الشريعة وأحكامها بين التسليم والإذعان وبين سلطة العقل
بقلم أحمد التلاوي
مثل كل مرَّة يقع فيها حدث مثل حالة وفاة الطالبة المصرية في بريطانيا، نورهان نصَّار؛ فإننا نقف أمام الكثير من الظواهر والأمور التي تقول بأننا على مستوى عوام المسلمين، ولا سيما جيل الشباب، لم نزل بعد لم نصل إلى مستوى الفهم الكافي لديننا الحنيف، في أركان كثيرة منه.
والأمر هنا لا يتعلق بتقييم موقف نصَّار أو الموقف من المعركة الفكرية والفقهية التي رأتها منصاتنا الإلكترونية، وبعضها ذائع الانتشار، فكان بالتالي واسع الأذى بالصورة التي جرى تداول الأمر بها في كثير من هذه المنصَّات.
والأمر كذلك لا يخص الشخوص محل الحديث، أو بدأ بهم هذا الموضع من الحديث؛ فالمشكلة ليست في الشخصيات ولا علاقة لنا بالشخوص، وإنما المشكلة في المحتوى المتداول، من مؤيديها ومعارضيها على حدٍ سواء، وفي الطريقة التي طرح بها كل فريق رأيه وموقفه.
وللدقة… فإن المشكلة، فيما تطرحه المواقف التي قدمها هذا الطرف أو ذاك من الزاوية الفقهية والشرعية، ما يرتبط بذلك في صدد أهم قضايانا، وهي الحياة من منظور إسلامي، سواء كيف نقبلها، أو كيف نقدمها للآخر.
وفيما يخص كيف نقبلها هذه، فإن المشكلة الرئيسة هي عدم وضوح مبدأ شديد المركزية في مسألة العقيدة عند الإنسان المسلم، وهي التسليم والإذعان، والتي منها اشتُقَّ أصلاً اسم دين اللهِ، الإسلام.
يقول تعالى: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]، ويقول عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء 125].
والتسليم وهو جذر اشتقاق “أَسْلَمَ” المذكور في الآيتَيْ – هو صنو الإيمان والعقيدة الصحيحة؛ فقد ربطها اللهُ سبحانه في آية “النساء” على وجه الخصوص، باتباع مِلَّة إبراهيم الخليل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ولكن هذه الحقيقة تغشَّاها الكثير من غبار المدنية وفق النمط الغربي؛ للإعلاء من قيمة العقل، بينما ليس من المنطقي أو العقلاني أصلاً، أن نطبِّق قواعد العقل القاصر على أمور الإله والرب، خالق ومُدَبِّر هذا الكون؛ فالعقل أساساً مخلوق، بنفس المنطق الذي لا يمكن به قبول سريان عوارض الزمن وتغيراته على الله -عز وجل- لأن اللهَ تعالى هو الخالق، والزمن وعوارضه من المخلوقات.
ليس من المنطقي أو العقلاني أصلاً، أن نطبِّق قواعد العقل القاصر على أمور الإله والرب، خالق ومُدَبِّر هذا الكون؛ فالعقل أساساً مخلوق
ويغيب أصلاً عن تفكير البعض أن العقل الإنساني نسبي، وبالتالي لا يمكن أن يخرج بأحكام مطلقة . فأنت اليوم في مصر تتعامل بقواعد معينة مبنية على نظرة عقلية معينة للأمور، بينما لو عشت في كندا، سوف تتبدَّل قناعاتك ونظرتك للأمور وفق متغيرات الحال وتأثيراتها على نفس الإنسان وعقله.
في المقابل، فإنه من البديهي طلاقة القدرة للخالق. متى آمنَّا به، ينبغي أن نثبت له طلاقة القدرة، ومنها حكمته البالغة .
وبالتالي، فلا ينبغي لنا كمسلمين أن نحكِّم الأهواء وقواعد العقل القاصر في أحكام وضعها الخالق، والإسلام في ذلك متسق مع ذاته، فهو ينطلق من الإقرار بقصور العقل في مقابل حكمة اللهِ البالغة، ومِن ثَمَّ وجب علينا كمسلمين الإذعان، وهذا موقف مبدئي في الإسلام.
أما ما نحبُّ ونكره، فإننا يجب هنا أن نضع ميزان الهوى وميل القلوب، في مقابل الإقرار بصحة القاعدة الشرعية. أي أن أعترف بأن القاعدة سليمة وواجبة التطبيق، ولكن غلب عليَّ الحكم القلبي.
وهذا في السيرة النبوية أيضاً، ينقل البعض عن الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنه في قاعدة العدل بين النساء أكد على قدرته واستطاعته ضبط العدل في الأمور المادية بمختلف أشكالها، لكنه اعترف بأنه كان يحب واحدةً من زوجاته -أمهاتنا، وأمهات المؤمنين رضي اللهُ عنهن- أكثر من غيرها.
هنا هو بفهمه وإيمانه الصحيحَيْن، أقر قاعدة العدل بين الزوجات بكل صوره، لكنه اعترف بضعفه وعدم قدرته على تطبيقها بالكامل في جوانب منها، ولم يقف لكي يقول إن قاعدة العدل خاطئة لمجرَّد أنه غير قادر على تطبيقها في الجانب القلبي أو العاطفي.
وبالتالي فإن الحكم على فلان وموقفه، لا يتعلق بمحبتي له، أو بكيف كان هو مع الناس وكذا، وإنما الحكم الشرعي هو الذي يفرض نفسه في هذه الحالة .
في الجهة المقابلة نجد الشطط؛ فتفكير البعض ينطلق من منطلق القدرة الكُلِّيَّة للعقل الإنساني، وهذا ما أكده الفلاسفة الوثنيين من قبل نزول الديانات المُرسَلة أو ما يُطلِق عليه العوام مصطلح “الديانات السماوية”؛ فقد أكدوا على أن العقل ليس كُلِّي القدرة.
ولذلك لجأ الفلاسفة اليونانيون المثاليون -مثل أفلاطون وسقراط- إلى الاعتماد على أساس أرسخ من العقل للحكم على الأمر، مثل الأخلاق، وفي هذا اقتربوا من الإسلام، الذي تمثِّل الأخلاق مركزية رئيسة فيه بعد التوحيد مباشرةً، وهو أمرٌ طبيعي؛ لأن الإسلام هو دين الفطرة السليمة، وهؤلاء الفلاسفة سعوا إلى الوصول إليها.
ونسبية العقل أمر ثابت في المدارس الفكرية المختلفة، وتبدو واضحة في المذهب الليبرالي؛ فلا توجد أحكام قاطعة على الأمور، وإنما الأمور متروكة لنسبياتها وظروفها وملابساتها، ولذلك نجحت الليبرالية في الانسياح في مجتمعات كانت تُعد مغلقة وذات خصوصية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند؛ لأنها تملك مزية النسبية والمرونة، وبالتالي فالتماهي مع كل وضع أو غالب الأوضاع القائمة على أقل تقدير.
والأمر أشبه بالدساتير المرنة، التي لا تكون عُرضَة للتعديلات أو لعوارض متغيرات السياسة زمنيّاً، وبالتالي تبقى طويلاً، مثل “الماجنا كارتا” الإنجليزية والدستور الأمريكي.
الغرض… فإن مبدأ الملاحدة أو أصحاب الهشاشة الإيمانية، بالقول بأنه لا يوجد اتساق بين الشريعة وبين العقل، هو مبدأ خاطئ؛ لأن العقل نسبي وعُرْضَة للتبدُّل في حكمه على الأشياء والمواقف بتبدُّل الحالة النفسية للإنسان الواحد في المجتمع الواحد بين لحظة وأخرى. فكم من “نكتة” سمعناها وضحكنا عليها، وفي أوقات أخرى نجدها في منتهى السخافة. هذا يكون نتيجة عوارض النفس والمنسوب العاطفي للإنسان.
إن مبدأ الملاحدة أو أصحاب الهشاشة الإيمانية، بالقول بأنه لا يوجد اتساق بين الشريعة وبين العقل، هو مبدأ خاطئ؛ لأن العقل نسبي وعُرْضَة للتبدُّل في حكمه على الأشياء والمواقف بتبدُّل الحالة النفسية للإنسان الواحد في المجتمع الواحد بين لحظة وأخرى
في المقابل فإننا نجد الكثير من الجهالات في تعامل بعض المتحمسين من المتديِّنين مع مثل هذه المواقف.
فليس من واجب المسلم عند تلقِّي خبر وفاة غير المسلم، ولو كان من دعاة الإلحاد، أن يظهِر الشماتة، ويستعمل فاحش القول في وصف الناس.
فلَم يثبت عن الرسول الكريم – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – أنه قال لفلان في وجهه: يا كافر، أو يا منافق، وعندما جاءت جنازة اليهودي وقف لها حزيناً، وأرسى مبدأً دعويّاً رشيداً بعبارة بسيطة: “أليست نفساً؟!”، وحَزَن لأن هناك نفساً أفلتت منه إلى النار.
وإذا فعلنا فعل الشمَّاتين أصحاب مدرسة السُّباب، فما الفارق بيننا وبين الشيطان الرجيم إذاً والعياذ بالله! فالشيطان عليه لعائن اللهِ والملائكة والناس أجمعين، هدفه الأسمى وغايته في الدنيا، هو غواية وإضلال بني آدم لكي يدخلوا النار.
وفي الهدي النبوي، نجد أدبه الجم في التعامل مع الناس إذا ما اقتضت الضرورة، ولو ارتبط الموقف بأحد صناديد الشرك والكفر وأكبر أعداء المسلمين، أبو جهل، عندما حذَّر بعض الصحابة الذين كانوا جالسين لديه، وقال لهم: “سيدخل الآن عليكم عكرمة بن أبي جهل مسلماً فإياكم أن تذكروا أباه بسوء أمامه” [أخرجه الحاكم].
الجهالة تبدو كذلك في الإسقاط الخاطئ للأحكام، وللآيات القرآنية على مواقف وشخوص لا يدخلون تحت بند هذه الأحكام وما جاء منها في القرآن الكريم، وهذا من أكثر الأمور التي تؤذي الجهود الدعوية.
ويتصل بذلك إصدار الحكم الأخروي، وليس الدنيوي فحسب على فلان أو علَّان من دون مراعاة الضوابط الشرعية لهذا الحكم أو ذاك.
وموضوع حالات الانتحار المتزايدة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة في وقتنا الراهن تجمع بين دفتَيْها المشكلتَيْن السابقتَيْن، فالبعض يحكم بكفر المنتحِر، وهذا حكم شرعي خاطئ، ولم يرد صراحةً عن الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وقالت بذلك مدارس إفتاء قديمة ومعاصِرة معتبرة.
كذلك يحكم عليه البعض مباشرة بما قاله الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلا – عن المنتحر بأنه يخلد في جهنم أبداً، ولكن هذا الحكم مشروط، فينبغي علينا معرفة حالته النفسية والعقلية، فهو لو كان غير مسؤولٍ عن أفعاله فلا تثريب عليه، وهذا حكم شرعي ثابت؛ فقد ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن القلم رُفِعَ عن ثلاث، منهم المجنون، والعقل هو أحد مناطي التكليف كما في القاعدة الأصولية التي لا خلاف عليها.
وفي حالة الكافر أو الملحد الذي يُجاهِر بموقفه هذا، فإن هناك فقهاء معتبرين قالوا بأن إصدار حكم بعينه يرتبط بإقامة الحُجَّة على هذا الشخص ومناقشته، حتى التأكُّد تماماً من انحرافه العقدي هذا، أيّاً كان شكله.
ثم تبقى نقطة المصلحة، هل المجاهرة بكل هذه الآراء بهذه الصورة التي فيها الكثير من التوحُّش، يحقق مصلحة الدعوة والدين في ظل هذه الظروف، أو يتضاد مع هذه المصلحة؟ في الشريعة؛ لو حصل هذا التضاد -الضار للغاية- فإنه لا ينبغي لنا أن نتصدى بهذه الصورة لهذه الحوادث في ظل الظروف الحالية التي يمر بها المشروع الإسلامي، والحرب الذهنية المدمرة عليه.
هل المجاهرة بكل هذه الآراء بهذه الصورة التي فيها الكثير من التوحُّش، يحقق مصلحة الدعوة والدين في ظل هذه الظروف، أو يتضاد مع هذه المصلحة؟
فيكفينا تأكيد الأحكام بشكل عام من دون الهجوم على شخوص بعينهم، أو استعمال فاحش القول وبذيء الألفاظ في منصات التواصل الاجتماعي خصوصاً لو أن للطرفَيْن جمهوراً واسعاً، أو يتصلون بواقع مجتمعي- فلو هاجمت صاحب شهرة وله سمت “دين الإنسانية” كما يطلق البعض، أو أنك “إسلامي” مشهور، واستعملت فاحش الكلام فإن الضرر واقع لا محالة، وهذا حدث بالفعل في قضية نورهان نصار وغيرها من الحالات.
وفي مختصر القول: إننا كمسلمين بحاجة إلى الموازنة في كل شيء، والموازنة ليست من نافل القول، بل إنها عماد قوانين العمران في الكون، فلو اختل توازن الأجرام السماوية سوف يفنى الكون، وبالمثل لو اختل توازن تناولنا للأمور في المساحات الإعلامية والشرعية سوف يفنى الجهد الدعوي .
(المصدر: موقع بصائر)