مقالاتمقالات مختارة

السُنَّة في مواجهة شُبُهات الاستشراق (1)

السُنَّة في مواجهة شُبُهات الاستشراق (1)

بقلم العلامة أنور الجندي -رحمه الله تعالى-

لقد جاءت الحملة الضارية على السُنَّة النبوية كجزء من خطة واسعة من مخطط التغريب والغزو الفكري الواسع المركَّز الذي يستهدف سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والشريعة الإسلامية والقرآن الكريم، والذي كشفت عنه مخططات التبشير والاستشراق منذ أكثر من قرن من الزمان، وقد جُنِّدَ له عدد ضخم من خصوم الإسلام من المستشرقين ومن دعاة التغريب وأتباع مدارس الإرساليات في المشرق محاولة يائسة لتدمير هذه المنابع الأصيلة من الفكر الإسلامي وبخاصة في مجال العقائد والقيم الأساسيَّة التي قام عليها المجتمع الإسلامي.

(لقد جَنَّدَ الاستعمار بعض المستشرقين – كما يقول الدكتور مصطفى السباعي – لتسميم هذا المنبع الروحي، فنصبوا الفخ باسم البحث العلمي والتفكير الحر، وجاء نفر فوقعوا في الفخ، وراحوا يُرَوِّجُونَ بضاعة الغُزاة، إمَّا عن جهل بحقيقة التراث الإسلامي، أو عن انخداع بالأسلوب العلمي المزعوم، وإمَّا عن رغبة في الظهور بمظهر التحرر العقلي وشجاعة الرأي، وإما عن انحراف فكري ووجداني بتأثير الاستهواء).

ويثير الباحثون في هذا المجال إلى أنَّ الحملة على السُنَّة كانت قديمة، وإنَّ الذين جَدَّدُوهَا من المستشرقين ودُعَاةِ التغريب لم يزيدوا عن أنْ أعادوا ترديد الشُبُهات القديمة التي رَدَّدَتْهَا المجوسية والشعوبية ودُعاة التأويل والتشبيه والمتاجرون بالشُبُهات والمفتريات من قديم.

إنَّ هدف الغزو الفكري وحركة التغريب هي هدم مفهوم الإسلام الصحيح الجامع المترابط من القرآن والسُنَّة: بين النص القرآني المُنَزَّلِ، وبين السُنَّة التي يتمثل فيها التطبيق العملي من حيث عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبيانه، وتفصيل لما أجمل، وتوضيح ما بَلَّغَ أو تقييد لمطلق، أو تخصيص لعام: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].

ولقد تعددت جوانب الشُبُهات المثارة حول الشريعة وحول سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وحول القرآن، وقد تولَّى علماء كثيرون دحض هذه الشبهات وكشف زيفها، ثم جاءت في السنوات الأخيرة تلك الدعاوى الزائفة التي تحاول أَنْ تقول: (إِنَّ القرآن وحده يكفي). وقد دأب قوم في السنوات الأخيرة إلى توجيه الاتهامات إلى مصادر السُنَّة ورجالها. وقد كتب هذه الأشياء مستشرقون لهم ولاء ديني معارض ومخالف للإسلام وللمسلمين، وقد اعتمدوا في ذلك على خيوط جمعوها من فكر المعتزلة وغُلاة الشيعة وحكايات الأدب التي كان مؤلفوها موضع الشُبهة في أمرهم وتخريجهم للحقائق، وكانت أبرز مَقَالاَتِهِمْ هي الاعتماد على كتب النوادر والمحاضرات والحكايات التي لم تؤلف لتأريخ الرجال ولم تُصَنَّفْ للتحقيق العلمي، والتي جُمعت من المجالس وكانت مادة للتفكه والتسلية. وهذه لا يمكن أَنْ تُؤْخَذَ منها الأدلة والشواهد، وقد صدق من قال: إِنَّ علم الحديث لا يؤخذ من كتب الفقه، وعلم التفسير لا يؤخذ من كتب اللغة، لأنَّ لكل علم مصادره التي تعرف منها حقائقه وقضاياه.

أما الاعتماد على (حياة الحيوان) للدميري، أو (ثمار القلوب) للثعالبي أو (مقامات) بديع الزمان للفصل في قضايا السُنَّة فذلك هو التزييف الشديد.

ولقد كانت ظاهرة تسجيل أحاديث القُصَّاصِ ونوادر المجالس من السموم الناقعات التي أفسدت العلم الصحيح واعتمد عليها أهل الباطل، حتى قال ابن الجوزي: (ما أمات العلم إلا القُصَّاص). وللسيوطي كتابه (تحذير الخواص من أكاذيب القُصاص)، وقد أورد فيه فصلاً في إنكار العلماء على القُصاص ما أورده من أباطيل.

وحين تُراجع تلك الشبهات المثارة حول السُنَّة فيما أورده محمود أبو رية، أو حول الشريعة الإسلامية فيما أورده علي عبد الرازق، نجد واضحاً أَنَّ النصوص كلها المعتمد عليها مستمدة من كتب الروايات، ونوادر المجالس، لا من كتب السُنَّة أو الفقه، وذلك هو المنهج العلمي الذي قدَّمه المستشرقون وأتباعهم لتزييف المفاهيم الأساسية والأصيلة بالاعتماد على كتب (ألف ليلة وليلة) و (الأغاني) وغيرها من كتب الشُعُوبِيِّينَ واعتبارها مراجع لمُضاهات العلم الصحيح، وإثارة الشُبُهات في وجه الحقائق العلمية الأصلية.

ونحن نجد أَنَّ كل الذين حملوا لواء الشُبُهات حول السُنَّة النبوية قد اعتمدوا على مصدر أساس هو كتاب جولدتسيهر (العقيدة والشريعة) الذي تُرجم وطبع بتوجيه الدكتور طه حسين إبَّان إشرافه على «دار الكاتب المصري» اليهودية، وقد نقل أحمد أمين كثيراً من الشبهات عن الحديث النبوي في كتابيه (فجر الإسلام) و (ضُحَاهُ) كما نقل عنه الدكتور علي حسن عبد القادر في كتابه (نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي).

وقد رَدَّدَتْ هذه الشبهات كُتُبٌ عِدَّةٌ: منها جورجي زيدان في كتابه (تاريخ التمدن الإسلام)، وإبراهيم اليازجي في كتابه (حضارة الإسلام في السلام) وفليب حتي في كتابه (تاريخ العرب المطول)، وَرَدَّدَ هذه الأفكار: كُتَّاب (دائرة المعارف الإسلامية)، وكارل بروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) ومؤلف كتاب (السيادة العربية) (1) وكريمر في كتابه (الحضارة الإسلامية).

ولا ريب أَنَّ هذه المؤلفات كلها تحمل أهواء الاستشراق والغزو الفكري في محاولة انتقاص السُنَّة النبوية، إلى جانب الشريعة والقرآن وتاريخ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والفكر الإسلامي كله، ولا ريب أَنَّ دعوتها إلى إثارة الشبهات حول الحديث النبوي والدعوة إلى الاكتفاء بالنص القرآني عمل خطير، هو محاولة للفصل بين النص والتطبيق في الإسلام، وهو أخطر الجوانب وأهمها:

هذا التطبيق المتمثل في (الأسلوب) الذي اتَّبعه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تنفيذ النص القرآني، ومن هنا فإنَّ النص القرآني وحده لا يكفي المسلمين اليوم، ولا يحقق لهم إسلاماً حقيقياً، هذا فضلاً عن أَنَّ السُنَّة جزء من القرآن بنص القرآن: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

فهذا البيان الذي يفسر للناس ويطبق، هو بإقرار القرآن نفسه جزء أساسي، وحين يراجع الباحث كتابات المستشرقين يجد أَنَّ موقفهم من السُنَّة هو جزء من موقفهم من القرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تماماً، فإنَّ السُنَّةَ هي جزء من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تفسير للقرآن، فلا بُدَّ أَنْ تنالها الشبهات وتصل إليها السموم وعوامل التزييف.

يقول العالم الفرنسي المسلم إتيان دينيه: (إِنَّهُ مِنَ العَسِيرِ أَنْ يَتَجَرَّدَ المُسْتَشْرِقُونَ مِنْ عَوَاطِفِهِمْ وَنَزَعَاتِهِمْ عِنْدَمَا يُؤَرِّخُونَ حَيَاةَ الرَّسُولِ أَوْ يَدْرُسُونَ سُنَّتَهُ).

وقد صَرَّحَ في مقدمة كتابه (تاريخ حياة سيدنا محمد) : (إِنَّهُ مِنَ المُتَعَذََّرِ بَلْ مَنْ المُسْتَحِيلِ أَنْ يَتَحَرَّرَ المُسْتَشْرِقُونَ مِنْ عَوَاطِفِهِمْ وَنَزَعَاتِهِمْ المُخْتَلِفَةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَدْ بَلَغَ تَحْرِيفُ بَعْضِهِمْ لِسِيرَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مَبْلَغاً غَطَّىَ عَلَىَ الوَاقِعِ وَأَخْفَى الصُّوَرَةَ الحَقِيقِيَّةَ، وَذَلِكَ بِالرَّغْمِ مِمَّا يَزْعُمُهُ المُسْتَشْرِقُونَ مِنْ اتِّبَاعِهِمْ لأَسَالِيبِ النَّقْدِ البَرِيئَةِ وَلِقَوَانِينَ البَحْثِ العِلْمِيِّ المُحَايِدِ).

وقد عرض إتيان دينيه لكثير من اتهاماتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وَرَدَّ عليها واتَّخَذَ من (لاَمَنْسْ) مثالاً واضحاً على صحة ما ذهب إليه وحكم به.

تتركز شكوك المستشرقين في السُنَّة حول تأخر تدوين الحديث، فهم يرون أَنَّ تأخر تدوين الحديث الذي بدأ في المائة الثانية للهجرة أعطى فرصة للمسلمين ليزيدوا وينقصوا في الحديث وفي وضع أحاديث لخدمة أغراضهم.

يُرَدِّدُ هذا جولدتسيهر ودُوزِيِ وشبرنجر.

وقد شك جولدتسيهر في صحة وجود صحف كثيرة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، رامياً من وراء ذلك إلى إضعاف الثقة باستظهار السُنَّة وحفظها في الصدور، وهو يرمي أيضاً إلى وصم السُنَّة (أو أغلبها) بالاختلاق والوضع على أَلْسِنَةِ المُدَوِّنِينَ، وهو يزعم أَنَّ هؤلاء المُدَوِّنِينَ لم يجمعوا من الأحاديث إِلاَّ ما يوافق هواهم، ويرى (شبرنجر) في كتابه (الحديث عند العرب) أَنَّ الشروع في التدوين وقع في القرن الهجري الثاني وأَنَّ السُنَّةَ انتقلت بطريق المشافهة.

أما (دُوزي) فهو ينكر نسبة هامة (التركة المجهولة) كما يُسَمِّيهَا من الأحاديث إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد رَدَّ كثير من الباحثين المسلمين داحضين هذه الأهواء المُوغلة في الحقد والخصومة، رَدَّ عليهم مصطفى السباعي، وأبو الحسن الندوي، وصُبحي الصالح وعشرات:

