مقالاتمقالات مختارة

الشبك: طائفة إسلامية لكن مسيحية!

الشبك: طائفة إسلامية لكن مسيحية!

بقلم محمد شعبان

لم يثر جدل بشأن طائفة دينية بقدر ما أثير بشأن «الشبك»، إذ فرّقت كتابات عدة معتقدات وعبادات أفرادها على عدد من المذاهب والأديان، بل وذهب البعض إلى اعتبارها ديناً خاصاً من فرط التعقيد الكبير الذي يكتنف طقوسها.

يذكر رشيد الخيون في كتابه «الأديان والمذاهب بالعراق.. ماضيها وحاضرها»، أن اسم «الشبك» يتردد كثيرًا مرة كتكوين قومي عراقي وأخرى تركي أو فارسي، وقد يُذكر باعتباره ديانة مستقلة لها جذورها الزرادشتية أو الإيزيدية، فيما يعدهم كثيرون من الغلاة (العلي إلهية) الذين يؤلهون الإمام علي بن أبي طالب، دون الالتفات إلى انقسام الشبك المذهبي الشيعي الإمامي والسني الشافعي كباقي الشعوب والقبائل الإسلامية.

فيما ذهب الأب أنستاس الكرملي في مقالة له بعنوان «تفكهة الأذهان في تعريف ثلاثة أديان»، ونشرت في مجلة «المشرق» في يوليو عام 1902، إلى أن الشبك لا يُعرف لهم «دين خصوصي».

سنة وشيعة.. متطرفون ومعتدلون

 يتبنى زهير كاظم عبود موقفًا معتدلًا من الطائفة، ويذكر في كتابه «الشبك في العراق»، أن الشبك بجميع فئاتهم مسلمون، منهم السنة والشيعة، وشيعتهم نوعان؛ الأول، يكاد ينقرض الآن، وهم الذين يتبعون المذهب البكتاشي، وهو مذهب شيعي باطني متطرف أرسى أسسه محمد بكتاشي الفارسي الأصل، والذي عاش في تركيا وكتب أفكاره باللغة التركية، وكان ذا شأن في الجيش العثماني.

ويتركز المذهب على حب آل بيت الرسول وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، والذي يعتبرونه من أهم رجال الإسلام بعد النبي محمد، ويعتقدون أن الخلفاء الراشدين اغتصبوا حقه في تولي الخلافة بعد موت الرسول، ومن هنا ينشأ حبهم وولاؤهم لـ«البير»، أي رأس الطائفة، والذي يعدونه من نسل الرسول، ويلقب بـ«البابا».

أما القسم الثاني، من الشيعة فهم الإثني عشرية الجعفرية، والتي انحاز إليها معظم البكتاشيين في العقود الأخيرة على غرار شيعة جنوب العراق وإيران وبقية المناطق التي يقيم فيها الجعفرية.

غير أن مصطفى الشيبي في كتابه «الطريقة الصفوية ورواسبها في العراق المعاصر»، جعل الشبك قبائل تركمانية وعدَّهم ضمن العلي إلهية، وأقر بكتابهم «المناقب»، وبطقوسهم التي خالفوا فيها المسلمين، وذكر أنهم يستخفون بالتكاليف، وأنهم طريقة دينية متأثرة بالطريقة الصفوية، التي تأسست في شمال غربي إيران في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، وينظر لها باعتبارها أساس الدولة الصفوية.

بناة الموصل الأوائل

وبينما اختلف كثيرون حول هوية الشبك الدينية، تبنى أحمد شوكت في كتابه «الشبك. الكرد المنسيون. دراسة تاريخية اجتماعية في أصولهم وعقائدهم وموطنهم» منحى آخر، فذكر أنهم بناة الموصل الأوائل، وقال «هم بناة الموصل القدماء، ربما كانوا أول من بنى هذه المدينة الكردية، وسموها قلعة نواردشير»، معتبرًا أن إغفال المؤرخين لأصل الشبك يعود إلى أنهم لم يتمكنوا من الكشف عن أصول حركتهم بموطنهم عبر التاريخ وهو الموصل.

في كل الأحوال، وكما يذكر الخيون، يتكلم الشبك لهجة كردية تحتفظ بكثير من الألفاظ القديمة، مع أن المسعى الحالي يشير إلى أنهم أصحاب لغة خاصة تماهت شيئًا فشيئًا مع اللغة المحيطة، وتجرى عدة محاولات من مثقفيهم إلى إحيائها من جديد، لكنها في كل الأحوال لا تخلو من تأثير المحيط المتمثل بوجود ألفاظ فارسية أو تركية أو عربية.

وتتفاوت التقديرات والإحصاءات حول عدد الشبك، منها التقديرات الإنجليزية القديمة، التي عدتهم بعشرة آلاف نسمة. وفي الإحصاء العراقي عام 1947، عُدوا جمعًا مع الإيزيديين بـ33 ألف نسمة، وفي إحصاء 1977 بلغ عدهم 75 ألف نسمة.

معتقدات مسيحية

خلال الأعوام 1996- 1998، أعد ميشيل ليزيك الأستاذ في قسم الفلسفة بجامعة أمستردام في هولندا دراسة سكانية على العراق، ذكر فيها أن ظهور الشبك وغيرها من المجموعات العرقية في تلك المنطقة، يجب أن ينظر له على خلفية الفترات المضطربة بين غزو المغول وتوطد الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلاديين، وهذه الفترة تميزت بغياب الاستقرار السياسي وسرعة تعاقب السلالات الحاكمة، والفراغ النسبي للقوة في أرجاء عديدة من مناطق النفوذ، ومن ثم ظهرت مجاميع بشرية اتصفت بتمايز عرقي وديني ولغوي، وهذه الظروف هيأت المناخ الخصب لظهور أشكال التنظيمات الاجتماعية الجديدة، وتفتح معتقدات دينية مختلفة.

وفي وسط هذه الأجواء بدأت القبائل التركية الدخول للمنطقة في القرن العاشر الميلادي سنية المذهب ومشبعة بروح الجهاد، على الرغم من كون معتقداتها الدينية الحقيقية عبارة عن خليط من مبادئ الإسلام وشعائر سكان آسيا الوسطى، مع نفحات من الديانة المسيحية، والتي تسربت لهذه الجماعات من فلاحي الأناضول.

هذا الرأي يؤكده أحمد حامد الصراف في كتابه «الشبك. من فرق الغلاة في العراق»، حيث ذكر أن معتقدات الشبك تأثرت بالمسيحية في كثير من طقوسها، ومنها الاحتفال بليلة رأس السنة، التي تعد من الليالي المقدسة عندها، وتكون بالنسبة لهم في الليلة الأولى من شهر كانون الأول/ ديسمبر كل سنة.

وفي هذه الليلة يأمر «الرهبر»، والذي يعد الرجل الثاني في الطائفة بعد «البير»، أن يُجمع سكان القرية من رجال ونساء، ويدخلهم إلى الغرفة الجالس فيها «البير» عشرة بعد عشرة، وعند الدخول يسجدون على عتبة الغرفة وتسمى «استانة»، ثم يولون وجوههم نحو السراج أو الشمعة المعلقة في الحجرة فيسجدون جميعهم.

ويُحتم على كل من أراد الحضور في دار «البير» أن يجلب معه ديكًا وخمرًا وثلاثة أرغفة من الخبز، وتُسلم إلى الأشخاص المنوط بهم استلامها من الإثني عشر (العدد له علاقة بالأئمة الإثني عشر الذين يقدسهم الشيعة الإمامية) الذين لا يتم أي احتفال إلا بحضورهم، ثم يمسح «البير» على ظهورهم مرددًا بعض الأدعية التي تسمى «الكلبنك».

وهذا العمل يُجرى عصرًا، وعندما يحلُّ الليل ينهض شخصٌ يسمَّى «صاحب السكينة المقدسة» ويسمى أيضًا «قصابًا» ويذبح الديوك، ولا يجوز أن يذبحها غيره، وإذا ذبحها غيره أصبحت نجسة محرمًا أكلها، ثم تشوى وتشرب الخمور وتؤكل الطيور وهو ما يسمى «التناول».

ويُضرب بالطنبور، وتنشد الأشعار، ويسهر الجالسون يضحكون ويمرحون حتى منتصف الليل، ثم يخرجون فرادى ومثنى وجماعات بعد تقبيل يد «البير»، وبذلك ينتهي الاحتفال. ومن حضر هذه الليلة جاز له أن يحضر صلاة الجمعة، ومن لم يحضر لا يُسلم عليه وليس له أن يصلي الجمعة.

تمتد التأثيرات المسيحية أيضًا إلى ما يسمى «ليلة الاعتراف»، حيث يتقدم فيها الشبكي إلى البابا، فيعترف له بخطاياه وذنوبه، وفيها ينشد البابا «الكلبنك» الخاص بالاعتراف، ويجاريه في الإنشاد «الرهبر»

وهناك ليلة أخرى يحرص الشبك عليها تسمى «التعاذر»، وهي الليلة التي يغفر المتباغضون بعضهم لبعض ويصطلحون فيها، ولها مراسم يقوم بها اثنا عشر شخصًا برئاسة «البير»، ويعتبر الاجتماع في هذه الليلة من الاجتماعات المقدسة.

صلاة وصوم بشكلٍ مُختلف

يتوغل الصراف في الداخل الشبكي، فيذكر أنهم لا يؤدون فريضة الصلاة كسائر المسلمين، وإنما يصلون صلاة واحدة في ليلة الجمعة وهم قعود على شكل حلقة، ويكون الاجتماع في دار «البير» وهو الرأس عند الشبك، ويلقب بالبابا الذي يملك في يده مقاليد أمورهم.

وتقام الصلاة بحضور اثني عشر شخصًا، فيبدأ «البير» بتلاوة ما يستظهره على قلبه من الأدعية، وقد ينشد «الرهبر» وهو بعض محفوظاته، ومن ثم يأمر «البير» الحاضرين أن يسجدوا فيسجدون، ثم يردد بعض الأدعية.

ولا يصوم «الشبك» شهر رمضان كسائر المسلمين، إلا أنهم يصومون تسعة أيام من العشرة الأوائل من شهر محرم الحرام، وفي هذه الأيام يقيمون المآتم والمناحات، فيبكون ويلطمون ولهم في ذلك أهازيج خاصة. ويبررون عدم قيامهم بالصلاة بأن عليًا جُرح وهو ذاهبٌ إلى أدائها، وعدم صيامهم بأنه قُتل في شهر رمضان.

وعلى نفس النهج، لا يزكي الشبك بأموالهم كسائر المسلمين، ويهملون هذا الفرض عمدًا، إلا أنهم يعطون من حاصلاتهم الزراعية ما يسمونه «خمس الجد» إلى قادتهم الذين يعتقدون أنهم سادة من صلب النبي.

هم أيضًا لا يحجون إلى بيت الله الحرام، لكن بعضهم يقصد زيارة العتبات المقدسة بالنجف وكربلاء.

سرية الطائفة وأوهام المحيطين

يتحفظ «الخيون» في كتابه على ما ذكره «الصراف» حول طقوس وعبادات الشبك، فيقول إن وجود شيعة كأغلبية بين الشبك، وسط محيط سني شافعي، هو المنطقة الكردية كافة، ظاهرة تلفت النظر، وتكثر حولها التكهنات، وربما اضطر الشبك إلى السرية وسط ذلك المحيط، مع أن حالهم حال بقية الشيعة يزورون العتبات المقدسة، ويعتقدون بشفاعة الأئمة، مثلهم مثل شيعة وسط وجنوب العراق.

وبطبيعة الحال، لجأ الشبك إلى السرية في التعبير عن اعتقاداتهم وسط المحيط السني الذي يعيشون فيه، وكل هذا جعل المحيط يشير إليهم بالغلو والعلي إلهية، لذا فإن ما ظهر حول هذه الطائفة من كتابات بأنها لا تتعدى أوهام المحيطين، بحسب وصف «الخيون».

نفس التحفظ يتبناه «عبود» في كتابه، فيذكر أن ما أورده «الصراف» عن عقائد وطقوس الشبك على فرض صحته، يمكن أن يكون التاريخ المنقضي من هذه الطائفة، إذ لم يؤيد أحد اليوم وجود احتفال ديني بليلة رأس السنة في الأول من ديسمبر من كل سنة، كما لا توجد ليلة للاعتراف.

كما أن ليلة الغفران والصلح وهي الليلة التي سماها «الصراف» «ليلة التعاذر»، إن صحت، لم يعد لها فعل أو وجود بين المجتمع الشبكي، فقد حلت القيم الإسلامية والأعراف العشائرية بديلًا عن كل رواسب الماضي، إذ إن وقت إيقاع الصلح والتسويات العائلية والعشائرية لا يتم تحديدها بأيام محددة من الشهر أو الأسبوع، وإنما وفقًا للظروف والاتفاقات بين الأطراف نفسها التي تريد حل المشكلة.

أما عن الغلو في محبة الإمام علي والاعتقاد بإلوهيته، فلم يعد لذلك وجود بينهم، بل لا وجود لهم في العراق ولا غيره من الأماكن، رغم ما يشاع من وجود «علي إلهية» بالعراق.

ويلفت إلى أن كثيرًا من الكتاب وقعوا في خطأ فادح عندما وضعوا كلاًّ من الشبك والإيزيدية والكاكائية في بوتقة واحدة، علمًا بأن هذه الطوائف الثلاث من الكرد لا علاقة مذهبية بينها، وأن الشيء الوحيد في هذا الجانب هو كتمانهم الشديد لمذهبهم خشية الاضطهاد.

مواسم زيارات الأئمة

يقدس الشبك الأئمة الإثني عشر الذين يقدسهم الشيعة الإمامية ويعدونهم مكرمين ومعصومين، فينذرون لهم النذور، ويقدمون بأسمائهم القرابين، ويتغنون في قصائدهم بمآثرهم وكراماتهم ومعجزاتهم.

وللشبك مواسم عامة وأخرى خاصة لزيارة المراقد والعتبات المقدسة، فـ«العامة» هي نفس مواسم الشيعة الإمامية كيوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر المحرم الحرام، وفيه استشهد أبو عبدالله الحسين، واليوم العشرين من شهر صفر والذي اجتمع فيه المتخلفون عن نصرة الحسين، وطافوا حول قبره وأظهروا الندامة والتوبة، وهناك يوم الخامس عشر من شهر شعبان وهو ذكرى ميلاد الإمام المهدي الغائب المنتظر.

أما مواسمهم الخاصة، فهي زيارة مرقد «العباس» قرب مدينة الموصل، ويقصده الشبك في اليومين الأول والثاني من عيدي الفطر والأضحى. والعباس هو أبو الفضل أخو الحسين لأبيه وأمه أم البنين الأسدية، وكان يحمل راية الحسين في موقعة كربلاء، وهو مثال الشجاعة والتضحية والجمال لذلك لقب بـ«قمر العشيرة» و«قمر بني هاشم».

كما يزورون أيضًا مرقد حسن فردوش (في الأغلب أحد قياداتهم التاريخية)، ويقع بالقرب من قرية الدراويش على طريق قرية «بعشيقة» بالموصل، وتقصده الطائفتان الإيزيدية والشبك في يوم جمعة من جمع أيام الربيع ويسمونها «جمعة الطواف».

وهناك مرقد «علي رش»، ويقع في قرية مسماة باسمه، ويسمونه أيضًا بـ«زين العابدين»، وتقصده جماعات كبيرة في اليومين الأول والثاني من عيدي الفطر والأضحى. والإمام زين العابدين هو علي بن الحسين، وقبره في البقيع في المدينة المنورة، ويسمى أيضًا «عليل آل البيت»، وقد حضر وقعة كربلاء وكان عليلًا لمرض ألم به.

ويتردد الشبك أيضًا على قبر يزعمون أنه لعبيد الله بن زياد شرق الموصل في موسم الربيع في كل سنة، لا ليتباركوا به ولكن ليرجموه، حيث يعتقدون أنه نكل بشيعة الإمام علي وأبنائه حينما كان واليًا على العراق في عهد يزيد بن معاوية.

ما بعد غزو العراق

على كلٍّ، استمر الشبك على غموضهم حتى سقوط العراق على يد الأمريكان في أبريل 2003. وقتها ظهر الصوت الشبكي مطالبًا بالحقوق القومية، على أنهم ليسوا كردًا إنما قومية مستقلة، وظهرت لهم مشاكل مع حكومة المركز وإقليم كردستان في الوقت نفسه، وكان لهم نائب في البرلمان العراقي.

ومثل بقية سكان الموصل تعرض الشبكيون لحملات إرهابية، فنزحوا من قراها إلى المناطق الآمنة، وتحديدًا القرى المسيحية مثل قرية «برطلة»، لكنهم اصطدموا بمعارضة مسيحية خوفًا من وجود إسلامي شيعي مكثف يزيحهم عن المكان بدعم إيراني.

وهناك تبنتهم الأحزاب الدينية الشيعية سياسيًا، فعن طريق وجود أسر لهم بأطراف «برطلة» أقام المجلس الأعلى الإسلامي العراقي مركزًا دينيًا عند بوابة القرية، يحتوي على حسينية لإقامة الشعائر الدينية، ومن ثم وجدت مشاكل بين المسيحيين والشبك.

وفي 12 يونيو 2014 سيطر تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على الموصل، وخرج الجميع من ديارهم وقراهم المتنازع عليها، ولم يعودوا إليها إلا عقب اندحار التنظيم.

(المصدر: إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى