السياسة البلقيسية والسياسة الفرعونية في الميزان (1-2)
بقلم محمد عبد الرحمن صادق
إن من واجب المسلم أن يفهم الدين بمفهومه الشامل فلا يأخذ منه جانباً دون آخر، بل على المسلم أن يأخذ الدين من كل جوانبه ثم ينطلق فيها حسب توفيق الله تعالى له، وعليه أن إذا هبَّت رياحه في جانب من جوانب الدين أن يغتنمها.
إن من ينظر لحال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يجد أن منهم من أتقن الفقه كابن عباس، ومنهم من انطلق في الدعوة كمصعب ابن عمير، ومنهم من تخصص في القضاء كالإمام علي، ومنهم من أبدع في الجهاد كخالد بن الوليد، ومنهم من أتقن دروب السياسة مثل أبي سفيان بن حرب وغيرهم كثيرين رضي الله عنهم أجمعين.
إن من واجب المسلم أن إذا أتقن جانباً من جوانب الدين أن يطلع على مثيله في الحضارات والثقافات والمجتمعات الأخرى ليكون مُلمَّا بخبرات وتجارب الآخرين، ولكي يتعرف على مزايا ومثالب الآخرين، فـ ” الكلمةُ الحِكْمَةُ ضالَّةُ المؤمنِ، فحَيْثُ وجدها فهو أَحَقُّ بها” (الجامع الصغير).
يقول الشاعر
لا تحقِّـرن الرأي وهو مُوافـق حكم الصَّواب إذا أتى من ناقص.
فالـدر وهـو أعـز شيء يُـقتنى مـا حـط قيمته هـــوان الغــائـِص.
ومن هذا المنطلق أردنا أن نضع نظامين من نظم السياسة في الميزان وهما السياسة البلقيسية والسياسة الفرعونية، لما في ذلك من فائدة عظمى.
يقول الدكتور أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:
“من تديَّن ولم يتسيّس؛ فقد ترهبن، ومن تسيَّس ولم يتديَّن؛ فقد تعَلْمَن، ومن جمع بينهما؛ فقد تمكَّن”.
ويقول نجم الدين أربكان رحمه الله
“الإسلاميون الذين لا يهتمون بالسياسة، يحكمهم سياسيون لا يهتمون بالإسلام”.
توطئة
إن العامل المشترك بين السياسة البلقيسية والسياسة الفرعونية هو أنهما وجدا في مجتمع مشرك لا يؤمن بالله تعالى، إلا أن السياسة البلقيسية اتصفت بالعقل والحكمة والفطنة والدهاء وجماعية اتخاذ القرار في إدارة شؤون البلاد، بينما السياسة الفرعونية لم تؤمن بكل ذلك واعتمدت على سياسة حكم الفرد وتسلطه واستبداده وأن الحكمة كل الحكمة فيما يرى والصواب كل الصواب فيما يُقرره من قرارات في إدارة شؤون البلاد!
ومن هنا يمكننا أن نقول أن السياسة البلقيسية في مواجهة السياسة الفرعونية مثلها مثل ظاهرة المد التي تكون دائماً في علو وارتفاع، في مواجهة ظاهرة الجزر التي دائماً ما تكون في انخفاض وسفال.
أولاً: السياسة البلقيسية
قال تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32].
قال الزمَخشري في أساس البلاغة: “الملأ: الأشراف الذين يتمالؤون في النوائب”.
وقال المناوي: “الملأ: هم الذين يملؤون العيونَ بهجةً والقلوبَ هيبة”.
قال الإمام السعدي رحمه الله: “فمن حزمها وعقلها أن جمعت كبار دولتها ورجال مملكتها وقالت: “يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي”.
وجاء في تفسير القرطبي: “قال ابن عباس: كان معها ألف قيل. وقيل: اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف. والقيل الملك دون الملك الأعظم. فأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أن ذلك مُطرد عندها في كل أمر يعرض، “مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ” فكيف في هذه النازلة الكبرى. فراجعها الملأ بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلَّموا الأمر إلى نظرها، وهذه مُحاورة حسنة من الجميع” اهـ.
وقال قتادة: ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً هم أهل مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف.
وفي تفسير القرطبي أيضاً: “والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس: “قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ” لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عوناً لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: “نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ” قال ابن عباس: كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته.
جاء في كتاب (التيجَان في مُلوك حِمْيَرْ) لـ ” عبد الملك المعافري”، قال: “وكان معها ثلاثمائة وستون امرأة من بنات أشراف حِمير، وكانت تحبس الجارية حتى تبلغ، ثم تحدثها حديث الرجال فإذا رأتها قد تغيَّر لونها ونكَّست رأسها عرفت أنها أرادت الرجال فسرَّحتها إلى أهلها ووصلَّتها وزوَّجتها وأحسنت إليها ولا تزوجها إلا من أشراف قومها، وإذا رأتها مُستمعة لحديثها مُعظمة لها أطالت النظر غير متغيرة اللون ولا مستحية من الحديث علمت أنها لا تريد فراقها وإن الرجال ليسوا من بالها، فكانت بلقيس صائنة لنفسها غير واقعة في المساوئ ولا غافلة عن المكارم” اهـ.
إن السياسة البلقيسية عظمت أمر القادة، وأكرمت الشعب، وعملت على ترجيح المصلحة العُليا للوطن.
والسياسة البلقيسية جنّبت المملكة ويلات الحرب التي تجعل أعِزَّة القوم أذلة.
والسياسة البلقيسية أدت إلى هداية الملكة إلى الصواب وخروجها من ظلمات الوثنية إلى نور الإسلام .
والسياسة البلقيسية حكَّمت العقل والمنطق، كما عظمت الأصول والمباديء، ولم تخاطر بمستقبل بلادها ولا باستقرار ومصالح شعبها.
إن من أهم أسباب نجاح السياسة البلقيسية هي البطانة الصالحة الناصحة التي قالت: “نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ”.
إن مضمون ما قالته هذه البطانة الصالحة الناصحة هو أنهم قوة ردع لا تضعف ولا تجبن ولا تتخاذل، كم أنهم احترموا حِنكتها في إدارة شؤون المملكة فقالوا: “وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ”.
إن قادة الجيوش حين يعرفوا وظيفتهم الأساسية يُبدعون فيها ويكونوا صمام أمان لبلادهم لا مصدر تهديد لها .
إن قادة جيش بلقيس يعترفون أن السياسة ليست دورهم ولا تخصصهم وهذا لا يعيبهم لأنهم تربوا على تنفيذ أوامر القادة التي تم دراستها جيداً وفق ما تحتم المصلحة العُليا للوطن.
إن السياسي له رؤيته الواسعة والشاملة على عكس الجندي الذي مهمته تتلخص في تنفيذ ما يُملى عليه داخل الميدان.
ثانياً: السياسة البلقيسية علمتنا!!
إن سياسة بلقيس علمتنا أنّ الرعية ليستْ قطيعًا يملكه الحاكم ويتصرف فيه كيفما يشاء، بل أناس لهم حقوق لابد من مراعاتها واحترامها، وأن كرامة الرعية من كرامة من يحكمها.
وعلمتنا أيضاً أنّ الحاكم العادل تسعد به رعيته أيَّما سعادة، وأن الحاكم الغاشم تشقى به رعيته أيَّما شقاء.
وعلمتنا أن الرجوع للحق فضيلة، وأن من الشجاعة والفطنة وقوة الشخصية أن ينتصف الحاكم العادل من نفسه مهما كان سلطانه، وأن يرضخ لما فيه الخير لنفسه ولرعيته.
وعلمتنا الثبات الانفعالي في أصعب المواقف وأحلكها، فبالرغم من أن مملكة بلقيس كانت مُهددة تهديداً يقوِّض عرشها إلا أنها لم تتفوَّه بكلمة تخرج عن إطار الخطاب السياسي الرَّاقي، ولم تتخذ قراراً أرعناً يجر عليها وعلى مملكتها ويلات الخسران والندم.
وعلمتنا كيفية تفعيل وترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات فلم تخلط بين القوة التنفيذية والعسكرية وبين أجهزة الشورى واتخاذ القرار.
وعلمتنا مراعاة المصلحة العامة وتقديم مبدأ السِّلم على مبدأ الحرب، لذلك لم ترد على خطاب نبي الله سليمان بلهجة عدوانية ولا استفزازية ولكنها سلكت طريق الحنكة السياسية.
وعلمتنا كيف يكون التصرف الحكيم في مواجهة الردع الذي لا ينفع معه حيلة ولا ينطلي عليه مكر ولا دهاء ولا تقف أمامه قوة، فاتخذت بلقيس قراراً في غاية التعقيد والصعوبة وذلك بالدخول تحت إمرة سليمان، وهي توقن أن معنى ذلك هو تنازلها عن عقيدتها وعقيدة شعبها والانصياع لعقيدة التوحيد.
إن ما تعلمناه من السياسة البلقيسية أكثر من يحويه موضوع كهذا، وتكفي شهادة هدهد سليمان لها حين قال: “وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ”، فهذا يفيد تمام الهيمنة والسيطرة وقوة التحكم في زمام الأمور، وحين قال: “وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ”، وهذا يفيد امتلاكها لكل أسباب القوة والمنعة المادية والمعنوية، وكل أسباب النعيم لها ولقومها، وحين قال: “وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ” فهذا يعني أن عرشها ليس كالعروش المعهودة والمعروفة في زمانها.
إن كل العبارات والأوصاف التي وردت في شأن الملكة بلقيس لم يرد مثلها في وصف ملكة من الملكات ولا مملكة من الممالك على مر العصور.
أخيراً أقول
إن بلقيس بالرغم من كونها أنثى تحكم مملكة مَهيبة الأركان، وبالرغم من كونها لم تكن تعبد الواحد الدَّيان، إلا أنها عرفت كيف تصل بمملكتها إلى بر الأمان بما أودعه الله تعالى فيها من حكمة وفطنة ودهاء، وبما أراده لها ولمملكتها من خير يُخلد ذكرها على مر الأزمان.
(المصدر: موقع بصائر)