مقالاتمقالات مختارة

السياحة الترفيهية في الميزان الفقهي

السياحة الترفيهية في الميزان الفقهي

بقلم حامد العطار

لئن كانت السياحة تتعدد بحسب أغراضها إلى سياحة دينية، وعلمية، وطبية، وترفيهية، فإن السياحة الترفيهية أول ما ينصرف إليه الذهن عند الإطلاق، كما أنها  أكثر أنواع السياحة إثارة للأسئلة الفقهية.

ومهما تعددت الأسئلة الفقهية التي تثيرها السياحة الفقهية، فسيبقى السؤال الأهم  والمركزي هو ما حكم السياحة الترفيهية ؟

قد يستنكر البعض جعل هذا السؤال هو السؤال المحوري، بل ربما يرى البعض أن البحث عن حكم السياحة يعد من قبيل الترف العلمي، أو توضيح الواضحات، أو من سفاسف الأمور وقشورها !

بيد أن قليلا من التأمل يؤكد أهمية هذا السؤال وضرورته في الحقل الفقهي؛ ذلك أن كافة الأسئلة الفقهية المتعلقة بالسياحة الفقهية تتحدد إجاباتها تبعا لإجابة السؤال المحوري: ما حكم السياحة الترفيهية؟

الشواطئ والمنكرات

من هذه الأسئلة: هل يجوز الاستمتاع بالشواطئ التي تعِجُّ بالمنكرات الشرعية، من ملابس كاشفة للعورات، أو محددة لها، أو واصفة لها، ومن ممارسات غير أخلاقية بين أبناء الجنس الواحد، ومن ممارسات غير أخلاقية بين أفراد الجنسين المختلفين (الذكور والإناث) سواء كانت بينهما علاقة محرمية، أو زوجية، أولا ؟

وهل تبرأ ذمة المصطاف بعدم مشاركته وتقليده لهذه الممارسات، أم أن حضوره وسط هذه المنكرات لا يجوز حتى لو كان لا يأتيها هو ؟ أم أنه يجوز له الحضور مع وجوب الإنكار والإرشاد والتعليم؛ بحيث لا تبرأ ذمته إلا بذلك؟

فإذا كانت الإجابة المحورية أن السياحة جائزة فقط، فسوف تكون إجابة هذه الأسئلة السالفة: أنه لا يجوز حضور هذه الأماكن المترعة بالمنكرات إلا بحقها، وحقها: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فعن  أبي سعيد الخدري رضي الله، عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها.

قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر” [1]

في هذا الحديث ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه – ومن بعدهم أمته إلى يوم القيامة – عن الجلوس في الطرقات، شفقة بهم؛ مخافة ألا يعطوا الطريق حقه فيؤزروا، يريد أن يجنبهم ما يكون سببا في مؤاخذتهم وإثقال كاهلهم حتى أصروا هم فنبههم إلى أن يعطوا الطريق حقه إذن،

جاء في فتح الباري : “وقد اشتملت روايات الحديث على معنى علة النهي عن الجلوس في الطرق من التعرض للفتن بخطور النساء الشواب، وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك إذ لم يمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهن، ومن التعرض لحقوق الله وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته ، وحيث لا ينفرد أو يشتغل بما يلزمه ومن رؤية المناكير وتعطيل المعارف فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك، فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه ويسلم عليه فإنه ربما كثر ذلك فيعجز عن الرد على كل مار ورده فرض فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس؛ حسما للمادة.

فلما ذكروا له ضرورتهم إلى ذلك لما فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضا، ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح دلهم على ما يزيل المفسدة من الأمور المذكورة”[2].

أما إذا كانت الإجابة: أن السياحة الترفيهية أصبحت واجبة نفسيًّا وصحيًّا، أو من الحاجيات على الأقل، فيمكن القول هنا بسقوط النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، ويجب على المصطاف أن يختار أقل الأماكن فحشا ونكرا.

الغزالي وضوابط الأمر بالمعروف

يقول الإمام أبو حامد الغزالي مبينا هذا الأمر :

فإن قلت: فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان فهل يجب عليه إخراجها، وكل من رأى مالاً لمسلم أشرف على الضياع هل يجب عليه حفظه؟

فإن قلتم: إن ذلك واجب فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخَّراً لغيره طول عمره !

والقول الوجيز فيه أن نقول: مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك، فذلك القدر واجب في حقوق المسلم، بل هو أقل درجات الحقوق.

والأدلة الموجبة لحقوق المسلمين كثيرة، وهذا أقل درجاتها ، وهو أولى بالإيجاب من رد السلام، فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام .

فأما إن كان عليه تعب أو ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك، وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي”([3])

ابن تيمية يسأل عن السياحة الترفيهية

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:

عن رجل يخرج للفرجة في الزهر في مواسم الفرج حيث يكون مجمع الناس، ويرى المنكر ولا يقدر على إزالته، وتخرج امرأته أيضا معه. هل يجوز ذلك؟

فأجاب: ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار؛ إلا لموجب شرعي: مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لا بد فيه من حضوره أو يكون مكرها. فأما حضوره لمجرد الفرجة وإحضار امرأته تشاهد ذلك فهذا مما يقدح في عدالته ومروءته إذا أصر عليه. والله أعلم.([4])

فإذا  نظرنا إلى السياحة الترفيهية على أنها مجرد فرجة لم تكن أكثر من جائزة، وعلى هذا، فينطبق عليها فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية، والضابط الذي وضعه أبو حامد الغزالي.

أما إذا نظرنا إلى السياحة الترفيهية على أنها  باتت جزءا من المصالح الدينية ، أو الدنيوية على حد تعبير ابن تيمية، فقد يغتفر الترخص في حضور هذه الأماكن، وبخاصة  أن أكثر أماكن السياحة الترفيهية في بلاد المسلمين لا تخلو من هذه المنكرات ، فمن الصعب أن توجد أماكن خالية منها، بل ربما وصل الأمر إلى التعذر والاستحالة. وحسب السائح المسلم هنا أن يختار أقل الأماكن سوءا وفحشاً.

كتاب أحكام السياحة

في كتابه [أحكام السياحة وآثارها (دراسة شرعية مقارنة)] للباحث هاشم بن محمد بن حسن ناقور، الذي نال به درجة الدكتوراة، وهو الدراسة الأكاديمية الوحيدة التي اطلعت عليها في هذا الموضوع.

في هذا الكتاب انتهى الباحث إلى حرمة السفر إلى بلاد الكفر من أجل السياحة الترفيهية ؛ وذلك لأن الباحث رأى أن السياحة من باب الترفيه.

يقول الباحث : إنني لم أقف على أحد من الأولين تكلم عن السفر إلى بلاد الكفار للنزهة والمتعة، لا بتحليل ولا تحريم؛ لأن المسألة من الوضوح بمكان أنها تنافي عقيدة الولاء والبراء.([5])

ونقل الباحث عن ابن الشيخ عثيمين – رحمه الله- أنه لا يجوز للإنسان السفر إلى بلاد الكفار إلا أن يكون محتاجا إلى ذلك.

فإذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده، وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به. وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار، فهذا ليس بحاجة([6]).

السياحة بين الزوج والزوجة

كما أن تحديد حكم السياحة الترفيهية، هل هو من وادي الحاجيات أو التحسينيات سيؤثر على  حكم استجابة الزوج لزوجته التي تطلب منه  هذا النوع من السياحة كل عام، فإذا انتهينا إلى أنها من التحسينيات، نتج عنه أنه لا يجب على الزوج هذه الاستجابة، أما إذا انتهينا إلى أنها من الحاجيات  ربما توجه القول بالوجوب، كما كان يذهب جمهور الفقهاء في الماضي إلى أنه لا يجب على الزوج دفع نفقات علاجها؛ مصيرا منهم إلى أن التداوي غير واجب أصلا، بل هو جائز ([7])،وبعضهم رآه مستحبا، وقليل منهم رآه واجبا، ثم استقرت الفتوى في العصر الحاضر على وجوب دفع هذه التكاليف بناء على وجوب التداوي.([8])

السياحة والرخص الشرعية

المسافر للترفيه ومشاهدة الأماكن السياحية يكره له قصر الصلاة الرباعية عند المالكية، فقد جاء في منح الجليل لمحمد عليش المالكي: فاللاهي به كالمسافر لمجرد التسلي لا يسن له القصر، بل يكره، وقيل يباح فإن قصر فلا يعيد. ([9])

وفي المذهب الشافعي: يقصر إذا كان المقصود التنزه لا مجرد مشاهدة البلاد والنظر إليها، وقال الحنابلة : يباح ، وذهب الحنفية إلى أنه يُشرع القصر للمسافر ولو كان سفره محرما.

غير أن مذهب الحنفية لن يقدم سعة كبيرة في المسألة للسائح؛ لأنهم لا يبيحون الجمع في السفر، والمسافر أحوج إلى الجمع منه إلى القصر.

وهذا الاستعراض يدل على أهمية الاجتهاد المعاصر في وصف السياحة الترفيهية وإعطائها الحكم المناسب لها في خضم ما آلت إليه الأنماط الاجتماعية التي يعيشها المسلم في هذا الزمان.


[1] – اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (3 / 43)
[2] – فتح الباري (11/11)
([3])إحياء علوم الدين (2/ 328)
([4])مجموع الفتاوى (28/ 239)
([5])أحكام السياحة ص 174
([6]) أحكام السياحة ص 185، وانظر :مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 24)
([7])قال الدكتور وهبة الزحيلي : ” قرر فقهاء المذاهب الأربعة أن الزوج لا يجب عليه أجور التداوي للمرأة المريضة من أجرة طبيب وحاجم وفاصد وثمن دواء ، وإنما تكون النفقة في مالها إن كان لها مال. الفقه الإسلامي وأدلته” (10/7380).
([8])ذهب جمهور العلماء (الحنفية والمالكية) إلى أن التداوي مباح ، ينظر :الموسوعة الفقهية الكويتية (11/ 117)
([9])منح الجليل شرح مختصر خليل (1/ 401)

 

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى