هو ألا يتحول الرفاعي إلى مفت لجماعته ولأهل الشمال السوري وفصائله وتشكيلاته الممثلة في المجلس السوري الذي انتخبه. ولكن المدقق في حديث الإفتاء لا يخرج منه بشيء عن هذا، كما أننا لا نعرف من تجربته في رئاسة المجلس السوري ما يوضح هذا أيضًا.

يأتي هذا الخطاب الأول من الرفاعي بعد تسميته “مفتي الجمهورية العربية السورية”، وكان يتحدث من أراضي المعارضة الخارجة عن سلطة النظام، وقد حاول أن يؤسس شرعيته على أمرين:

الأول: “أن النظام قد ألغى منصب المفتي”، ولذلك تداعى المجلس الإسلامي السوري إلى هذه الخطوة.

الثاني: شرعية تاريخية، و”أن تاريخ بلادنا وبلاد المسلمين جميعًا دائمًا فيه مفت”، وأن انتخابه “أعاد الأمور إلى نصابها” كما كانت تاريخيًّا في سوريا، وذكر بعض القصص في هذا. ومن اللافت أنه لم يأت صراحة على ذكر مسائل هوية الدولة والأبعاد الطائفية لإلغاء المنصب، وهي مسائل سبق للمجلس السوري وغيره أن صرّح بها.

أما الأمر الأول هنا فيعني أن تحرك المجلس السوري هو “رد فعل” على مرسوم الأسد المقتضي إلغاءَ المنصب، وهذا يفترض مسألتين:

الأولى: أن شرعية المفتي الجديد قائمة على أساس إلغاء النظام لمنصب المفتي، وليست وفق رؤية تأسيسية للمعارضة في ظل صراعها مع النظام على تمثيل الإسلام والدفاع عنه، خصوصًا أن منصب “مفتي الجمهورية” منصب سياسي وجزء من جهاز دولة ما بعد الاستعمار، ومن ثم كان المفتي موظفًا حكوميًّا منذ نشأة المنصب حتى الآن.

الثانية: الإقرار -ضمنًا- بشرعية مفتي النظام السابق، وهذا معنى أن تعيين مفت جديد هو رد فعل على إلغاء النظام للمفتي السابق والمنصب معًا، وهو ما يؤكد أن تحرك المعارضة لتعيين مفت هو خطوة سياسية أساسًا.

وتسمية “مفتي الجمهورية العربية السورية” تقتضي أن المسمى يمثل “الجمهورية” في محاولة لانتزاع الصفة الرمزية من نظام الأسد من جهة، ولكنها في الوقت نفسه انعكاس لتفكير ديني مهجوس بفكرة الدولة ويحاول أن يستلهم سلطاتها لتنظيم شؤون السوريين، ومنها الشأن الديني من جهة أخرى. ولكننا لسنا -في الواقع- أمام مجرد مسائل رمزية؛ فالتسمية لها مقتضيات قانونية وعملية ستتوقف شرعية المنصب عليها، سواء على مستوى الرؤية أم الممارسة.

فعلى مستوى الرؤية، يفرض “حديث الإفتاء” -بوصفه منصبًا جمهوريًّا- توضيح الكيفية التي سيواجه بها المفتي الجديد التحديات الرئيسة بعد أن انتقل هذا المنصب من النظام إلى المعارضة، وإذا كانت شرعيته مؤسسة على إلغاء النظام للمنصب، وأن ثمة إرادة سياسية لتغيير هوية الدولة السورية بوصفها دولة “سنّية”، فما خطة المفتي الجديد للحفاظ على هذه الهوية المهددة؟ وهل بمجرد تعيينه مفتيًا صِينت الهوية؟

وعلى مستوى الممارسة، كيف سيثبت الرفاعي -عمليًّا- أنه ممثل لعموم أهل “الجمهورية” من السوريين؟ خصوصًا أن أحد تحديات المنصب الجديد هو ألا يتحول الرفاعي إلى مفت لجماعته ولأهل الشمال السوري وفصائله وتشكيلاته الممثلة في المجلس السوري الذي انتخبه. ولكن المدقق في حديث الإفتاء لا يخرج منه بشيء عن هذا، كما أننا لا نعرف من تجربته في رئاسة المجلس السوري ما يوضح هذا أيضًا.

وأما الأمر الثاني المؤسس لشرعية المفتي الجديد فقد تمثل في نقطتين: الأولى مَوْضعة نفسه في سياق تاريخ الفتوى في سوريا، والثانية أن استقلال المفتي إنما يتحقق بانتخابه من قبل أهل الاختصاص من جهة أخرى.

ففي ما يخص النقطة الأولى، فإن النبذة التي عرضها الرفاعي لتاريخ الفتوى في سوريا بدت قاصرة وشديدة العمومية، فلا هي تأريخ دقيق لنشأة منصب الإفتاء الذي نشأ أول ما نشأ زمن الإمبراطورية العثمانية، ولا هي حديث علمي عن “وظيفة الفتوى” كما هو مقرر في الأدبيات المتخصصة من التراث الفقهي، ولا هو عرض أمين لتاريخ المنصب في ظل دول ما بعد الاستعمار، خصوصًا أن لدينا نماذج متنوعة هنا؛ فدولة مثل قطر ليس فيها مفت عام للدولة، ولا حتى مجلس إفتاء رسمي، ودول مثل ماليزيا وإندونيسيا والإمارات يتولى فيها وظيفة “المفتي العام” مجلسٌ جماعي للإفتاء، أي لا وجود لمفت عام، وثمة دول عديدة يُعيَّن المفتي فيها من قبل رئيس الجمهورية كما في مصر وتونس وغيرهما، فضلًا عن أن تاريخ منصب المفتي في سوريا نفسها خضع لتطورات، فمفتي الجمهورية الأسبق الشيخ أحمد كفتارو جاء عن طريق الانتخاب سنة 1964 وبقي في منصبه مدة حكم الرئيس السابق حافظ الأسد حتى وفاة كفتارو نفسه (2004م).

وفي ما يخص النقطة الثانية، ذكر أنه منتَخَب من المجلس الإسلامي السوري ومجلس الإفتاء السوري، وأن “في هذين المجلسين كبار علماء الأمة وفقهائها الذين يُعتدّ بهم من الناحية الدينية”. وبعيدًا عن أن مجلس الإفتاء السوري هو فرع عن المجلس السوري وتابع له، فقد جرى التغافل عن أن المجلس الإسلامي السوري هو -في الواقع- تعبير عن تكتلات تتوزع بين الإخوان المسلمين (ممثلين برابطة العلماء السوريين)، والسلفيين (ممثلين بهيئة الشام)، وجماعة زيد (يرأسها الرفاعي) التي تمثل التوجه التقليدي الصوفي، ومجموعة من الأفراد. ومن ثم فقرارات المجلس وما يتفرع عنه هي نتاج هذه المحاصصة التي فرضت نفسها على مجلس الإفتاء السوري المتفرع عنه، والتي تم فيها تمثيل الكتل السابقة، وقادت -على سبيل المثال- إلى أن يكون تاجر ومهندس عضوين في مجلس الإفتاء إلى جانب أعضاء آخرين من غير المعروفين بالفقه والإنتاج العلمي، وأهل العلم فيه قلة، وسيكون لهذا تبعاته في أي عملية انتخاب.

معنى ذلك أن كلام الرفاعي السابق عن “كبار علماء الأمة وفقهائها…” كلام مرسل ولا يمثل الواقع الفعلي، خصوصًا أن معايير “الذين يُعتدّ بهم من الناحية الدينية” هي عملية لا علمية، أي تتصل بالتحزّبات وموازين القوى الفاعلة في الشمال السوري أو السابقة في الثورة أو ذات الشوكة، وإلا فإن عددًا من أعضاء مجلس الإفتاء من غير المشهورين لا علميًّا ولا شعبيًّا. يقودنا هذا إلى أن بعض هيئات المعارضة نفسها تفتقر إلى آليات انتخاب حقيقية وشفافة، كما أنها ليست قائمة على معايير العلم أو الأعلمية والاختصاص الذي يتحدث عنه الرفاعي (فالوعّاظ والقصّاص ليسوا من أهل العلم المعتبر)، وهذا من شأنه أن يؤثر في طبيعة الفتاوى الصادرة عن هذه المجالس، التي ستؤثر على المفتي الجديد في ما بعد أيضًا، لأنها ستكون توفيقية بين هذه المكونات جميعًا (السلفي والإخواني والتقليدي الصوفي والفردي).

وتجنّبًا لاختزال مسألة استقلال المفتي في وسيلة تسلّمه منصبه (انتخاب أو تعيين)، لا بد من أن نميز بين نوعين من الشرعية التي يتطلبها منصب المفتي -من حيث المبدأ- في ظل دولة ما بعد الاستعمار:

  1. شرعية قانونية تتصل بكونه جزءًا من جهاز الدولة، وفي بعض الأحيان هو تابع لوزارة الحقانية (العدل) كما في مصر، أو لوزارة الأوقاف كما في سوريا بعد مرسوم 2018، وثمة نماذج أخرى، خصوصًا لو رجعنا إلى زمن مبكر في عهد العثمانيين الذين تطور منصب المفتي (شيخ الإسلام) في زمنهم.
  2. شرعية علمية تتمثل في كفاءته وقبوله داخل الجماعة العلمية (محليًّا ودوليًّا) بوصفه فقيهًا؛ وهذه إنما يحظى بها الشخص بشرطي التخصص الدقيق (في الفقه)، والإنتاج العلمي (scholarship)، إلى جانب القبول الشعبي الذي إنما يحصّله بممارسة الفتوى والإسهام في حل المشكلات وتقديم الاجتهادات في النوازل (فرض الشيخ يوسف القرضاوي مثلًا نفسه على شرائح واسعة من الناس في العقود الأخيرة رغم أنه لم يملك أي منصب رسمي).

لا تتوفر هذه الاعتبارات للمجلس الإسلامي السوري؛ خصوصًا إذا ما نظرنا إلى الفتاوى التي قدمها مجلس الإفتاء التابع له منذ إنشائه في 2017 حتى الآن، التي أثار بعضها الجدل الواسع مثل فتوى القتل بدافع الشرف التي أوضحتُ في مقالات سابقة أن المجلس خالف فيها التقليد الفقهي المذهبي نفسه، وفتوى الزواج بالكتابية في أوروبا. نعم يحظى المجلس السوري بنفوذ على نطاق جغرافي محدود (خاصة في الشمال السوري حيث القوى الفاعلة فيه على الأرض ممثَّلة في المجلس).

يواجه المفتي الجديد -في الواقع- تحديات عديدة، لعل أبرزها مسألتان:

الأولى: التوليفة السابقة التي حملته إلى منصب الإفتاء، فالتباين بين توجهات أعضاء المجلس السوري سيعقّد مهمة المفتي كما حدث في مجلس الإفتاء التابع للمجلس السوري وبعض فتاويه المثيرة للجدل. وحتى يصحّح الثغرات التي اعترت عملية انتخابه لا بد من ترتيب قانون شفاف للانتخاب بحيث تكون هناك هيئة علمائية (لا مجموعة مشايخ ووعاظ)، وفق المعايير المعتبرة في التقليد العلمي بعيدًا عن الشللية والجماعات الحزبية، ومن دون ذلك ستبقى ثمة أزمة شرعية وستبقى تسمية “مفتي الجمهورية” مفتقرة إلى الإطارين القانوني والشرعي.

الثانية: طبيعته الشخصية المحافظة، والسمة التوافقية الغالبة عليه التي تحول دون اتخاذ مواقف حاسمة ومبدئية أحيانًا، وهو ما يترك تأثيرات سلبية في الساحة العامة خصوصًا بعد تسميته “مفتي الجمهورية” وهو أمر يختلف عن وضعه السابق، وسيفرض عليه أن يعيد النظر في كيفية إدارته للعلاقة مع جماعته والمجلس السوري ورابطة علماء الشام والهيئات السياسية السورية المعارضة، وهو قد بات يرأس عددًا من هذه الكيانات وهذا أمرٌ محل إشكال ويقوم على تضارب المصالح.

يمكن للسمة التوافقية لدى الشيخ أن تفسر لماذا كان محل إجماع بين أصحاب التوجهات السلفية والإخوانية والتقليدية والأفراد المستقلين في المجلس الذي انتخبه، وهذا إن فُهم على أنه شيء إيجابي، فإنه يليق بالسياسيين لا بالمفتين، كما أن هذا التوافق له استحقاقات ستضطره إلى مداراتها حتى لا يخسر التوافق. وبفضل هذه السمة يندر أن تجد للرفاعي موقفًا واضحًا من السلفية الجهادية مثلًا أو أي مكون من المكونات السياسية القائمة، كما أنه لزم الصمت تجاه قضية المختطفين من التنظيمات المدنية غير الإسلامية في الغوطة مثلًا، وتجاه قضية محاولة إبعاد بعض السوريين من تركيا، بل إن المجلس السوري برئاسته وبعد تسميته مفتيًا جارى الحملة الشعبوية على معدّي مقرر تعليمي للأطفال، لمجرد أنه يحتوي على “رسوم توضيحية” عُدّت “جريمة” و”خطأ جسيمًا”؛ رغم أن أصحابها سحبوا المقرر واعتذروا عن الخطأ الذي يحتمل التأويل، علمًا بأن المشرف على المقرر كان عضوًا في المجلس السوري وفُصل لاعتبارات قيل إنها مما يتصل بالمحاصصة.

لا يسع المفتي أن يصمت أمام مثل هذا الجدل الذي أثارته الرسوم التي قادت بعضهم إلى التكفير وقادت آخرين إلى رفع دعوى قضائية ضد معدّي المقرر في مناطق نفوذ المجلس والمفتي، وبتهم تشبه تهم نظام الأسد مثل ازدراء الأديان وإهانة المقدسات، وهذا من شأنه أن يثير التساؤل عن كيفية إدارة العلاقة بين المجلس السوري ومجلس الإفتاء ومنصب المفتي، فضلًا عن أنه يتعين على المفتي أن يتنحّى عن رئاسة المجلس الذي انتخبه، حفاظًا على استقلاليته من جهة، ومنعًا لتضارب المصالح من جهة أخرى، ومنعًا لتجميع النفوذ في يد شخص واحد من جهة ثالثة مع كثرة المناصب التي يتولاها!

بل إن الرفاعي التوافقي شنّ هجومًا -عبر سلسلة خطب في دمشق قبل الثورة- على الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين الأفغاني ورموز الإصلاحية الإسلامية واتهمهم بالماسونية، كما انتقد التوجهات الأممية الخاصة بالمرأة والجندر، ويبدو أن مشكلة الشيخ هي مع الانفتاح، سواء كان في صيغة إصلاحية إسلامية أم في صيغة تشريعات أممية، فالرفاعي يمثل التيار التقليدي المحافظ (اجتماعيًّا وفكريًّا)، وهذه المحافظة لا تعكس الفقه الإسلامي، لأن الفقه في أحيان كثيرة أشد رحابة من تصورات الرفاعي الضيقة الأقرب إلى الوعظ والتصورات الشعبية، ومن ثم لا يبدو أن لديه مشكلة مع الأشد محافظة منه على خلاف التوجهات الانفتاحية.

المصدر: الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى