مقالاتمقالات مختارة

الشبهة بين البر والإثم.. في رياض الصالحين للإمام النووي

الشبهة بين البر والإثم.. في رياض الصالحين للإمام النووي

بقلم عبد المنعم أديب

ما أنْ ترى أوَّل الآية التي اختارها الإمام النووي ليُصدِّر بها “باب الوَرَع وترك الشُّبهات” حتى يقشعرَّ بدنك. وأنت تشعر بالآية وكلماتها: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)؛ فيا لها من قُشَعْرِيرَة ستصيب قلبك! وأنت ترى آيات الله تردعك عن فعل السوء، وتقول لك وأنت تَهُمُّ بفعل مخالفة: يا عبد الله هل ما ستفعله هيِّنٌ في نظرك؟! .. يا عبد الله إنْ حسبتَ أنَّه هيِّنٌ فاعلمْ أنَّه عند الله عظيم! .. واختبر هذه التجربة وانظر كيف ستفعل بعدها.

والذي يجب أن تلحظه أنَّ قشعريرة الآية وأثرها ليست قشعريرة ارتعاب وخوف ورَوعة، بل قشعريرة تنقية وتصفية وانتباه، انتباه إلى صحيح حالِك أيُّها المُؤمن الذي يجب أنْ تظلَّ عليه.

ما هو فعل الشبهة؟

الشبهة

يحدِّثنا الإمام النووي في بابه هذا عن إحدى أعظم الضوابط التي يضعها الإسلام للمؤمن في حياته، ضابط يُلازم المُسلم في كلِّ أوقاته؛ ففي جميعها يكون أمامك الكثير من مَوَاطن الشُّبهات التي تنزل بك عن درجة الطاعة إلى درجة المعصية.

وتذكَّرْ كمْ شكَّ قلبك في فعل تفعله وتشعر في قريرة نفسك أنَّه خطأ رغم أنَّك لا تستطيع الجزم أنَّه حرام أو حلال؛ فذاك هو فِعل الشبهة. ففعل الشبهة: هو الفعل الذي يقع بين الحرام الصريح والحلال الصريح. فتعالَ معًا نرَ كيف رتَّب النووي أفكاره عن هذا الصنف من الأفعال.

أتى بحديث “إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرام بيِّن…” ليخبرنا من خلاله بالأساس أو المُسلَّمة التي يجب أن نعرفها؛ وهي أنَّ الحلال بيِّنٌ أيْ واضح حاسم، والحرام بيِّنٌ كذلك. والإشكال ليس فيهما، بل الإشكال فيما يقع بينهما من أفعال لا هي في الحرام الصريح داخلة، ولا في الحلال الصريح داخلة. وهي “مَوطن الشبهة” والتي أتى حديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالبُعد عنها واتِّقائها. وقد وصف الحديثُ الهدفَ من البُعد عن هذا النوع من الأفعال في أنَّه استبراءٌ للدين والعِرض.

وإذا حاولنا أن نصوغ ما أتى به الحديث من قواعد فهي: الحلال الذي أحلَّه الله واضح، الحرام الذي حرَّمه الله واضح، تقع بعض الأفعال بين هذيْنِ الصِّنفَيْنِ سمَّاها الحديث “أفعال الشبهة” وقال إنَّ كثيرًا من الناس لا يستطيع أن يقرِّر إلى أيِّ صنفٍ -الحلال والحرام- تنتمي هذه الأفعال، والقاعدة الأخيرة هي أنَّ المؤمن صحيح الإيمان مأمور بالابتعاد عن هذه الأفعال، وأنَّه يبتعد عنها ليبرأ بدينه وسِجلّ أعماله من أيَّة شائبة تشوبه.

ما هو البِرُّ؟ وما هو الإثم؟

يأتي لنا النووي بحديث آخر ليبيِّن تعريفَ البِرّ -وهو فعل الخير في التعريف العموميّ، وهو أصناف كثيرة ذُكرت في القرآن والسُّنَّة-، وتعريفَ الإثم. وعرَّف الحديث البِرّ: أنَّه الفعل الذي تطمئنُّ إليه النَّفس والقلب، وعرَّف الإثم: أنَّه الفعل الذي تقلق منه النفس وتضيق به ويَحيك فيها.

وهنا نزيد على “النوويّ” إيضاحًا؛ ماذا يقصد الحديث بالنفس والقلب الذي وضعهما معيارًا لقياس شرعيَّة الأفعال؟! .. أولاً: هذا الحديث يدلُّ على أنَّ فِطرة الإنسان عمومًا تعرف الحقيقة، وتعرف خالقها، وتشهد عليه، وهي لذلك تعرف ما تطمئنُّ إليه وما لا تطمئنُّ إليه.

ثانيًا: هذه النفس وهذا القلب يتلوَّثانِ بفعل ما يقترف الإنسان نفسُه من أفعال سيِّئة، ومن مُداومته على تلك الأفعال السيِّئة، وكذلك من أثر التربية الخاطئة، ومن عوامل أخرى كثيرة.

فكيف نترك هذا القلب الذي تلوَّث معيارًا للقبول النفسيّ للأفعال؟! فالنفس التي يتحدَّث عنها الحديث الشريف هي النفس التي لا يتركها صاحبها هَمَلاً، بل يُربِّيها ويهذِّب أمورها، ويحرص على تنقيتها من أيّ مُلوِّث يشوبها. هذا القلب المُهذَّب -والرأي الذي سقته الآن- تدلُّ عليه آية سورة الشُّعراء (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فما كلُّ قلب بسليم، بل القلب محلُّ المَرَض. فاحرص يا عبد الله على قلبك من أمراضه ليصلح دليلاً لك في أفعالك.

قاعدة التوقِّي من الشبهات

الشبهة

وإذا وصلنا إلى هذا الترتيب الأخلاقيّ نتعرَّض الآن إلى القاعدة الذهبيَّة -كما نسمع عند العامَّة- التي يعرضها لنا حديث آخر. يُرسي لنا الحديث قاعدة التوقِّي من أفعال الشُّبهات، أيْ الوقاية من الوقوع في أفعال الشُّبهات. القاعدة تقول:

دَعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبك.

افعلْ هذا تُرِحْ نفسَك، وتُصلحْ قلبَك، وتُنجِ مشاعرَك من كلّ إثمْ. قاعدة في منتهى اليُسر، بل ليس أيسر منها. كُلَّما شعرت بارتياب في فعلك فاترُكْه إلى فعل غيره لا يُريبك فيه شيء. وبالقطع نتحدث هُنا عن أفعال الاشتباه فقط؛ فكلا الصنفَيْن الآخرَيْن بيِّن -كما اتفقنا-.

ما ثواب البُعد عن أفعال الشُّبهات؟

وهنا يورد النووي آخر أحاديث بابه والتي فيها يعلمنا بثواب البُعد عن الشُّبهات. يقول الحديث:

لا يبلغ العبد أن يكون من المُتَّقين حتى يَدَعَ ما لا بأسَ به حذرًا مِمَّا به بأس.

فالثواب هو دخولك في عِداد المُتَّقين؛ ويا له من ثواب! .. يقول الله في سورة “البقرة”: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). فتجهَّز يا عبد الله لمَعِيَّة الله متى تركتَ ما يُريبك إلى ما لا يريبك. ولا تنسَنا ولا إمامنا النووي مِن دعائك.

(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى