مقالات

السياسة الشرعية: مبادئ ومفاهيم.. ضوابط ومصادر

بقلم د. أكرم كساب

(1) مدخل في تعريف (السياسة الشرعية)

تعريف السياسة:

السياسة لغة:
جاء في (تهذيب اللغة) السَّوْس: الرياسة؛ يُقَال: ساسوهم سَوْساً.
وقال صاحب: (لسان العرب): سَاس الأَمرَ سِياسةً: قَامَ بِهِ، وَرَجُلٌ ساسٌ مِنْ قَوْمٍ سَاسَةٍ وسُوَّاس؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:
سادَة قَادَةٌ لِكُلِّ جَمِيعٍ ساسَة لِلرِّجَالِ يومَ القِتالِ
وَيُقَالُ: سُوِّسَ فلانٌ أَمرَ بَنِي فُلَانٍ أَي كُلِّف سِياستهم. وسُوِّسَ الرجلُ أُمور النَّاسِ إِذا مُلِّكَ أَمرَهم .
ثلاثية لغوية متكاملة في معاني السياسة:
ويلاحظ هنا أن المعنى اللغوي للسياسة يشمل ثلاثية رائعة:
1- الملك والرياسة والولاية.
2- التدبير والإصلاح والرعاية.
3- الترويض والتأديب والتذليل.
ولهذا فإن الحاكم الذي لا يحقق هذه الثلاثية المبدعة من تحقق: رياسة وولاية، وإصلاح ورعاية، وتأديب وتذليل؛ لا يعد حاكما ناجحا؛ بل هو والفشل سواء.

السياسة في الاصطلاح:
وللسياسة في الاصطلاح تعاريف عدة، حسب من قام بتعريفها، وأذكر منها ما يأتي:

أولا: عند علماء الغرب وفي معاجمهم:
عرف الغربيون السياسة بتعريفات عدة:
فقالوا: هي: فن إدارة المجتمعات الإنسانية.
وقيل: أفعال البشر التي تتَّصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن دائما: استخدام القوة، أو النضال في سبيلها .
وقيل: علم أو فنّ حكم الدول .
ملاحظات على هذه التعريفات:
ويلاحظ على هذه التعريفات أنها:
1. تؤكد تحقيق المصلحة للأفراد والمجتمعات.
2. لا ترتكز على مرجعية أو أيدلوجية معينة.
3. لا تراعي الجانب الأخروي.
4. المجتمع عندها يشمل الأفراد والحكام.
5. تبرز الكياسة والفنّ في إدارة الحكم.
6. تبرز أكثر ما تبرز دور الحاكم وما يصدر عنه.

ثانيا: عند علماء المسلمين:
لا يمكن القول بأن علماء الأمة كانوا بعيدين في يوم من الأيام عن السياسة قولا أو عملا. إذ الحديث عنها كان مبكرا، ولقد مارسها الصحابة ممارسة عملية قبل أن يبحث الفقهاء أحكامها، وقبل أن يستنبط الأصوليون قواعدها؛ بل كان استنباط الفقهاء والأصوليين لأحكامها وقواعدها من خلال عمل الصحابة الكرام عليهم رضوان الله، وهذا لا شك بعد ما جاء عنها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وللسياسة تعريفات متعددة عند علماء المسلمين كذلك، ومن أنضج هذه التعريفات وأشملها ما يأتي:
عرّفها المقريزي بأنها: القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال .
وقال البجيرمي: إصلاح أمور الرعية، وتدبير أمورهم .
وقال أبو البقاء الحنفي: هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل .

للسياسة معنيان عند القدماء:
والحق أن مسمى السياسة عند العلماء –من القديم- يطلق على معنيين يشمل أحدهما الآخر، ذكرهما القرضاوي في كتابه (السياسة الشرعية):
الأول: (عام): وهو تدبير أمور الناس وشؤون دنياهم بشرائع الدين…
الثاني: (خاص): ما يراه الحاكم من الأحكام والقرارات، زجرا عن فساد متوقع، أو علاجا لوضع خاص .
ومن ذلك ما ذكره بعض الفقهاء في تغريب الزاني، وإحياء الأرض الموات، وتقسيم الأرض المفتوحة، وما كان من معاقبة عمر لنصر بن حجاج، وتحريق عثمان للمصاحف، وغيره من الوقائع والأحداث التي سنذكرها فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
ملاحظات على هذه التعريفات:
ويلاحظ على هذه التعريفات أنها:
1. تؤكد تحقيق المصلحة للأفراد والمجتمعات.
2. ترتكز على مرجعية أو أيدلوجية معينة (الإسلام).
3. تراعي الجانب الأخروي.
4. المجتمع عندها يشمل الأفراد والحكام.
5. تبرز الكياسة والفنّ في إدارة الحكم.
6. تبرز أكثر ما تبرز دور الحاكم وما يصدر عنه.
7. أن السياسة هنا هي السياسة الشرعية لا غيرها من السياسات الجائرة والظالمة.

الادعاء بأن (لفظ سياسة) دخيل على اللغة العربية:
زعم البعض أن لفظة سياسة ليست عربية أصيلة، ولكنها لفظة فارسية، أو مغولية، ومن هؤلاء:
1. المقريزي صاحب (الخطط): حيث يقول: وإنما -أي السياسة- هي كلمة مغوليّة، أصلها ياسه، فحرّفها أهل مصر وزادوا بأوّلها سينا فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظنّ من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلّا ما قلت لك .
2. صاحب (النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة): ففي حديثه عن جنكيز خان قال: هو صاحب «التورا» و «اليسق»، وقد أوضحنا أمره فى غير هذا الكتاب، وذكرنا أصله واعتقاد التتار فيه وأشياء كثيرة. و«التورا» باللغة التركية هو المذهب، و «اليسق» هو الترتيب، وأصل كلمة «اليسق» «سي يسا»، وهو لفظ مركّب من أعجمىّ وتركىّ، ومعناه: التراتيب الثلاث، لأنّ «سي» بالعجمى فى العدد ثلاثة، و «يسا» بالتركي: الترتيب؛ وعلى هذا مشت التتار من يومه إلى يومنا هذا، وانتشر ذلك فى سائر الممالك حتّى ممالك مصر والشام، وصاروا يقولون: «سى يسا» فثقلت عليهم فقالوا: «سياسة» على تحاريف أولاد العرب فى اللغات الأعجمية .

كلمة سياسة عند العرب قبل الإسلام:
وما ذكره صاحب (النجوم الزاهرة) غير صحيح، فالقارئ يرى ما ذكره علماء اللغة في معاجمهم من أصل الكلمة وتصريفاتها، بل اللفظة معروفة في لغة العرب قبل الإسلام، فها هي حرقة ابنة النعمان بن المنذر دخلت على معاوية بن أبي سفيان، فقال لها: أخبريني عن حالكم كيف كانت؟ قالت: أطيل أم أقصر؟ قال: لا، بل أقصري. قالت: أمسينا مساء وليس في العرب أحد إلا وهو يرغب إلينا، وهو يرهب منا، فأصبحنا صباحا وليس في العرب أحد إلا ونحن نرغب إليه، ونرهب منه، ثم قالت:
فبينا نسوس الناس في كل بلدة إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف
رد العلماء على صاحب (ابن تغري) و (المقريزي):
وقد رد العلماء على دعوى (صاحب النجوم الزاهرة) من أن كلمة (سياسة) معربة، فهذا شهاب الدين الخفاجي يقول: وهذا غلظ فاحش فإنها لفظة عربية متصرفة تكلموا بها قبل خلق جنكيز خان وعليه جميع أهل اللغة .
وقال مثله صاحب (خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب) حيث قال: وهذا شيء لا أصل له، فإنها لفظة عربية متصرفة تكلمت بها العرب قبل أن يخلق جنكز خان فإنه كان في تاريخ الستمائة وصاحبة هذا البيت:
فبينا نسوس الناس في كل بلدة إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
قبله بأربعمائة سنة .

تعريف الشرعية:

الشريعة في اللغة:
الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شيء يفتح في امتداد يكون فيه. من ذلك الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء . وقال الراغب في ( مفردات القرآن ): الشَّرْع: نهج الطريق الواضح . يقال شرعتُ له طريقا، والشرع مصدر . ثم جعل اسما للطريق النهج، فقيل له: شِرْع وشَرْع وشريعة . واستعير ذلك للطريقة الإلهية .
لماذا سميت الشريعة بهذا الاسم؟
وقال بعضهم: سُمِّيَت الشريعة شريعة، تشبيها لها بشريعة الماء، من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة المصدوقة رَوِيَ وتطهر. قال: وأعني بالري: ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب، فلا أرْوَى، فلما عرفت الله تعالى رَويتُ بلا شرب! وأعني بالتطهر: ما قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب/33] .
وهذا يعني أن الشريعة في اللغة تفيد:
أ‌- البيان والوضوح والنهج الواضح.
ب‌- الريّ والتطهير.
ت‌- المساواة.
ث‌- الرفعة.
وهذا كله حاصل في شريعة الله تعالى، فهي بينة واضحة، مشبعة مطهرة، ذات رفعة تدعو للمساوة.

الشريعة في الإصطلاح:
قال القرطبي: الشريعة ما شرعه الله لعباده من الدين .
وقال ابن تيمية: الشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هى كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة؛ فى العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات .
وقال ابن الأثير: الشريعة ما شَرَع اللّه لِعبادِه من الدِّين .
وقال شلتوت: اسم للنظم والأحكام التي شرعها الله، أو شرع أصولها، وكلف المسلمين إياها ليأخذوا أنفسهم بها في علاقتهم بالله وعلاقتهم بالناس .
وقال سيد سابق: الشريعة هي مجموعة الأحكام المأخوذة من الكتاب والسنة والاجتهاد .
وزاد القرضاوي المصادر الفرعية فقال: الشريعة؛ ما شرعه الله من الأحكام الثابتة بالأدلة من الكتاب والسنة، وما تفرع عنها من الإجماع والقياس والأدلة الأخرى .
وقال عبد الكريم زيدان: هي الأحكام التي شرعها الله لعباده، سواء أكان تشريع هذه الأحكام بالقرآن أم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير .
التعريف المختار: ويمكن القول بأن الشريعة هي: الدين بتمامه وكماله وشموله ووسطيته؛ المأخوذة من المصادر المعتبرة، المحققة لمصالح الإنسان كل الإنسان، المعمرة للكون والمراعية لما فيه.
السياسة الشرعية:
عرفت السياسة الشرعية بتعريفات عدّة، والعلماء في ذلك بين مضيق وموسع، -وسأذكر ذلك لاحقا- وسأذكر هنا بعض هذه التعريفات ثم أخلص إلى التعريف الأنسب.
قال ابن نجيم: فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد في ذلك الفعل دليل جزئي .
وعرّف ابن عقيل الحنبلي السياسة الشرعية فلم يجعلها قاصرة على فعل الحاكم، بل أطلقها كل فعل فقال: هي ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي .
وقال عبد الرحمن تاج: هي اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شئون الدولة الإسلامية في حكومتها وتشريعها وقضائها، وفي جميع سلطاتها التنفيذية والإدارية، وفي علاقاتها الخارجية التي تربطها بغيرها من الأمم .
وقال عبد الوهاب خلاف: هي علم يبحث فيما تدبر به شئون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص .
وقال يوسف القرضاوي: هي السياسة القائمة على قواعد الشرع وأحكامه وتوجيهاته .
وقال عبد العال عطوة: هي الأحكام والنظم التي تدبر بها شؤون الأمة الإسلامية، مع مراعاة اتفاقها مع روح الشريعة، وقيامها على قواعدها الكلية، وتحقيقها لأغراضها الاجتماعية .
وقال سعد بن مطر العتيبي: كل ما صدر عن أولي الأمر من أحكام وإجراءات منوطة بالمصلحة، فيما لم يرد بشأنه دليل خاص متعين، دون مخالفة للشريعة .
ويلاحظ هنا: أن معظم هذه التعريفات تتعلق أكثر ما تتعلق بأحكام وقررات الحاكم، ونظم الدولة، وأقرب ما يكون هذا إلى الأحكام السلطانية، وليست السياسة الشرعية هذا فقط، وإنما ذلك بعض من السياسة الشرعية.

خلاصة القول في تعريف السياسة الشرعية:

وبعد التطواف بين تلك التعريفات المختلفة، القديم منها والمعاصر، والموسع منها والمضيق يمكننا أن نقول: إن السياسة الشرعية هي: تلك القرارات والأحكام التي تصدر من ولي الأمر (حاكما أو عالما) فيما جاء به النص، بحسن تطبيقه وتنزيله، وفيما لا نص فيه بما يحقق للأمة مصلحتها مع مراعاة مقاصد الشريعة، وتجنب مخالفتها.
وهذا يعني: أن هذه السياسة الشرعية: أساسها الشريعة، ومرتكزها العقيدة، تعززها العبادات، وتحوطها الأخلاق من كل جانب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى