وهذا يعني إلغاء التجانس (الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، الثقافي، الفكري، الاعتقادي) ذلك الذي يعد أهم مظهر من مظاهر وحدة الحضارة وتحديد الهوية، ولذا يمكن أن نعرف ذاك التجانس بأنه (العناصر المشتركة التي تصلح كمقومات لبناء هوية مجتمع واحد للأمة) وعليه فإن مقابلة أي تعدد سيعني زوال ذلك التجانس الذي يفرز الحضارة ويبني الهوية، فكما أن قضية الهوية الشخصية تعد أزمة موجبة للعلاج، فإنه لابد للنظر إليها من خلال أزمة أخرى أكثر إيجابا للعلاج، هي أزمة الهوية المجتمعية التي تسبب الضياع الفردي والذوبان في الطرف الآخر…
وتستعمل كلمة(هوية) في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة Identity التي تعبر عن خاصية المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقة لمثيله، وفى المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية هي: حقيقة الشيء أو حقيقة الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميزه عن غيره، وتسمى أيضاً وحدة الذات.
ولذلك فإذا اعتمدنا المفهوم اللغوي لكلمة هوية أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث، فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير، وهو يشمل الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات ومن قيم ومقومات. وصفوة الكلام: إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الأخرى.
وسوف نحاول من خلال استقراء وجهات نظر الخبراء والمربين والدعاة والعلماء، البحث في قضية الهوية الإسلامية لشبابنا هادفين للخروج بمنظور علاجي نافع يعد انطلاقة مقبولة للعودة إلى الانتماء والتطبيق للمعنى الإسلامي الأصيل..
أولاً: مظاهر ضعف الهوية الإسلامية لدى الشباب المسلم..
تتكاثر المظاهر التي قد يراها البعض انفتاحاً وتقدماً ورقياً في حين يراها الآخرون إذلالاً وتبعية وذوباناً للهوية.. يقول الدكتور محمد إسماعيل المقدم: يمكنك أن ترى أزمة الهوية الإسلامية في الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه وفي سيارته، وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم، وفي المسلمين الذين يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم يفتخرون بالفوز بجنسية البلاد الأخرى، وفي المذيع المسلم الذي يعمل بوقاً لإذاعة معادية لدينه من أجل حفنة دولارات،…… وفي أستاذ الجامعة الذي يسبح بحمد الغرب صباح مساء… وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته ويرى بعيون الآخرين ويسمع بآذانهم وباختصار: يسحق ذاته ليكون جزءاً من هؤلاء الآخرين ” أيبتغون عندهم العزة “؟!
ويقول الدكتور عصام هاشم: يوم أن ضيَّع أفراد الأمة هويتهم، وذهبوا يتخبطون في دياجير ظلمة الحضارة المعاصرة بحثاً عن هوية، ظهرت نسخة مشوهة من الحضارة الغربية بين شباب بلاد الإسلام، حيث ظهر من يقلدهم في لباسهم وأكلهم وشربهم وقصات شعورهم، بل وحتى في سعيهم البهيمي في إشباع شهواتهم، وظهر من فتيات الإسلام كذلك من تعرت وتفسخت وتركت حجابها وظهرت على شاشات الفضائيات والقنوات مغنية أو راقصة أو مقدمة، والأدهى من ذلك والأمر أن هناك من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا، يسعون باسم الثقافة والتقدم إلى مزيد من طمس الهوية الإسلامية؛ فيسعون لكشف المحجبة، وإفساد المؤدبة، وإخراج المكنونة المستترة..
ويقول الدكتور جمال عبد الهادي: إن الأزمة بلغت إلى حد أن الأمة صارت تستورد قيمها من غيرها لتبني حضارتها، ولاشك أن هذه أعظم مخادعة للذات؛ لأنها تبني بيتها على جرف هار، إن من يتصور أن في اتباع قيم الآخرين ومناهج حياتهم، والوقاية من بطش أمم شاء الله لها العلو في الأرض زمناً والإفساد فيها إلى حين، لهو واهم؛ لأن صدام الحضارات والأديان والثقافات أصبح حقيقة واقعة ومعلوم من التاريخ والواقع بالضرورة..
ويقول الدكتور عبد العزيز التويجري: إن الخطر الأكبر الذي يتهدد الأمم والشعوب في هذا العصر، هو ذلك الخطر الذي يمسّ الهوية الثقافية والذاتية الحضارية والشخصية التاريخية للمجتمعات الإنسانية في الصميم، والذي قد يؤدي إذا استفحل، إلى ذوبان الخصوصيات الثقافية التي تجمع بين هذه الأمم والشعوب، والتي تجعل من كل واحدة منها، شعباً متميزاً بمقومات يقوم عليه كيانه، وأمة متفردة ً بالقيم التي تؤمن بها وبالمبادئ التي تقيم عليها حياتها.
ومهما تكن الألفاظ الجامعة التي يوصف بها هذا الخطر الذي بات اليوم ظاهرةً تكتسح مناطق شتى من العالم، بما فيها المناطق الأكثر نموّاً والأوفر تقدّماً في المجالات كافة، وأياً كانت طبيعة هذه الظاهرة وحجمها والأدوات التي تستخدم في تحريكها، فإن مما لاشك فيه أن الهوية والثقافة بخصوصياتهما ومكوّناتهما ومقوماتهما، هما المستهدف في المقام الأول، وأن الغاية التي يسعى إليها الماسكون بأزّمة السياسة الدولية في هذه المرحلة، هي محو الهويات ومحاربة التنوع الثقافي، والعمل على انسلاخ الأمم والشعوب عن مقوماتها، لتندمج جميعاً في إطار النموذج الأقوى إبهاراً، والأشدّ افتتاناّ في العصر. ونحن نستطيع استقراء أهم المظاهر التي تدل على أزمة الهوية لدى الشباب المسلم في عدة نقاط هامة وأساسية:
1- الانبهار الشديد بالتقدم الغربي على مستوى التكنولوجيا والحضارة المادية.
2- التطلع لمشابهة الغربيين والأمريكيين وغيرهم من الشعوب المتقدمة مع الشعور بالدونية والانكسار تجاه تلك الشعوب.
3- التحرر من القيم المقيدة للسلوك الإباحي تشبها بالتحرر الغربي الجنسي والسلوكي.
4- ضعف الولاء والانتماء للتشكيل الإسلامي القيمي والمبادئي والمعيشي.
وما سبب الانكسار لدى الشباب المسلم أمام الثقافات الغربية؟! يقول الأستاذ الدكتور أحمد زايد: إن ثقافة العولمة التي تتحدى وتتصارع مع الهوية الإسلامية هي ذات خصائص معينة تجعلها تتميز بالقوة والدعم الذين تفتقدهما الثقافة الإسلامية في هذا العصر، فهي ثقافة يصاحبها في الغالب خطاب تقني وعملي، فهي تنقل عبر الوسائل الاتصالية الحديثة، وهي بذلك مصنوعة بحساب. وهي نخبوية تُفرض من أعلى من دون أن تكون لها قاعدة شعبية، أو تعبر عن حاجات محلية، أو تلتزم بأشكال ومضمون التراث الثقافي التي تنتقي منه.
وتنطوي ثقافة العولمة التي تنبثق من الحداثة المادية بخصائصها تلك، على مخاطر عديدة تتهدّد الهوية والثقافة في آن واحد، مما يؤكد قوة الترابط والتلازم بين الهوية والثقافة أياً كانت، وهو الأمر الذي يستدعي تقوية العلاقة بين العنصرين الرئيسيْن من عناصر الكيان الأممي: الهوية والثقافة؛ لأن في الحفاظ على الهوية والثقافة وقايةً من السقوط الحضاري، وصيانة ً للذات، وتعزيزاً للقدرات التي يمكن التصدّيّ بها لضغوط التحدّيات مهما تكن.
1- تحريف المفاهيم الدينية، كي تتفق مع الأفكار الفكرية التي تروجها العولمة المعاصرة، وذلك باستبعاد الإيمان بالغيبيات واعتباره مضادا للعقلانية العلمانية.
2- إيجاد فئات وشرائح ومؤسسات في المجتمعين العربي والإسلامي تعمل كوكيل للثقافة الغربية، وذلك بتقديم المساعدات المالية لمشاريع أبحاثها وعقد الندوات واللقاءات التي تدعم توجهاتها الثقافية للهيمنة على الثقافتين العربية والإسلامية.
3- إنشاء مجموعة من المراكز والمؤسسات التي تؤثر مباشرة على الثقافة العربية، مثل: الجامعات التبشيرية ومراكز اللغات والترجمة ومؤسسات خيرية ومدارس أجنبية يتمثل دورها جميعاً في التأثير الفكري والتربوي واللغوي على طلبة العلم والمعرفة، وفرض مناهجها وأفكارها مع التقليل من مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية، ثم القيام بالتبشير والتنصير.
(والخطورة كل الخطورة تكمن في تخريج هذه الأجيال على النهج المريب من التغريب) وهي أجيال لن تعود لها صلة بماضيها وتراثها وثقافتها ولن يكون لها ولاء ولا انتماء لآبائها وأقرانها ممن يتخرجون من المدارس العربية، وكأننا بذلك نعمل على إيجاد حالة من الانفصام في شخصية المجتمع وبنيته الأساسية تبدو آثاره في ظاهرة استعلاء لغوي ومباهاة بلغة الغرب وثقافاتهم وإعلامهم.
4- يعد الإعلام مرتعاً خصباً وميزاناً فسيحاً يتم من خلاله الغزو الثقافي لإشاعة الفواحش والمنكرات من أجل تحطيم القيم والثوابت الأخلاقية، ولقد تحولت وسائل الإعلام إلى قنوات لبن مسموم ونشر للرذيلة والانحطاط بالغريزة البشرية وانهيار السلوك الإنساني والتباس الحق بالباطل والهدى بالضلال والخير بالشر.
5- إن قنوات التلفزة تشكل تهديداً خطيراً ومعول هدم للهوية الإسلامية الحضارية والثقافية من خلال بث البرامج والأفلام والمسلسلات الخليعة والمسرحيات الهابطة، ولقد كشفت دراسة قام بها تسعة من أطباء علم النفس على مدى خمس سنوات في جريدة الرأي الكويتية عام 1992م، أظهرت أن البرامج المتلفزة تؤثر على الأطفال المراهقين وتدفعهم إلى الصراعات وتجعلهم أكثر تقبلاً للعنف الجنسي، وكشفت هذه الدراسة أيضاً أن أفلام الرسوم المتحركة التي تعرض صباح العطلة الأسبوعية تتضمن مشاهد عنف تزيد بمعدل أربع أو خمس مرات عما يشاهد في الأفلام التي تعرض بعد ذهاب الأطفال للفراش، فعلى الرغم من كل هذه المظاهر التي وضحتها كل هذه الدراسات نرى تكالب أجهزة الإعلام على هذه المنتجات الإعلامية.
ويقول الباحث الدكتور إبراهيم متولي: إن التحدي الملح تجاه العودة بالهوية الإسلامية هو التحدي التربوي، وباستقراء الدراسات التربوية السابقة والخاصة بهذا الاتجاه يتضح أن ثمة أمور لا بد من التأكيد عليها لعل من أهما ما يلي:
1- أن العالم الإسلامي يتعرض لمجموعة من التحديات والمخاطر ينبغي للأنظمة التربوية مواجهتها بصورة حاسمة.
2- حاجة المجتمعات العربية والإسلامية إلى صياغة حديثة لنظرية تربوية إسلامية تكون في مواجهة التحديات والمخاطر التي تحدق بالأمة العربية الإسلامية.
3- أن التعليم في القرن الجديد – الحادي والعشرين – يرتكز على مجموعة من المبادئ، هي: بيئة تعليمية جديدة – التعليم الشخصي – تعليم مبتكر للمعرفة – التعليم مدى الحياة، وكلها أساسيات مبدئية للتعليم الحديث يجب ألا تهملها النظرية الإسلامية الحديثة في مواجهة التغريب والعلمنة.
4- أن المجتمعات العربية الإسلامية تتعرض الآن – وفي المستقبل – لمجموعة من الأخطار والتحديات بعضها داخلي كالتغير في التركيب السكاني، والتغيرات الثقافية والقيمية، والتغيرات المجتمعية المختلفة، وبعضها خارجي: كالثورة العملية والتكنولوجية، والتوتر بين العولمة والمحلية، والتغيرات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم، والطريقة الوحيدة لمواجهة ذلك هي التنشئة العلمية التربوية القوية والمنهجية لأبناء تلك المجتمعات والشعوب.
5- المدرسة الإسلامية المستقبلية هي إحدى الأطروحات التربوية التي ينشدها التربويون العرب والمسلمون لمجابهة تلك الأخطار والتحديات، حيث إن المطلوب منها شيئان؛ الأول: يتعلق بالكيفية التي يتم من خلالها التعامل مع تلك الأخطار والتحديات، والثاني: مراعاة الخصوصية والذاتية العربية الإسلامية التي تتميز بها الهوية الإسلامية .
وبذلك نستطيع أن نحدد سبب الانكسار لدى الشباب المسلم أمام تلك الثقافات بعدة أمور هامة:
1- الفراغ النفسي والمعنوي والطموحي لدى هذا الشباب المسلم، وعدم وجود الشخصية النموذجية التي يأمل دائماً أن يتشبه بها في ظل رؤياه لشخصيات دنيوية مادية قد أثبتت نجاحات متتالية على المستوى المادي والتكنولوجي، والشباب المسلم هنا بحاجة ماسة لبناء الطموح عنده عن طريق توجيهه للاقتداء بكبار وعظماء الأمة الإسلامية في تاريخها الزاهر وبأبطالها أصحاب الإنجازات المشاهدة في عصرها الحديث.
2- الهجمة الإعلامية التي تصور المسلمين بصورة دونية مستذلة مع ضعف العزة النابتة في داخلية أولئك الشباب تجاه الإسلام والاعتزاز به، أدى إلى هروب ذلك الشباب من التشبه بتلك الصورة المنكرة إعلاميا إلى الصورة المحبوبة إعلامياً.
3- الارتباط بالهوية والثقافة الإسلامية، والذي يحتاج إلى جزء كبير من اليقين والإيمان باليوم الآخر وبقدرة الرب سبحانه، وبالقضاء والقدر، والشباب مع ضعف إيمانهم بتلك الأسس، وعدم تربيتهم عليها يخرجون مستنكرين للهوية الإسلامية التي يرونها مقيدة لحريتهم اللامحدودة، والتي تقدمها لهم الثقافات الغربية التي تقدم الحاجات المادية والشهوات كمادة أساسية مباحة دائما بغرض التفرغ للعمل!