الشورى تواجه الاستبداد
بقلم د. محمد عمارة (رحمه الله)
الاستبداد عدو الإنسانية، والشورى فريضة إسلامية، فرضها الله وأوجبها في إدارة الدولة، حتى عندما كان المعصوم صلى الله عليه وسلم هو قائد الدولة “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” (آل عمران 159).
حق لجمهور الأمة
وهي صفة من صفات المؤمنين في كل ميادين الحياة الفردية والاجتماعية “وما عند الله هو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون” (الشورى 36 ـ 39).
وهي ـ الشورى ـ آلية اتخاذ القرار في الأسرة ـ اللبنة الأولى للأمة ـ “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف، واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير” (البقرة 233).
وهذه الشورى هي حق لجمهور الأمة، تأثم جميعا بتركه، وليست امتيازا لطبقة أو نخبة، وهي عامة في كل ميادين الحياة، كما أنها ملزمة، وليست مجرد “محمدة اختيارية” كما يذهب إلى ذلك صنائع المستبدين!.
من أصول الحكم
ولقد تحدث شيخ الأزهر الأسبق الإمام الأكبر محمود شلتوت عن هذه المعاني لفريضة الشورى فقال: “وبتقرير القرآن لمبدأ الشورى، قضى الإسلام على عدو الإنسانية الفاضلة ومفسدها، وهو الاستبداد بالحكم والرأي، واحتكار التشريع والتصريف والإدارة، وحقق للفرد كرامته الفكرية، وللجماعة حقها الطبيعي في تدبير شؤونها، والقرآن لا يريد من “الشورى” حين يضعها بين عنصري الصلاة والإنفاق في سبيل الله “والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون” لا يريد هذه الصورة الهزلية التي ألفناها في الماضي، وتواضع أرباب البغي والاحتكار عليها، واتخاذها ستارا يخفون به طغيانهم النفسي في إرادة سلب الحقوق، وإنما يريدها حقيقة نقية في واقعها، كما يريد من الصلاة والإنفاق حقيقتهما المحققة لأثرهما الخالصة مما يكدر صفوهما.
الشورى التي يلبس المنافقون في جوها مسوح الصدق والإخلاص، ويكتمون عن الحاكم المخلص بذور الشر والفساد، لا قيمة لها عند الله
والإسلام لا يمكن أن يهمل من أصول الحكم ذلك المبدأ الطبيعي في الحياة، وهو الشورى، كما لا يمكن أن يريده حين يضعه “محمدة اختيارية” يقصد بها مجرد تأليف القلوب، وتطييب النفوس، دون العمل به، كما يذهب إلى ذلك صنائع الملوك المستبدين، ولا أن يريده “صورة مفتعلة” يبرر بها أرباب الطغيان طغيانهم، وإنما يريده أمرا ثابتا مقررا، مأمورا به، هو حق للأمة، تأخذه بالقوة، وواجب عليها، تأثم جميها بتركه، وحقيقة لها أثرها العملي في الحكم وسياسة الجماعة.
إذن، فالشورى التي تنسج خيوطها بكثرة العدد، أو عن طريق الإغراء والإرهاب، لا قيمة لها عند الله، والشورى التي تجعل من الفرد المفسد، أو الذي لا يعقل، حاكما بأمره في الأمة، لا قيمة لها عند الله، والشورى التي لا يجد المخلصون في جوها متنفسا يكشفون فيه عن عبث العابثين وفساد المفسدين، لا قيمة لها عند الله، والشورى التي يلبس المنافقون في جوها مسوح الصدق والإخلاص، ويكتمون عن الحاكم المخلص بذور الشر والفساد، لا قيمة لها عند الله”.
هكذا تحدث الشيخ شلتوت عن الشورى، ويزيد من عظمة حديثه هذا أنه قد كتبه في مواجهة الاستبداد والمستبدين والنفاق والمنافقين!
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)