مقالاتمقالات مختارة

الشك خلل في اليقين وليس مدخلاً له

الشك خلل في اليقين وليس مدخلاً له

بقلم هدى عبد الرحمن النمر

من ضمن اللوثات التي تسربت للفكر الإسلامي المعاصر تحت ستار مشروعية التساؤل والفضول المعرفي، إعلاء شأن الشك باعتباره بوابة المعرفة، وذَمِّ اليقين بوصفه تسليماً أعمى دون نظر. وبدلاً من محاولات تقويم مثل هذا الفهم المُعوَجّ البنية والمتضارب المنطق، فلنرسي الأصول من البداية، ونقيم التصور الصحيح على بصيرة:

بداية ما هو الشك؟ الشك في لسان العرب: “نقيضُ اليقين. فهو تجويزٌ لأمريْن لا مَزِيَّة لأحدهما على الآخر، أو أن يبقى الإنسانُ متوقّفاً بين النّفي والإثبات…”. وإذا كان الشك “نقيض” اليقين أصلا، فأنى يكون بوابة له تبعاً؟  وإنما مذهب الشك هو العماد الذي يتكئ عليه الفكر الأعجمي غير المسلم (المغاير بالضرورة في المنطلق والمنتهى)، ومع ذلك اقتبسه منه الفكر العربي المسلم بكثير من التشوه والاختزال، وشرع يطبقه بكثير من الخبط والسطحية.

وأول من أَصَّلَ لذلك المذهب في الفكر الغربي هو المفكّر الفرنسي رينيه ديكارت، الملقب “أبو الفلسفة الحديثة”، في مقولته الشهيرة (والمختزلة من أطروحة طويلة): “أنا أشُكُّ، إذن أنا موجودٌ”. والشك عند ديكارت هو السبيل الأمثل للتوصل لمعرفة الحقيقة بوضوح، ثم إنشاء اليقين بها.

وقد بدأ هذا المذهب “رؤية شخصية” عند صاحبه، لأسباب نفسانية واجتماعية وعقلية لم يلتفت لها غالب المستوردين للفكر الأجنبي بسطحية. إلا أن تَعمِيدَهُ كمرجع فكري مهيمن عندهم له أغراض أخرى تتجاوز حيّز تقدير “الفلسفة الإنسانية”، لتؤصّل لنهجهم في الحياة القائم على والمتعمد لهَدِّ أي وجود لكِيـان الحق، واستئصال أي بقاء لجذوره، وإبطال الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة أو حق مرجعي لكل الناس، لأن ذلك يفتح سبيل التوصل لمنظومة الخالقية والإيمان بالله خالقاً.

بدأ مذهب الشك الديكارتي “رؤية شخصية” عند صاحبه، لأسباب نفسانية واجتماعية وعقلية لم يلتفت لها غالب المستوردين للفكر الأجنبي بسطحية

وتأمل كيف أنهم أقاموا مذاهبهم المخترعة بشرياً وأهواءهم الشخصية مقامَ الاعتقاد الإلهي، فوقعوا في صور التأليه والمرجعية التي زعموا التحرر منها (لأنه لا فكاك منها على الحقيقة كما ذكرنا في مفهوم الحرية والعبودية)، وجعلوا لشرائع المُشرِّعين عندهم فَوْقِيَّة لم يستحقوها ببرهان متفرد بنفسه أو راسخ في ذاته كبراهين النبوة، بل كسبوها باتّباع مستسهل واعتماد متكاسل من بعض العقول على بعض.

من جهة أخرى، لا يمكن لليقين الديني أن يكون “أعمى”، لأن اليقين هو بلوغ الاطمئنان القلبي المتوافق مع حركة العقل السَّوِيَّة، فهو رديف البصيرة لا العمى! وما سوى ذلك فلا يُسمَّى يقينا وإن تلبَّس باسمه.

واليقين الذي ينشده المؤمن بالله، هو نور داخلي يَعْمُرُ نفسه فكراً ووجداناً، يُهدَى إليه بتوفيق إلهي، تَعلُّماً وتربية وتخلّقاً، فيوافق بذلك فطرة الله التي فطره عليها، والميثاق الذي أخذه على بني آدم في عالم الذر، والشهادة التي أشهدهم عليها: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].

وفي التصور الإلهي (بالألف واللام وليس أي تصور فيه نوع “إله”)، لا يمكن أن يقع تعارض بين القلب والعقل، والبرهان واليقين، والسؤال والعلم. وما يُتَوَهَّم من تعارض إنما سببه جهل أو سوء فهم من المُتوهِّم .

فسلسال المنطق في التصور الشرعي، يقوم على أن واضع المنظومة الكونية وأسباب الهداية وآيات الحق، هو نفسه تعالى الذي خلق مخلوق الإنسان، ثم خلق فيه طاقات الإدراك بالحس والعقل والوجدان، ثم كلفه بمعرفته والإيمان به تعالى.

فهذا المخلوق بالله، المكلَّف من الله، على أرض الله، في ولاية الله، لا يمكن بحال أن يترك فريسة لثغور الشك، وتخبطات ابتداع تصورات “شخصية” للوجود، وحَيْرات اختراع مغزى “نسبي” لوجوده فيه. إذ ذلك يؤدي لتعطيله عن تكليفه، وارتباكه في التّصَرّف تجاه قضايا مصيرية لا تحتمل وجهين، وذلك عبث يتنزه عنه المولى جل وعلا، ويجب أن يتنزه عنه كذلك كل مؤمن به تعالى!

هذا المخلوق بالله، المكلَّف من الله، على أرض الله، في ولاية الله، لا يمكن بحال أن يترك فريسة لثغور الشك، وتخبطات ابتداع تصورات “شخصية” للوجود، وحَيْرات اختراع مغزى “نسبي” لوجوده فيه

ولا يجتمع بحال إيمان بالله مع قناعة بتلك التصورات الهلامية، وإلا كان حاملهما متناقضاً في نفسه مع نفسه ! فتلك التصورات إما أن تقدح في منطق إيمانه بالله وتُزيِّف حقيقته، أو أن منطق إيمانه بالله يقدح في تلك التصورات ويرفض استساغتها، ثم يدفعه للتعلم الصحيح عن الله، ورفع جهله المقنّع بقناع ظاهر العلم السطحي وفُتاتِ مستورداته. وإن العلم بحقائق الوجود والتوصل للحق فيه بالبراهين ليس مستعصياً على منال الإنسان حتى يحتاج لرحلة تفلسف معقد، وكيف تستعصي عليه وهو المقصود بها والمخلوق لها؟!

وأما في التصور الإلهي فالشك خلل في اليقين لا مدخل له، وهو علامة مرض لا مفتاح علاج! ولا تجد الشك مذكوراً في القرآن إلا في موضع ذم له أو نهي عنه، ولم يوصف بالشك إلا الكفار والمنافقون.

أما المؤمن فقد تعرض له حيرة أو وسوسة، وكلاهما لا ينفيان الإيمان تماماً لكن يقدحان فيه بدرجات خاصة إذا تم تجاهلهما فتعمّقا، وسنتعرض لذكرهما وعلاجهما في الفصل الثاني بإذن الله. والخلاصة في هذا المقام تبديد صحة عقيدة الشك باعتبارها لا تُنبِت يقيناً بحال لأنها بذاتها خلل في اليقين، وآفة في النفسيّة قبل العقلية، إذ تصدر من نفوس تأصّل فيها العناد على جهل أو الكِبر على علم، فمهما تأتِها بالأجوبة والبراهين لا تصغي وإن سمعت، بل وتعود على بدء تكرر نفس القوالب التشكيكية كببغاء عقلُه في أُذُنيه! وذلك مصداق قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].

ويخطئ أشد الخطأ من يتخذ من سيدنا موسى وسيدنا إبراهيم نموذجين “إسلاميين”، لتطبيق مذهب ديكارت الشكي! وفي هذا الترقيع من السطحية والجهل بمقتضيات مقامات النبوة ما فيه، فضلاً عن أن الإصرار عليه قد يبلُغ بصاحبه من سوء الأدب وسوء القول مع حضرة النبوة وجلال الله، ما لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى!

وتوضيح موقف سيدنا موسى حين طلب رؤية الله تعالى بعدما كلّمه، أنه كان بدافع محبة في التقرب من خالقه وشوقاً للرؤية بعد السماع، لا شكًّا في الله أو انتكاسا في الإيمان! حتى إنه بدأ مطلبه بقوله {ربِّ أِرِنِي أَنْظُرْ إليكَ}. فصيغة النداء وأسلوب الخطاب فيه من يقين النبوة ومحبة العبد المؤمن ما لا يخطئه فاهم. بل إنه بعدما أفاق عليه السلام، استغفر ربه وتاب إليه من طلبه ما لا طاقة له به، وليس من تشككه في وجوده تعالى!

وكذلك يقال في سيدنا إبراهيم عليه السلام لمّا طلب أن يريه ربه كيف يحي الموتى، إنما كان ليبلغ عَيْن اليقين بعد علم اليقين، كما أثبت القرآن جوابه حين سأله ربه {أَوَلَم تُؤْمِنْ}، فأجاب: {بَلَى، ولكن ليطمئن قلبي}. فالرد بـ “بلى” ينفي تَطرُّق أي درجة من ذبذبة الإيمان والشك من باب أولى، وقصده بالاطمئنان ليس ما يذهب له الفهم السطحي أنه تثبيت لقلقلة قلبية بل هو ترقٍّ في الثبات!

وأما حديث المصطفى عليه السلام: “نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ” [البخاري ومسلم]، فقد وردت فيه شروح وافية، من يراجعها يجد أن خلاصتها نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، إمام الحُنفاء وخليل الله تعالى. ذلك أنّ الشك لا يقع ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ تلك الرتبة من النبوة والقربى ؟! وإنما الشاهد في الحديث “مشروعية التثبت” و”مواجهة الشكوك” بما بيّن الله تعالى من آياتٍ فيها الكفاية، لمن كان له قلب وأذن واعية. وليس الشاهد “مشروعية التشكك” أو مدحه بذاته، بل السياق يذم تكلّف التنقيب فيما لم يأذن الله لنا بإدراكه من الغيبيات، طلبا لبراهين مخصوصة تنفي الشك عن قلب لم يَكفِه ما آتاه الله بالفعل! {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144].

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى