إعداد أحمد يوسف
تشهد عملية تهويد القدس تناغماً واضحاً بين التصعيد الحاصل في الكيان الصهيوني وما يجري على المستويين الرسمي والإعلامي في الولايات المتحدة الأمريكية. فاستمرار تنفيذ إجراءات تهويد المدينة ومحاولة طمس معالمها التاريخية العربية والإسلامية على يد حكومة نتنياهو يقابله في واشنطن تنسيق مدروس يأخذ منحى أبعد من الدفاع عن سياسة تلك الإجراءات، فقد أصبحت المعركة مفتوحة على كافة الأصعدة. وقد صدرت العديد من قرارات الإدانة التي أجمعت عليها الكثير من دول العالم، إلا إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة التي خرجت عن الإجماع الدولي، حيث يقوم مؤيدو الكيان الصهيوني وأصدقاؤه في الكونغرس أو في الإعلام بأدوارهم في تلك المعركة.
إن من المحزن رؤية واشنطن وهي تدعي حرصها على عملية السلام، إلا إنها في الوقت نفسه ترسل إشارات للكيان الصهيوني للمضي قدماً في مشروعاته الاستيطانية بالقدس الشرقية! فالذي يتابع هذا الكم الهائل من المغالطات والتناقضات في الخطاب والفعل الأمريكي تلاحقه مجموعة من التساؤلات الحائرة، والتي لا تجد لها بصدق إجابات مقنعة في خريطة التحركات السياسية العربية السائرة باتجاه التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني.
فماذا يعني الموقف الأمريكي المعارض بشدة لاتخاذ أي قرارات دولية بإدانة الكيان الصهيوني في الوقت الذي تبدي فيه واشنطن امتعاضها لسياسات حكومة نتنياهو الاستيطانية بالقدس الشرقية؟!
وهل يمكن القول بعد تكرار الفيتو الأمريكي في وجه الشرعية الدولية أن واشنطن تحظى بأي مصداقية في ادعائها بأنها الراعي الأمين لعملية السلام؟!
وهل يقبل الفلسطينيون – وهم يشهدون تعاطف المجتمع الدولي معهم – بمنطق أمريكا المتحيز جداً للكيان الصهيوني، والقاضي بإلزامهم بالجلوس فقط مع المحتل، فيما يتعامل الكيان الصهيوني معهم بعقلية القهر، وسياسة الإملاءات، وأسلوب الجرافات؟!
وهل بالإمكان التصديق بأن واشنطن تلعب دوراً غير دور «الخصم والحكم»، ذلك الدور الذي يرسمه الساسة (الصهاينة) في الخارجية الأمريكية، ويمارسون به ضغوطاً مجحفة على الطرف الفلسطيني للتسليم به وقبوله؟!
وحتى يتسنى لنا فهم حقيقة الموقف الأمريكي من قضية القدس، لا بد لنا من مراجعة سريعة لاتجاهات السياسة الأمريكية عبر المراحل التاريخية المختلفة، والتي كانت تعكس – دائماً – تحيزاً واضحاً لصالح الكيان الصهيوني وخططه الإستراتيجية لتهويد المدينة المقدسة.
القدس.. الوضع القانوني وسياسة الولايات المتحدة:
منذ منتصف القرن التاسع عشر، دأب منظرو الحركة الصهيونية على التأكيد لليهود في مختلف أنحاء العالم أن هدف الصهيونية هو احتلال القدس وجعلها عاصمة للكيان الصهيوني، وعندما عرضت المشكلة الفلسطينية على هيئة الأمم المتحدة سنة 1947م شغلت القدس حيزاً بارزاً منها، ففي قرار التقسيم رقم 181 الصادر في شهر نوفمبر من العام نفسه، نص القرار على أن تدويل القدس هو أفضل وسيلة لحماية جميع المصالح الدينية بالمدينة المقدسة، ولكن مع نشوب حرب 1948م ضغطت قوات الكيان الصهيوني باتجاه القدس، واستطاعت تحقيق نصف الحلم الصهيوني في القدس، إذ احتلت 66٫2% من المساحة الكلية لمدينة القدس، ولكن البلدة القديمة وما فيها من مقدسات ظلت في أيدي العرب، وأعلن الكيان الصهيوني القسم الذي احتلته قواته – أي القدس الغربية – عاصمة له، أما القسم الشرقي من المدينة فقد ضمه الأردن. إلا إن المجتمع الدولي لم يعترف لا بإعلان القدس الغربية عاصمة لإسرائيل ولا بإعلان أردني مماثل صدر بشأن القدس الشرقية سنة 1960م. واستمرت الأمم المتحدة على تأكيدها للقرار 181 القاضي بتدويل القدس، وكانت الولايات المتحدة قد رفضت الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وظلت عند موقفها السابق المؤيد لمبدأ التدويل، إلا إن النظرة الأمريكية لقضية التدويل لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما قامت إدارة الرئيس ترومان بمعارضة هذا القرار لأسباب انتخابية.
وفي سنة 1953م نقل الكيان الصهيوني مركز وزارة الخارجية من تل أبيب إلى القدس، ورأى أيزنهاور هذه الخطوة عملاً استفزازياً مناقضاً لكل الأعراف الدولية، لذلك أبلغ طاقم السفارة بألا يطبق قرار الانتقال.. وبعد عام ونصف العام، قام السفير الأمريكي بتقديم أوراق اعتماده في القدس، منهياً بذلك قرار الإدارة السابق، وظلت السياسة الأمريكية طيلة 19 سنة؛ أي من عام 1948م وحتى قبل حرب 1967م مع «تدويل القدس»، إلا إن التعبيرات السياسية بقيت تتخبط – أحياناً – في تناقضات واضحة، تبعاً لمزاجية الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته آنذاك.
ويمكن القول – بكل بساطة – إن سياسة واشنطن تحولت من تأييد الشرعية الدولية – ظاهرياً – في الفترة (1948 – 1966م) إلى العمل لتعطيلها بعد أن نجح الكيان الصهيوني في هزيمة العرب سنة 1967م واحتلال ما تبقى من القدس في أيديهم.
ولا شك أن الفترة التي أعقبت حرب الأيام الستة سنة 1967م وحتى 1992م، قد اتسمت بكثير من الغموض والتباين في المواقف الأمريكية تجاه القدس، حيث إن واشنطن كانت تحرص ألا تثير مواقفها المنحازة لسياسة الكيان الصهيوني استفزازاً عربياً وإسلامياً تجاهها، وكانت تسعى للظهور بشكل المدافع عن الشرعية الدولية، إلا إن هذه السياسة لم تمنعها – أحياناً – من اتخاذ مواقف تبدو فيها وكأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تدافع عن سياسات الكيان الصهيوني العدوانية في المناطق المحتلة.فعندما قامت حكومة رابين – بعد انطلاقة «عملية السلام» في مدريد 1991م – بالإعلان عن مصادرة 53 هكتاراً من أراضي القدس الشرقية لإقامة مجمع سكني لليهود ومركز للشرطة، وأثار قرار المصادرة هذا الرأي العام العالمي، ودفع العرب للتحرك، وقد ظهر هذا التجاوب جلياً عند مناقشة القضية في مجلس الأمن، حيث تبنت مشروع القرار -الذي كان معتدلاً – أربع عشرة دولة من دول مجلس الأمن، إلا إن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض «الفيتو» لإيقاف العمل بالقرار، الذي نال موافقة الدول الأعضاء -الدائمين وغير الدائمين – في مجلس الأمن الدولي.
وبحسب اتفاق أوسلو الذي تمت المصادقة عليه في واشنطن سنة 1993م، وبحضور الرئيس بيل كلنتون آنذاك، بقيت القدس من قضايا مفاوضات الوضع النهائي. وبحسب الجدول الزمني للاتفاق فإن الحكم الذاتي في غزة وأريحا هو المرحلة الأولى للحكم الذاتي الفلسطيني، أما وضع القدس فسوف يبحث مستقبلاً مع مفاوضات الحل الدائم.وجاء في الاتفاق أيضاً، أنه لا يحق لأي من الجانبين القيام بأي عمل من شأنه التأثير في وضع المدينة النهائي استباقاً للمفاوضات من أجل خلق حقائق جديدة على الأرض.
ويمكن القول إن سياسة الولايات المتحدة قد تحولت من تأييد الشرعية الدولية النسبي في فترة (1948 – 1992م)، إلى التنظير لشرعية جديدة قائمة على طرح الكيان الصهيوني في عهد الرئيس كلنتون.
ولكن الأصح أن الولايات المتحدة كانت تتبع سياستين في الوقت نفسه؛ سياسة معلنة رمزية تنسجم مع الشرعية الدولية، وسياسة فعلية يسودها الغموض، تتفق عملياً مع الطرح الصهيوني. وقد أدت سياسة الغموض إلى تمهيد الطريق في اتجاه العلنية التي اتبعتها إدارة كلنتون، حيث تم تعليق الشرعية الدولية، وإيداع قرارات الأمم المتحدة في «المتحف السياسي». بل إن مادلين أولبرايت، السفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة ووزيرة الخارجية، بدأت تصف تلك القرارات بأنها «تجاوزتها الأحداث»؛ لأنها «مثار للنزاع». بينما سبق لسلفها – جيمس بيكر – أن قدم للفلسطينيين رسالة تطمينات تنص على «ضرورة عدم تقسيم القدس مرة ثانية»، وإقرار وضعها من خلال المفاوضات، بعيداً عن أرضية قرارات الأمم المتحدة ما دامت عملية السلام مستمرة.
إن الخطوة التي تعتبر الأخطر هي ما قامت به إدارة كلنتون، لتكريس سياسة أمريكية متطابقة مع سياسة الكيان الصهيوني تجاه القدس، بعيداً عن الإبهام والغموض، هي ورقة إعلان المبادئ الأمريكية، التي صدرت بتاريخ 3 يونيو 1993م، والتي تضمنت بياناً صريحاً يتم نشره للمرة الأولى، يعد الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني منذ عام 1967م أراضي متنازعاً عليها! وقد تم استبدال تعبير الرئيسين السابقين رونالد ريجان وجورج بوش الأب بأن الاستيطان «عقبة أمام السلام»، إلى مجرد «عامل تعقيد»في عهد الرئيس كلنتون!
أما أوضح موقف أمريكي بشأن القدس، فقد حدث عندما طلبت إدارة الرئيس بوش الأب تأكيدات من الكيان الصهيوني بعدم استخدام ضمانات القروض الأمريكية في الاستيطان في الأراضي المحتلة وإلا تمَّ خصم هذه المبالغ من القروض. ومع أن الولايات المتحدة امتنعت عن تقديم ضمانات قروض سنة 1991م، كعقاب للكيان الصهيوني على ما قام به من عمليات استيطانية على أراضي الضفة الغربية، إلا إن التغيير السياسي الذي جرى في صيف 1992م في الكيان الصهيوني، ومجيء رابين إلى الحكم خلفاً لشامير، تحولت معه المواقف، وتمت المصادقة على ضمانات القروض، وظل التساؤل عن إمكانية فرض أية عقوبات على البناء في القدس دون جواب واضح وصريح.
الكونغرس وضغوطات اللوبي الصهيوني:
بتاريخ 9 مايو 1995م، قدم كل من السيناتور روبرت دول والنائب نيوت جنجريتش مشروع قرار إلى الكونغرس، وكانا شبه متطابقين، حيث دعيا فيه الإدارة الأمريكية إلى الشروع في أعمال البناء التمهيدية في موقع السفارة الجديد في القدس قبل نهاية العام 1996م، والالتزام بفتحها في موعد أقصاه 31 مايو 1999م، تحت طائلة تخفيض مخصصات البناء لوزارة الخارجية في العالم كله للسنتين الماليتين 1997م و1998م.
في 23 أكتوبر 1995م، أقر الكونغرس قانون نقل السفارة، بعد أن تمَّ إدخال تعديل عليه بطلب من الإدارة الأمريكية، ويقضي التعديل بتعليق مفعول القانون لفترات متتالية من ستة أشهر بطلب من الرئيس، إذا ما رأى أن مصلحة الأمن القومي الأمريكي تستدعي ذلك.
ومن الملاحظ أنه قد سبق للكونغرس عرض موضوع نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس في عهد الرئيس ريغان، إلا إن مشروع القرار واجه صعوبات جمة، ولم يقر بسبب رفضه في مرحلة النقاش على مستوى اللجان.
وللأسف، فإن مجلس الشيوخ الأمريكي في عهد الرئيس كلنتون قد وافق وبغالبية ساحقة (93 صوتاً مقابل 5 أصوات) على القرار، الذي تضمن اعتبار مدينة القدس مركزاً روحياً للديانة اليهودية، وأنها يجب أن تبقى غير مقسمة، كما ينبغي أن يتم الاعتراف بها «عاصمة لإسرائيل»!
وقد تضمن قرار الكونغرس تأكيداً على ضرورة إقامة السفارة بالقدس، وتخصيص مبلغ 25 مليون دولار للسنة المالية 1996م، وكذلك 75 مليون دولار للسنة المالية 1997م، لتغطية كلفة البناء، وطالب أن يقدم وزير الخارجية تقريراً إلى الكونغرس كل ستة أشهر عن سير عملية التنفيذ. وبعد التصويت بأغلبية مطلقة على هذا القرار، قال بوب دول (الجمهوري) إن هذا «يوم تاريخي» للكونغرس الأمريكي، اليوم الذي يعني أن سفارة الولايات المتحدة في القدس ستصبح أمراً واقعاً، أما زميله دانييل مونيهان(الديمقراطي) فقد قال إن مجلس الشيوخ يستعد لتصحيح سخافة قائمة منذ نصف قرن!
وفي يونيو 1996م، أعاد مجلس النواب (بأغلبية 406 ضد 17 صوتاً) تكرار قرار مجلس الشيوخ السابق، وأعلن أن القدس «العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل»! وحضَّ إدارة الرئيس بيل كلنتون على تخصيص مبلغ 100 مليون دولار لتغطية كلفة بناء السفارة الأمريكية في القدس.
بالتأكيد، كان موقف إدارة الرئيس كلنتون ضد قرار الكونغرس بنقل السفارة إلى القدس هزيلاً، وأعطى الانطباع بأن قضية النقل هي مسألة وقت فقط.
ومما لا شك فيه أن الكيان الصهيوني عبر اللوبي الصهيوني (إيباك)، والقدرات الهائلة مالياً وتنظيمياً للجالية اليهودية بالولايات المتحدة، قد استطاع أن يجعل«المستقبل السياسي» لأي عضو بالكونغرس مرهوناً بتحقيق مصالح الكيان الصهيوني وتأييد مواقفه السياسية المختلفة. وقد عبَّر عن ذلك صراحة، وفي حديث كنت أحد شهوده مع بعض قيادات الجالية المسلمة في واشنطن، عضو الكونغرس الأمريكي جيم موران، حيث أشار إلى أن رجال الكونغرس إن عارضوا مصلحة العرب بأصواتهم وقراراتهم فهم لا يخشون شيئاً، بينما هم قد يخسرون الكثير من مخالفة ما يريده اللوبي الصهيوني، لما لهذا الأخير من أثر على دعمهم مادياً وانتخابياً لتحقيق مصالحهم السياسية.
القدس.. أمريكا وخيارات الحل:
منذ أن بدأت العملية السلمية في التسعينات، والأفكار لم تنقطع حول خيارات الحل للمدينة المقدسة. وقد تناولت هذه الأفكار العديد من الرؤى والاقتراحات التي يقع بعضها في إطار التأمل المعقول والواقع المقبول، والبعض الآخر لا يجسد حلاً يمكن أن ينسجم مع تسوية سلمية دائمة للمشكلة، ولكنه يحمل بذور تفجير لمشاكل أخرى ولو بعد حين.
ويمكن تتبع هذه الأفكار التي حظيت باهتمامات واسعة من المناقشة والحوار داخل بعض الدوائر الأمريكية الرسمية، وفي أروقة العديد من المحافل الأكاديمية والمراكز البحثية، ووجدت لها تغطيات إعلامية واسعة، حيث تناولت مستقبل المدينة المقدسة من زاوية أن حل القضية الفلسطينية وإنهاء حالة الصراع العربي – الصهيوني إنما يأتي من خلال قيام دولة فلسطينية مستقلة، أو كونفدرالية فلسطينية – أردنية، أو فيدرالية صهيونية – أردنية – فلسطينية. ويتم النظر للقدس في ظل هذه التصورات على أنها بشكل أو آخر هي الإشكالية الأهم التي تحتاج إلى معالجة خاصة، قد تتفاوت فيها الرؤية بين حالة وحالة. ففي حالة الدولة الفلسطينية المستقلة مثلاً، تكون القدس الشرقية عاصمة هذه الدولة، أما في حالة الكونفدرالية الفلسطينية – الأردنية فسوف تحظى القدس بشأن سياسي وديني متميز، وستكون أبوابها مفتوحة لجميع الطوائف الدينية بدون تعقيدات أو قيود.
وأي شكل من هذه الأشكال سيظل مرهوناً بحقيقة الاستقلال الفلسطيني، وتطوره من وضعية الاستقلال المنقوص (الحكم الذاتي) إلى (حلم) الدولة ذات السيادة.
من الجدير ذكره، أن السياسة الأمريكية تجاه القدس في عهد جورج بوش الابن وباراك أوباما لم تتغير كثيراً، فالأول جارى الكيان الصهيوني في مخططاته التدريجية لتهويد المدينة، وغض الطرف عن كل ما تقوم به حكومة نتنياهو اليمينية والمستوطنين من تعديات وتدنيس للمقدسات، فيما كانت إدارة الرئيس أوباما تعارض الاستيطان شكلياً لإرضاء العرب والمسلمين حول العالم، ولكنها في الواقع لم تفعل شيئاً إزاء ما كان يجري من اقتحامات ومواجهات داخل المدينة المقدسة بين المسلمين واليهود، وأكثر ما قاله أوباما في هذا الشأن هو اعتقاده بأن التوسع في بناء المستوطنات في القدس لا يسهم في أمن الكيان الصهيوني، بل سيصعب عليه إقامة السلام مع جيرانه!
اللوبي الصهيوني ومعركة تهويد القدس:
إن المتابع لتطورات سياسة واشنطن تجاه القدس يجد أن الكيان الصهيوني قد استطاع وبنجاح إدارة معركته لكسب التأييد الأمريكي لسياساته الاستيطانية بالمدينة المقدسة، وإبطال فعالية القرارات الدولية المتعلقة بالوضع القانوني لمدينة القدس؛ باعتبارها مدينة محتلة، وإن التهويد القائم على قدم وساق فيها إنما هو مخالف لاتفاقية جنيف الرابعة، ويعتبر ذلك تعدياً صارخاً على هيبة المنظمة الدولية وقراراتها التي تدين ذلك.
ربما يرجع الفضل في هذا النجاح لتضافر جهود الجالية اليهودية وإمكانياتها المالية والإعلامية الضخمة، التي استطاعت عبر لجان العمل السياسي PACS جمع ملايين الدولارات لإنجاح مرشحي الكونغرس المؤيدين للكيان الصهيوني، وقد استطاعت هذه اللجان على مدار العقود الثلاثة الأخيرة توفير ملايين الدولارات لدعم هؤلاء المرشحين في الانتخابات البرلمانية.
ويشير ريتشارد كيرتس مؤلف كتاب «لجان العمل السياسي الخفيِّة» إلى أن اللجان المؤيدة للكيان الصهيوني هي أكبر مساهم انتخابي مالي بين كل كتل المصالح على المسرح السياسي الأمريكي. وأوضح أن معظم تلك اللجان أسسها أعضاء مجلس إدارة «إيباك»؛ وهي اللجنة «الأمريكية الإسرائيلية» للعلاقات العامة، والتي تعد أكبر أجهزة اللوبي الصهيوني ومركزها واشنطن. وإذا أضفنا لما سبق قدرات الجالية على تفعيل الأصوات اليهودية وتوظيفها سياسياً، حيث إن أبناء الجالية اليهودية يصوتون في الانتخابات بنسبة 90%، في حين أن نسبة بقية الأمريكيين لا تتجاوز مشاركتهم 47%، لذا يتضح لنا أهمية «الصوت اليهودي» في أي معركة انتخابية، سواء على مستوى الرئاسة أو الكونغرس، وإذا أخدنا بعين الاعتبار هذه الحسابات لدى مرشحي الرئاسة والكونغرس، فإن «أجندة القدس» ستكون دائماً عرضة للمزايدات السياسية، وسيكون مطلب التأييد لجعل القدس «العاصمة الأبدية لإسرائيل» هو ورقة رهان لكل المرشحين لكسب أصوات الجالية اليهودية، ودعم لجان العمل السياسي المؤيدة للكيان الصهيوني.
بالطبع كل هذا يحدث بسبب غياب التخطيط والفاعلية المطلوبة لقيمة «أصوات المسلمين» في أمريكا، ومشاركاتهم المالية المحدودة في تمويل تلك الحملات الانتخابية.
اليوم، ومع فوز الرئيس دونالد ترمب، وتعاظم العجز العربي والإسلامي، وانشغالات دول المنطقة ومعها الغرب بما يسمى «الحرب على الإرهاب»، هل ستتغير المعادلة كثيراً تجاه القدس؟
الحقيقة، أن الكيان الصهيوني سيواصل عملية التهويد والطرد للمقدسيين، حتى لا يبقى في المدينة المقدسة من يؤم أقصاها، وقد توفرت للمستوطنين – للأسف – كل الضمانات الأمريكية للقيام بكل ما يمكنهم عمله، بهدف إفراغ المدينة المقدسة من ساكنيها المسلمين، ليبقى المسجد الأقصى وحيداً، كأثر تاريخي أو مزارٍ ديني، يأتيه المسلمون من داخل فلسطين وخارجها بهدف الصلاة والبركة والبكاء على ما في ساحاته من أطلال!
(المصدر: مجلة البيان)