مضت تقريباً خمسة أشهر منذ انطلاق عملية تحرير الموصل، التي بدأت رسمياً يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2016. وإلى حد الآن، لم تحرر سوى المناطق الواقعة شرق نهر دجلة، حيث يأمل سكان هذه المناطق المحررة في أن تستجيب الحكومة العراقية لمطالب الطائفة السنية.
في الواقع، استعادت القوات العراقية بصفة كاملة شرق مدينة الموصل الواقع على الجانب الأيسر من نهر دجلة مع نهاية شهر كانون الثاني/يناير. ويمكن ملاحظة تواجد جندييْن داخل حي “الوحدة” وهما بصدد حراسة مدخل مستشفى السلام الذي دُمّرت منشآته جراء مواجهات شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وتجدر الإشارة إلى أن تنظيم الدولة قد حول أغلب المنشأة لمراكز عمليات ومخازن للأسلحة.
ومن جهتها، تعمل الدكتورة علية عماد، التي تبلغ من العمر 29 سنة، منذ شهر نيسان/أبريل سنة 2013، في قسم الطوارئ وفي وحدة العناية المركزة، مع العلم أن هذا المركز الطبي قد عبثت به أيادي تنظيم الدولة، حيث كان المستشفى كله خاضعاً لرقابة “ديوان الحسبة” التابع لمكتب شرطة الأخلاق التي تسهر على تطبيق “وثيقة المدينة”.
وبشكل أوضح، تتكون وثيقة المدينة من 12 فصلاً، وزعها تنظيم الدولة على الأهالي منذ شهر حزيران/يونيو سنة 2014، إذ تنص الوثيقة على أن هذا المستشفى يعتبر “مكان إغراء” وجب على النساء عدم دخوله والمُكوث في منازلهن إلا في الحالات القصوى، حيث بإمكانهنّ دخوله بشرط احترام سبعة بنود تخص اللباس الإلزامي.
وفي هذا الصدد، علقت الدكتورة علية عماد على هذا الموضوع قائلة: “في هذا المستشفى، أُجبرنا نحن الطبيبات والجراحات على ارتداء النقاب والقفازات والجوارب السوداء ومُنعنا من تفحص المرضى من الذكور حيث كان ممنوعاً الاختلاء برجل داخل غرفة مغلقة”.
الضفة اليسرى من المدينة تستعيد نسق الحياة اليومي
تتواصل العمليات العسكرية منذ يوم 19 شباط/فبراير على بعد أمتار من الضفة اليمنى من نهر دجلة، تحديداً باتجاه المدينة العتيقة التي تعدّ آخر معاقل التنظيم.
وبذلك، ابتعدت نيران الحرب عن الجانب الأيسر على الرغم من أنه ظلّ تحت وطأة قنابل مدافع الهاون وأصوات المروحيات بالإضافة إلى تتالي دوي الانفجارات الذي تعقبه صيحات الفارين من الحصار المفروض على غرب الموصل من قبل القوات العراقية.
وها هي المحلات في الجانب الأيسر المحرر بالكامل، تعود للعمل من جديد وتفتح كل من صالونات الحلاقة ومتاجر الموضة النسائية أبوابها. في الشوارع، استبدلت النساء النقاب بالحجاب الذي يتطابق مع المعايير السنية المحافظة لمدينة الموصل.
وفي هذا الصدد، أشار مهند عبدول قادري، وهو صيدلي بالموصل،إلى أن “الحرمان من الحريات الفردية كان أسوأ ما عشناه تحت حكم تنظيم الدولة”. وأضاف مهند، وهو جالس رفقة أصدقائه وهم يدخنون النرجيلة بمقهى “المواسم الأربعة” الذي أغلق مدّة 30 شهراً حينما كانت المنطقة تحت حكم التنظيم، أنه “منذ مطلع سنة 2015، تعرضنا لصُعوبة في مغادرة المدينة.
أما خلال السنة التي تلت، اشتدت ضربات التحالف الدولي، وفي نفس الوقت أصبح كل شخص يحمل شريحة هاتف جوال أو معرضاً لعقوبة الإعدام. لذلك، سجلت كل ما يهمني من معلومات على قرص صلب ودفنته في حديقة منزلي”.
في البداية، حظي تنظيم الدولة باستقبال حافل
استقبل سكان الموصل مقاتلي تنظيم الدولة يوم 10 حزيران/يونيو من سنة 2014 بحفاوة بعد أن ضاقوا ذرعاً بانتهاكات الجيش العراقي لحقوقهم إضافة إلى قيامهم باعتقالات عشوائية فضلاً عن تعرضهم لابتزازات الجنود ورجال الشرطة.
وفي هذا الصدد، تحدث محمد فارس، وهو أستاذ بمدرسة التمريض التابعة لجامعة الموصل قائلاً إن “تنظيم الدولة وعد بتطبيق العدالة ومد يد العون للسكان والحفاظ على السلم والأمن. وقد اعتقدنا بأنها ثورة السنة في وجه ظلم الطبقة الشيعية”.
في الحقيقة، يمثل التنظيم في أعين الموصليّين انتقام العشائر الريفية من سكان المدن، حيث كثيراً ما دعمت العشائر السنية والقبائل والبلدات العراقية صفوف تنظيم الدولة بالمقاتلين. في المقابل، أكد محمد فارس أنه “عندما قام مقاتلو التنظيم باغتصاب النساء المنتميات للطائفة اليزيدية وملاحقة المسيحيين ونهب منازلهم وتدنيس أماكن العبادة ومراقد الأنبياء (عليهم السلام)، عمل العديد على تجنب الاحتكاك بهم”. وأضاف فارس “أما إذا قلت لي لماذا فضلنا البقاء في الموصل، فقد فعلنا ذلك بهدف حماية منازلنا وأعمالنا والحفاظ على هوية هذه المدينة، وأنا أستبعد فكرة أن يلقى هؤلاء الهمجيون نفس الترحاب السابق”.
الثقة بالجيش العراقي مازالت ضعيفة
تنعدم الثقة بين كل من أهالي الموصل، ذوي الأغلبية السنية، ومختلف أفراد أجهزة الأمن العراقية. والجدير بالذكر أن القوات العراقية تنقسم إلى عدة وحدات من بينها أفراد الجيش العراقي والشرطة المحلية، والشرطة الفيدرالية، وميليشيات الحشد الشعبي الشيعية. فكل فرقة تعمل على حدى من خلال بسط سيطرتها الاعتباطية على الأحياء التي تحرّرها من قبضة تنظيم الدولة، حيث أنها تغلق الطرق وتفرض سياسة مستبدة على الأهالي وتركز نقاط تفتيش واسعة فضلاً عن فرض حظر للتجول.
من جانب آخر، وعلى الرغم من حفاوة استقبال أهالي حي فلسطين في الموصل بالفصيل 16 من الجيش العراقي، إلا أن أزمة الثقة ما زالت تلوح في الأفق. وفي هذا السياق، أوضح مهند عبدول القادري، أحد سكان الحي، أنه “وجب على الجيش العراقي عدم تكرار أخطاء الأمس”. وأشار القادري إلى أن هناك إشاعات مفادها أن بعض مقاتلي تنظيم الدولة يدفعون رشاوى لأفراد الجيش من أجل شطب أسمائهم من قائمة المطلوبين.
أقسام المدرسة فتحت من جديد بفضل متطوعين
عاد موظفو البلديات لإصلاح الأرصفة مع عودة الخدمات العمومية بصفة بطيئة. وقد فتحت مدرسة “الأبرار” أبوابها من جديد مع عودة المديرة والمدرسين للعمل، حيث شهدت هذه المدرسة خلال شهر واحد عودة 489 تلميذاً تتراوح أعمارهم بين 6 و15 سنة. كذلك، فُتحت كل من ساحة المدرسة والملعب الخاص بها من جديد بعد أن تم إغلاقها من قبل تنظيم الدولة.
وفي هذا الصدد، ذكر الأستاذ حسام مصطفى أن “حكومة بغداد، لم تدفع أجور الموظفين منذ شهر حزيران/يونيو سنة 2015، ونحن ننتظر متى تصرف لنا أجورنا. كما أن الدولة في الموصل غير موجودة، إذ أن كل مسؤول سياسي أصبح يشكل دولته الخاصة. فمنذ تحرير المناطق الشرقية، لم يتحول أي مسؤول سياسي للمدينة”. وأضاف الأستاذ قائلاً: “لقد دمرت الحرب كل البنى التحتية والمستشفيات والمدارس وجامعة الموصل، كما تعاني أغلب الأحياء من انعدام المياه الصالحة للشّراب والكهرباء والطرق المعبدة وقنوات التصريف الصحي، خاصة وأن إعادة تأسيس وبناء هذه المرافق يتجاوز قدرة الحكومة.”
موقف صعب ومستقبل غامض
لقد أضحت مدينة الموصل، مركز النخب العربية السنية في العراق، خارج حسابات الحكومة منذ سقوط نظام صدام حسين سنة 2003. وفي هذا السياق، ذكر الصحفي محمد، الذي قضى سنتين مختبئاً في غرفة بمنزل والديه بعد تهديد التنظيم بقتله، أن “حكومة بغداد تعتبرنا موالين لتنظيم الدولة، أما التنظيم، فيرانا مرتدين”.
تجدر الإشارة إلى أن الحرب الطائفية بين السنة والشيعة في العراق اشتدت سنة 2006. وحول هذا الموضوع أدلت المواطنة علية عماد، وهي ابنة ضابط سني سابق، بشهادتها مبينة أنه “خلال تلك الفترة، أي سنة 2006، قام والدي بنقلنا من بغداد إلى الموصل ظناً منه بأننا سنكون بمنأى عن هذه المعركة، لكنه أخطأ في ذلك”.
وأضافت عماد أن “الكل ينتظر ما الذي سيحصل بعد تحرير الموصل بالكامل، وكل ما أطلبه هو التمتع بنفس الحقوق التي يحظى بها الشيعة. في المقابل، لا أخفي تشاؤمي، فالفكر الطائفي سمم كل شيء. وللمضيّ قدماً، علينا ترك الاختلافات الدينية جانباً والبحث عن بداية جديدة”.
238 ألف نازح داخل إقليم الموصل
قبل غزو الموصل من قبل تنظيم الدولة سنة 2014، أشارت الإحصائيات إلى أن عدد سكان الموصل يبلغ قرابة 2 مليون ساكن. كما أنه قبل بداية العمليات العسكرية، يعيش في غرب الموصل وحده قرابة 750 ألف ساكن.
ومع بداية العمليات يوم 19 شباط/فبراير الماضي، أفادت منظمة الهجرة الدولية أن حوالي 16230 عائلة، أي ما يعادل 100 ألف ساكن، أجبروا على الخروج من منازلهم. من جانب آخر، يعدّ قرابة 238 ألف شخص بمثابة النازحين داخل إقليم الموصل، حيث يرتكز عشرات الآلاف منهم في مخيمات اللاجئين الواقعة حول محيط المدينة.
(هافينغتون بوست عربي)