بقلم زين العابدين بن غرم الله الغامدي
في ظروف تاريخية معاصرة شهد النسيج الاجتماعي الإنساني تطورات كبيرة وكثيرة في الفكر والثقافة والحياة وكان من أبرز تطوراتها رؤية حداثية إصلاحية جديدة لازالت محل جدل ونقاش خصوصاً بين الأجيال القديمة والمعاصرة أوالتي تناصر القديم وتنافح عنه وبين أجيال الحداثة وكانت الكلمة سلاح كل فريق بين الرفض والقبول الذي شغل الأجيال عن الإبداع والإنجاز ومواكبة العصر في جدل عقيم لا طائل تحته رغم إن الحوار والكلمة الحرة في حد ذاتها يمكن أن تحمل رؤية وفلسفة لنظرة الإنسان للحياة والكون . معترك الحوار بين الفريقين كان يدور حول الفصل بين الدين والسياسة بل عزل الدين عن الحياة .والحرية وضوابطها والمرأة ودورها المجتمعي وقضايا سياسية واجتماعية أخرى .
وكانت الحوارات العالمية تدور حول إشكالية الحرية والانعتاق من الماضي وغير ذلك من فلسفة ترتكز على إعمال العقل وتقديمه على فلسفة الدين حسب رؤية علمانية وليبرالية حديثة معاصرة.
قلق الجيل الجديد حين يرغب في التغيير يبدو حائراً ومتردداً ويظن حسب ما يشاهده من ممارسات تلبس لباس الدين إنه ضد التجديد والحداثة والتغيير .
كما إن واقع التدين المعاصر وصوره الحديثة أصبح مرتبطاً بالعنف والخوف من الحياة المعاصرة وتجلياتها التقنية المذهلة التي أحدثت صدمة عند بعض الشباب فتحول من التدين إلى الانعتاق منه وكان من أسباب ذلك تخلف منظومة تعليمية هزيلة ومناهج قديمة لم تقدم قيم الدين في صورته الجميلة البسيطة التي تعتمد على الإقناع والتجديد المستمر .
لابد للجمع بين قيم التدين وفلسفة الحداثة المعاصرة من إصلاح المنظومة التعليمية ليجمع بين قيم الدين والحداثة فواقع التعليم الحالي ينتج لنا بواقعه الهزيل شباباً أكثر ميلاً للعنف والتطرف ويظهر هنا دور الإعلام لصنع أجيال راشدة وقوية طموحة تتأقلم مع واقع الحضارة العالمية وتحافظ على أصالتها وقيمها الدينية كما إن الدراما العربية في كثير من مسلسلاتها تصنع جيلاً ضعيفاً ومتواكلاً متحرراً بعيداً عن الدين ووسطيته وشموليته بل هو يدفع به إلى هاوية التحرر والإلحاد ومصادرة الدين ورفضه وأصبحت العلاقة بين الأجيال الجديدة والدين علاقة رفض وتحدي لقيمه نظراً للصورة الإعلامية المشوهة للدين التي تقدمها بعض القنوات الإعلامية وبعض المؤسسات الدينية ومحاضن الدعوة التي تقدم التدين على إنه معزول في زاوية من زوايا المسجد وبعيدة بل منفصلة عن المجتمع والحياة المعاصرة وقيم الحداثة المعاصرة التي تجمع بين الأصالة والتجديد.
وصار الشباب يتعلم فن الإرهاب والعنف في محاضن تمثل التطرف باسم الدين في أبشع صوره وأشكاله .
والمتأمل في ثنايا تاريخ السيرة النبوية يجد إنها تجمع بين الأصالة المعاصرة ولاترفض الحداثة رفضاً مطلقاً كما صوره بعض المتدينين .
حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بجمع فئات المجتمع وحرص على تقوية أواصر الأخوة بين مجتمعين مكي ومدني دون تفريق أو تقطيع لأواصر النسب والإنسانية بمسميات طائفية أوعرقية أوحزبية بل جمع الجميع تحت راية مدنية واحدة جمع بها من قبل بين يهود المدينة والمسلمين فكانت المدينة المنورة مثالاً للتعايش الحضاري في بيئة متكاملة يكمل بعضها بعضاً وحث المهاجرين على أن لايكونوا عالة على المجتمع المدني وشجعهم على العمل والتجارة والأخذ بأسباب الحضارة التي لم تكن موجودة في المجتمع المكي .
وحين سأل عائشة رضي الله عنها عما فعلت في عرس لم تذكر سوى مراسم تعودت عليها في مكة فوجهها لمراعاة تقاليد المجتمع المدني الذي كان يعجبه الطرب والغناء فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ” أَنَّهَا أَنْكَحَتْ ذَا قَرَابَةٍ لَهَا مِنَ الأَنْصَارِ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : أَهْدَيْتُمُ الْفَتَاةَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ،
قَالَ : فَأَرْسَلْتُمْ مَنْ تُغَنِّي ؟ قَالَتْ : لا ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(( إِنَّ الأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ فَلَوْ أَرْسَلْتُمْ مَنْ يَقُولُ : أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ )).
وفي حادثة تأبير النخل قال ((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) وفي رواية ((أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم )) وفي موقعة الأحزاب استخدم وسيلة دفاع حديثة لم تكن معروفة في ثقافة الجندية وقوانينها العربية وهي حفر الخندق .
والأحداث وشواهد السيرة النبوية التي تحث على الانفتاح على الآخر والاستفادة من أمور الحياة المعاصرة كثيرة وهي تدل بشكل جلي وعملي على إن الإسلام دين انفتاح وإصلاح وليس دين انغلاق وإفساد وهو يجمع بين الأصالة والحداثة والاستفادة من وسائل الحياة العصرية في ثقافة علمية وعملية تفتح آفاق الحرية للفرد والمجتمع لممارسة حياته في إطار شرعي يتسم بالتسامح والتصالح وإعمال العقل وفتح أبواب الحرية المنضبطة التي تحترم إنسانية الفرد بالعقل والعلم وتكوين أجيال حديثة قوية واعدة في ظل تيارات العولمة المتجددة من خلال نظرة وسطية معتدلة تسمو بالجيل المعاصر نحو مشاركة مدنية وعصرية فاعلة وحديثة تجمع بين المادة والروح والتدين والحداثة .
المصدر: الاسلام اليوم.