السيرة النبوية.. ليست أحكامًا شرعية!
بقلم شريف محمد جابر
من الأخطاء الفكرية التي حلّت ببعض الإسلاميين في عصرنا عدم التفريق بين أحداث السيرة النبوية وبين الأحكام الشرعية. وأنت لو فتشت في كلام العلماء قديما ستجدهم يركّزون على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة أحكام الشريعة، وتحديدا العبادات، أما في جانب التمكين والسياسة الشرعية فستجدهم يأخذون دروسا وعبرا مستفادة من السيرة، ولكن أحدا منهم لم يتحدث عن ضرورة التمكين للدين باستنساخ الصيرورة التاريخية التي جرى فيها التمكين للرسول صلى الله عليه وسلّم!
بل أضف إلى ذلك أنّهم كانوا أشدّ في الحكم على الروايات الواردة في سنن العبادات والمعاملات، ومتساهلين غاية التساهل في روايات السيرة، وذلك لإدراكهم أن أحداث السيرة بطبيعتها ولارتباطها بوقائع متغيرة ليست مُلزِمة كدين يجب الاقتداء في إقامته بالرسول صلى الله عليه وسلّم، أما الروايات التي تتحدث عن العبادات وسائر أحكام الشريعة فكانوا أكثر تشدّدا فيها، ولم يقبل معظمهم بناء أحكام شرعية على أحاديث ضعيفة.
وسبب ذلك أنّ السيرة النبوية بطبيعتها سلوك مرتبط بزمان ومكان متغيّرين، أما الأحكام الشرعية والعبادات (كالصلاة والزكاة والحج وتحريم الربا والغرر والنجش) فهي مرتبطة بظواهر بشرية ثابتة؛ فالصلاة هي الصلاة، ما دام الإنسان هو الإنسان. وكذلك الربا كانحراف بشري استغلالي، لم يتغيّر بتغيّر طبيعة العالم والمجتمعات والتقنيات، بل ظلت آفاته هي هي.
لم يرفض الرسول الهيكل الاجتماعي الذي تتحرك من خلاله المجتمعات المعاصرة له، ولم يحاول اختراع العجلة من جديد، بل انخرط في نظام النصرة القبلية من خلال مبايعة سادات القبيلة ليصل إلى التمكين وحماية الدعوة |
أما أحداث السيرة والتي يمكن اعتبار “السعي إلى التمكين” محورها الأساسي فهي مرتبطة بمتغيّرات عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
* الطبيعة القبلية لمجتمعات الجزيرة العربية في ذلك الوقت.
* فكرة الجوار كأحد مميزات المجتمع العربي في ذلك الوقت.
* الاستجابة القرشية الرافضة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، مما دفعه للبحث عن بدائل أخرى للتمكين لهذا الدين من خلال طلب النصرة من القبائل، دلّ على ذلك أحداث الفترة المكية كلها وقوله صلى الله عليه وسلّم في مكّة “ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت”. مما يدلّ على كون الحركة السياسية في السيرة هي حركة مستجيبة للواقع ومتفاعلة معه (بوحي أو باجتهاد، لا خلاف).
* وجود النجاشي الذي لا يُظلم عنده أحد ونظامه كحدث تاريخي مكّن من القيام بخطوة سياسية تحمي الدعوة في سيرها للتمكين.
هذه الأحداث والوقائع والظروف وغيرها كانت خاصة بتلك المرحلة، ومن ثم كانت الحركة النبوية الساعية للتمكين مأطورة بهذا الواقع الذي تتحرّك فيه ومستخدمة لأدواته، ومن هنا فإنّ الاقتداء بالحركة النبوية الساعية للتمكين يكون بأخذ دروس وعبر مستفادة منها، ولا يمكن اعتبار جميع الأفعال النبوية والأدوات التي استخدمتها في طريق التمكين أحكامًا شرعية كما نعتبر أفعاله صلى الله عليه وسلّم في الصلاة أحكامًا شرعية!
وكمثال على الدروس المستفادة من السيرة: أنّنا حين نتتبّع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم منذ العهد المكي وحتى فتح مكة سنجده يطرق جميع الأبواب المتاحة، دون التنازل عن الدين، بهدف التمكين. ومن الدروس أننا نجده يختبر البدائل الممكنة بعقلية السياسي (الموجّه بالوحي أو المجتهد، أيهما شئت) الذي ينظر إلى مآلات أي خطوة.
ومن ذلك ما فعله في معاهدة الحديبية مع قريش، وكذلك ما فعله قبل ذلك حين أراد طلب النصرة من بعض القبائل ولم توفر له الشروط المناسبة لإقامة وضع تمكين له سيادة يمكنه أن ينطلق منه إلى الدعوة العالمية، مما جعله يرفض الاستعجال وينتظر خيارا أفضل حتى جاء خيار الأنصار.
ومن ذلك أنّه لم يرفض الهيكل الاجتماعي الذي تتحرك من خلاله المجتمعات المعاصرة له، ولم يحاول اختراع العجلة من جديد، بل انخرط في نظام النصرة القبلية من خلال مبايعة سادات القبيلة ليصل إلى التمكين وحماية الدعوة، وقبل ذلك اقتنص نظام الجوار الذي كان من منظومة تلك المجتمعات ليحمي دعوته.
يمثّل التفوّق الجوّي والصاروخي لدى أعداء هذه الأمة فجوة عسكرية عميقة جدّا، ليس من السهل تداركها وليس من السهل تجاهلها أيضا
والأهم من ذلك أنّه أدرك بالضبط ما الذي يجب السيطرة عليه حتى يكون الوضع وضع تمكين، وهو الدرس النبوي الذي لم يفقهه بعض الإسلاميين المعاصرين، فغفلوا مثلا عن كون الوضع المقابل للنصرة القبلية في واقعنا المعاصر هو السيطرة على مفاصل الدولة الموجودة فعلا اليوم والتي يسيطر عليها أذناب أمريكا وأوروبا من الطغاة، بما فيها من وزارات وأمن وشرطة وجيش وبنوك وإعلام.
ولذلك حين حاولت داعش إعادة استنساخ التاريخ وإعلان الدولة من خلال بيعة بعض القبائل في العراق والسيطرة على أكبر مساحة من الأراضي دون النظر في مآلات ذلك.. حين حاولت إعادة تمثيل مشهد التاريخ فشلت فشلا ذريعا؛ لأنها امتدت تمددا أفقيّا فسيطرت لحظيا على نصف العراق وثلثي سوريا تقريبا! ولكن بقيت “الدولة” في سوريا مع بشار الأسد، وبقيت “الدولة” في العراق مع الملالي وأذنابهم.. وسرعان ما اضمحل هذا الوضع الشائه لداعش والذي ظنّ بعض السذّج أنه يمثّل تمكينًا حقيقيا؛ لأنّه لم يأخذ بالأسباب الواقعية للتمكين ولم يفكر أصحابه تفكيرا ينطلق من معرفة الواقع ومفاصل القوة فيه، بغض النظر بطبيعة الحال عن انحرافات داعش الفكرية والشرعية والتي ناقشتها في كتابي “الخطاب المريض”.
وكذلك الأمر يتم إغفال ما جدّ في هذا الواقع الذي نعيشه مما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم قبل التمكين، وهو أنّ هذه الأنظمة المفروضة على هذه الأمة بقياداتها العسكرية موضوعة للحيلولة بين الأمة وبين التمكين والنهوض، بينما لم يكن حال الأنصار أو غيرهم من القبائل قبل الإسلام هكذا، أي لم تكن لديهم عداوة مسبقة، ولم تُشكّل قبائلهم كي تحول بين النبي وبين التمكين للإسلام.
وممّا يتم إغفاله أيضا ممّا جدّ في الواقع المعاصر اتساع الفجوة التقنية في المجال العسكري، فصحيح أن الفرس والروم كانوا إمبراطوريّتين كبيرتين بجيوش نظامية لها تكتيكاتها، مقابل قبائل متفرقة اعتادت على غارات السلب والنهب، ولكنّ هذا الوضع لم يكن من الصعب استدراكه؛ إذ لم تكن الأسلحة تتعدى السيف والرمح والسهم والمنجنيق، وكان بوسع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص أن يستدركا بسهولة الفجوة المتمثّلة بتنظيم الجيش وتكتيكاته القتالية، وأما العدد فكان العرب كثير، وكانوا قادرين على مكافحة هذه الإمبراطوريات.
أحداث السيرة النبوية ليست أحكاما شرعية ملزمة كما هو حال أحكام العبادات والمعاملات الثابتة، بل هي تجربة تاريخية يقودها الوحي، مأطورة بظروف واقعية مختلفة |
أما اليوم، فيمثّل التفوّق الجوّي والصاروخي لدى أعداء هذه الأمة فجوة عسكرية عميقة جدّا، ليس من السهل تداركها وليس من السهل تجاهلها أيضا. ومن ثم لم يعد بالإمكان تخيّل الوصول إلى الحكم والبدء بمحاربة كبرى دول العالم كما حدث في العهد النبوي، بل تحتاج الأمة إلى مراحل تحاول فيها بناء قوتها وقدراتها الدفاعية قبل أن تفكر في إتمام تحقيق دورها في أن تكون شهيدة على الأمم، تقودها إلى الخير والصلاح.
وكثير من الأنظمة المعاصرة التي استطاعت امتلاك الصواريخ العابرة للقارات والرؤوس النووية وتصنيع الأسلحة الثقيلة، لم تكن قادرة على فعل ذلك لولا جهود من المداراة والامتناع عن استعداء القوى الإقليمية والدولية في مرحلة النشأة الرخوة، مع تفعيل جهود الدبلوماسية والعلاقات الدولية من جهة، وبناء قوة الدولة واكتساب الخبرات ونقل التكنولوجيا من جهة أخرى.
والخلاصة أنّ أحداث السيرة النبوية ليست أحكاما شرعية ملزمة كما هو حال أحكام العبادات والمعاملات الثابتة، بل هي تجربة تاريخية يقودها الوحي، مأطورة بظروف واقعية مختلفة في كثير من تفاصيلها عن ظروفنا الواقعية، ومن ثم سيكون من السذاجة أخذ تلك الوقائع كأحكام شرعية بشكل حرفي والغفلة عن الدروس والعبر المستفادة منها، والتي تمثّل مجال القدوة لنا؛ إذ ليس الاقتداء بتقليد الخطوات التي كانت مخصصة لمواجهة واقع مختلف في تفاصيله، بل الاقتداء يكون باستخلاص الدروس والعبر والفوائد النبوية في مواجهة الواقع وفي السعي للتمكين للأمة.
ولقد وصفتْ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الفاروقَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقولها: “من رأى عمرَ بن الخطاب عرف أنه خُلق غناء للإسلام، كان والله أحوذيًّا، نسيجَ وحدِه، قد أعدّ للأمور أقرانها” (معرفة الصحابة لأبي نعيم). والأحوذي – أو الأحوزي – كما قال العلماء: هو الذي احتاز الأمور برأيه، أو هو الحسن السياق للأمور. وانتبه إلى قولها “قد أعدّ للأمور أقرانها”، أي أنّه يواجه الواقع بما يناسبه من إجراءات، كما يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتابه “معالم في الطريق”: “والسمة الثانية في منهج هذا الدين: هي الواقعية الحركية، فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظريّات مجرّدة كما أنّه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمّدة”.
(المصدر: مدونات الجزيرة)