أولاً- ما أورده الدكتور مصطفى السباعي حين قال: (حرص الصحابة رضي الله عنهم على حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونقله وحرص التابعين وتابعي التابعين فمن بعدهم، على نقل هذا الحديث وجمعه وتنقيته من شوائب التحريف والتزيد، وما قام به علماء السُنَّة من جهود جبارة في تتبع الكذابين والوضَّاعين، وفضح نواياهم ودخائلهم، وبيان ما زادوه في السُنَّة من أحاديث مكذوبة، حتى جمعت السُنَّة في كتب صحيحة، وأشبعها النُقَّاد بحثاً وتمحيصاً، ثم خرجوا من ذلك إلى الاعتراف بصحتها والتسليم بها، إذا أمعنت النظر في ذلك كله، أيقنت أنَّ هؤلاء المستشرقين يخبطون في أودية الأوهام، ويتأثرون بأهوائهم [وتعصبهم في الحكم على حقائق يعتبر العبث بها في نظر المحقق المنصف إسفافاً وتلاعباً بالعلم، وإخضاعاً لحقائق التاريخ إلى نظريات الهوى والعصبية](2).

ثانياً- ما أشار إليه السيد أبو الحسن الندوي من أَنَّ الصحابة رضي الله عنهم بدأوا في تدوين الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هناك مجموعات من الأحاديث لعدد من الصحابة منها (الصحيفة الصادقة) لعبد الله بن عمرو بن العاص عنهما، وكان لِعَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه صحيفة، وكان لأنس ولعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، لكل منهم صحيفة، وهناك (صحيفة هَمَّاٍم بْنِ مُنَبِّهٍ، فإذا جمعت هذه الصحف والمجاميع كونت العدد الأكبر من الأحاديث التي جمعت في الجوامع والمسانيد والسُنن في القرن الثالث، وقد تحقق أَنَّ المجموع الأكبر من الأحاديث سبق تدوينه ونسخه من غير نظام وترتيب في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي عصر الصحابة، وقد شاع في الناس حتى المثقفين والمؤلفين أنَّ الحديث لم يكتب ولم يسجل إلاَّ في القرن الثالث الهجري…

وأحسنهم حالاً من يرى أنه كتب في القرن الثاني وما نشاهد هذا الغلط إلاَّ عن طريقين:

الأول: أَنَّ عامة المؤرخين يضطرون إلى ذكر مُدَوِّنِي الحديث في القرن الثاني ولا يُعْنُونَ بذكر هذه الصحف والمجاميع التي كتبت في القرن الأول لأنَّ عامتها فقدت أو ضاعت مع أنها اندمجت وذابت في المؤلفات المتأخرة.

الثاني: أَنَّ المحدثين يذكرون عدد الأحاديث الضخم الهائل الذي لا يتصور أَنْ يكون في هذه المجاميع الصغيرة التي كتبت في القرن الأول؛ مع أَنَّ عدد الأحاديث الصحاح غير المتكررة المتحررة من المتابعات لا يزال قليلاً، فحديث (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) مثلاً يُرْوَى من سبعمائة طريق، فلو جَرَّدْنَا مجاميع الأحاديث من هذه المتابعات والشواهد لبقي عدد قليل من الأحاديث، فـ (الجامع الصحيح) للبخاري لا تزيد الأحاديث التي رويت بالسند الصحيح فيه عن ألفين وستمائة وحديثين. وأحاديث (مسلم) يبلغ عددها أربعة آلاف حديث. ومعظم هذه الثروة الحديثية قد كتب ودُوِّنَ بأقلام رُوَاةِ العصر الأول، وقد يزيد ما حفظ في الكتب والدفاتر كتابة وتحريراً في العصر النبوي وفي عصر الصحابة على عشرة آلاف حديث إذا جمعت في صحف ومجاميع أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وعلي وابن عباس.

وبذلك يمكن أَنْ يقال: إِنَّ ما ثبت من الأحاديث الصحاح وما احتوت عليه مجاميعها ومسانيدها قد كُتِبَ وَدُوِّنَ في عصر الصحابة قبل أَنْ يُدَوَّنَ (الموطأ) و (الصحاح) بكثير.

للمقال تتمة

(المصدر: رابطة العلماء السوريين نقلاً عن أبحاث المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400هـ ، محرم 1400 هـ – الجزء 2)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى