السمح بن مالك الخولاني: رائد الفتوحات الإسلامية في فرنسا
بقلم أحمد الظرافي
كان العرب المسلمون في ظل حكم الخلفاء الأمويين، يعتبرون كل حدٍ وصلوه بداية لانطلاقة جديدة، وأي فتح قاموا به لأي جبهة، بدءا لفتح آخر، ومنطلقا لنصر جديد. أما الغاية النهائية، من ذلك فكانت، نشر الإسلام، إلى أرجاء العالم القديم كله، على اعتبار أن الإسلام، رسالة عالمية، موجهه للناس كافة، ودينُ عام، يجب إفاضته على الإنسانية كلها، في جميع أقطارها، وأن تشملهم حضارته الراقية، ذات الفكر الرشيد، والمبادئ البناءة، والمثل والقيم السامية، لقول الله سبحانه وتعالى: }قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا{ [الأعراف:158] وقوله تعالى: }وما أرسلناك إلا كافةً للناس{ [سبأ: 28]. وقوله أيضا: }وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{ [الأنبياء: 107].
ولذلك، فإن طموح القادة المسلمين، منذ استقرارهم في الأندلس، في النصف الأول من العقد العاشر الهجري، لم يكن يقف في حدود شبه هذه الجزيرة، بل كان هذا الطموح، كثيرا ما يقفز إلى بسائط بلاد الفرنجة (فرنسا)، فيما وراء سلسلة جبال البرتات، التي تفصل اسبانيا عن أوروبا، والتي تتخللها ممرات ومضايق تصل بين البلدين، تسمى البرتات أو الأبواب بتعريب التسمية، مثل ممر قطالونيا، في الشرق، في ناحية برشلونة على البحر المتوسط، وممر شيزروا، في الوسط، عند مدينة بنبلونة، وممر هندايا في الغرب، على المحيط الأطلسي، عند خليج بسكاي.
ورغم أن ذلك الحاجز الشاسع، حاجز الـبرتات (435 كم)، يبدو عسير الجواز؛ إذ تشكل جبال الـبرتات عقبة جبلية مهمة، متكونة من عدة صفوف جبلية متوازية، نسبيا.. بارتفاعات شاهقة ومنحدرة.. وعسكريا خطرة، والمناطق الساحلية المنخفضة، شرق وغرب الحاجز، قليلة وضيقة، إلا أن القادة المسلمين، ما اعتبروا هذه السلسلة الجبلية حدا طبيعيا، يمكن أن يحول دون الانطلاق لفتح أوروبا، هذه الأخيرة، التي كانت حينذاك، غارقة في تخلفها، وجهلها، وتعاستها، وكانت العديد من شعوبها لاتزال على وثنيتها، وبدائيتها، ولم تعتنق بعد العقيدة النصرانية، بفهم بولس.
كما أن الخرافة والإيمان بالخوارق والمعجزات، كان بمنزلة (الأريج الثقافي) في أوربا كلها، وكان الناس، يؤمنون بوجود الأرواح الشريرة، والطيبة في الغابات، وحول جداول المياه، ويتداولون الحكايات، عن النجوم التي تتساقط من السماء، مثل المطر، والقدّيسين الذين يظهرون للفلاحين، والرعاة، والنساء اللاتي تلدن أطفـالاً بأربـع أيدي وأربع أرجل..الخ
بيد أن الفرصة، لعبور جبال البرتات، من أجل تحقيق ذلك الهدف الطموح، كانت، على التحقيق، غير متاحة، لبطلي فتح الأندلس: موسى بن نصير، وطارق بن زياد، فقد كان عليهما، بعد استكمال هذا الفتح، والوصول إلى عتبة جبال البرتات، وإلى شواطئ المحيط الأطلسي، في الشمال، ترك كل شيءٍ على ما هو عليه، والمغادرة فورا إلى دمشق، تلبية لأمر الخليفة الوليد بن عبد الملك.
كما أن الانطلاق للفتح، في هذه النواحي، لم يتأت للولاة الثلاثة الذين تعاقبوا على حكم الأندلس، بعد رحيل موسى إلى المشرق، وقبل ولاية السمح بن مالك الخولاني، وهم: عبد العزيز بن موسى بن نصير (95-97هـ)، وأيوب بن حبيب اللحمي اللخمي ( رجب 97- ذي الحجة 97هـ) والحر بن عبد الرحمن الثقفي (97-100هـ)، فقد كان على هؤلاء الولاة الثلاثة توطيد الفتح وإتمامه، وتنظيم شئون الحكم والإدارة. وكانت هذه الأعمال، على جانب كبير من الأهمية، فحالت، بالتالي، دون تفرغ هؤلاء الولاة الثلاثة، لاستئناف أعمال الفتوح خارج حدود هذه الولاية.
ولم تُستأنف الفتوحات الإسلامية، خارج حدود الأندلس، إلا في عهد الوالي الرابع، وهو السمح بن مالك الخولاني (رمضان 100 – ذي الحجة 102هـ)، فلم تقتصر أعمال هذا الوالي، على الشئون الداخلية للأندلس، كتمييز أراضي العنوة من أراضي الصلح، وتخميس أراضي العنوة وتقسيمها، وتشييد قنطرة الوادي الكبير، وترميم أسوار قرطبة الغربية، بل يعود إليه الفضل، في تنشيط حركة الفتوحات الإسلامية، خارج حدود هذه الولاية، وإعادة جذوة الحماس إلى الجند الإسلامي، لاستئناف الجهاد والفتوح في فرنسا، وفي كونه أول من اخترق، بجيوش المسلمين جبال البرتات العالية، وتوغل في الأراضي الفرنسية، وعبر نهر الجارون، حتى وصل إلى مدينة طلوزة (تولوز)، حلقة الوصل بين مدن جنوبي فرنسا، وذلك في ذي الحجة، سنة 102هــ.
وعليه، فإنه لم يكن هناك أي انجاز ملموس، قد تحقق على الأرض، فيما يتعلق بالفتوحات وراء جبال البرتات، حتى آخر ولاية الحر الثقفي للأندلس، سنة 100هـ، وأن الانجازات الملموسة في هذه الجهات، إنما تحققت في بداية الأمر، على يد خلفه، وهو السمح بن مالك الخولاني، هذا الأمير القائد الفاتح المحنّك، العظيم الرغبة في الجهاد، والذي قام في الأشهر الأخيرة من ولايته، على الأندلس، بأول محاولة جدية، ومنظمة لاختراق جبال البرتات، على رأس الجيوش الإسلامية، وطرق أبواب أوربا، التي كانت تدعى حينذاك، باسم “الأرض الكبيرة”، من جهتها الجنوبية، بناء على خطة ثابتة، ومنهج مرسوم. وهذا ما يذهب إليه كثير من المؤرخين.
جاء في كتاب (قصة العرب في اسبانيا) للمؤرخ الأمريكي لين بول ستانلي: وقبل أن يعود موسى، إلى الشام، كان قد بلغ جبال البرت وأطل منها، فجالت بخياله صورة لفتح أوربا كلها، ولكن دعوة الخليفة أعاقته عن الاستمرار في تقدمه، فقام بهذا الأمر غيره. ذلك أن حاكما عربيا (هو السمح بن مالك الخولاني)، تملك في سنة 719م (101هـ) القسم الجنوبي، من بلاد الغال المسمى: “سبتمانيا”، بما فيه مدينتا قرقشونة وأربونة… وأخذ من هذين المركزين، يغير بجيشه على مقاطعتي برغاندي، وأقيتانية (أكيتانيا).
وكانت سبتمانية في جنوب شرقي فرنسا، وهي البلاد التي تلي السفوح الشمالية الشرقية لجبال البرت، أول ما حصلها المد الإسلامي في فرنسا، وأول ما أفتتحه السمح بن مالك الخولاني هناك، وذلك في ربيع سنة 102هـ /721. أي في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك (101-105هـ)، وليس في عهد سلفه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (99-101هـ)، كما هو شائع.
وقد أقام السمح، حكومة إسلامية في هذه المقاطعة، واتخذ مدينة نربونة، ذات الموقع الاستراتيجي على الساحل الفرنسي الجنوبي، عاصمة لها، وشحنها بالمؤمن والرجال، وقام بتحصينها، حتى تصد غارات، من يهاجمها، وقد اعتبرت من ذلك الوقت ثغرا عسكريا تابعا للأندلس من الوجهة الإدارية، وقاعدة استراتيجية للمسلمين لانطلاق جيوش الفتح، في الأرض الكبيرة (أوربة).
ويشهد المحققون للسمح، أنه بذل نشاطاً واسعاً في جنوب فرنسا، وأنفق جهوداً كبيرة في معاركه في غالة، حتى طولوشة، إحدى حواضر مملكة الفرنج الجنوبية التي تسمى إكيتانيا (اقطانية)، كما حدثت عدة معارك بين المسلمين، وبين دوق أكيتانيا، واستشهد فيها من كتب الله له الشهادة من المسلمين، وعلى رأسهم أميرهم وقائدهم السمح بن مالك، وذلك بعد أن تكاثرت عليهم جموع الفرنج، وبعد صمود بطولي منقطع النظير، وكان ذلك في يوم عرفه سنة 102هـ /9 حزيران 721. ومن ثم، عودة الجيش إلى، نربونة: قاعدته الحصينة الجديدة في سبتمانية، بقيادة عبد الرحمن الغافقي، ومنها إلى الأندلس.
ويرى العدد الأكبر من المؤرخين المعاصرين، أن السمح بن مالك، هو رائد الفتوحات الإسلامية، وراء جبال البرتات، سواء في مقاطعة سبتمانيا القوطية، أو في المقاطعات الفرنسية الجنوبية، وهو القائد الذي أنشب أول صدام عسكري حقيقي قوي، بين المسلمين والفرنجة في بسائط جنوب فرنسا، ودشن طورا أخر من الصراع بين الإسلام والنصرانية، والذي امتد لفترة من الوقت تجاوزت الأربعين عاما.
يقول المؤرخ الفرنسي أندري كلو في كتابه (اسبانيا المسلمة): لقد ترك السمح اسمه في التاريخ، إنه أول قائد مسلم من اسبانيا، يقوم بحملة جادة إلى ما وراء جبال البرتات.
ويقول حسين مؤنس في كتابه (معالم تاريخ المغرب والأندلس): وكان عبد العزيز بن موسى قبل نهاية ولايته، قد استولى على إقليم “قطلونية”، ودخل المسلمون برشلونة وطركونة وجرندة، المعروفة باسم “خيرونا”. ولما تولى أمر الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي، في ذي الحجة سنة 97هـ، تقدم فدخل أرغون، وقام بعدد من الغارات القصيرة، فتحت أبواب فرنسا الجنوبية للمسلمين. ولكن حركة الفتح في غالة بدأت بصورة جدية، على يد السمح بن مالك الخولاني، الذي، ولاه عمر بن عبد العزيز على الأندلس، سنة 100هـ. وكان رجلا عظيم الإيمان والحماس.
ويقول عصام الدين عبد الرؤوف في كتابه (تاريخ المغرب والأندلس): كان لا بد أن يتبع فتح الأندلس، قفزة أخرى إلى ما وراءها، وفعلا فكر في هذا موسى بن نصير عندما أتم فتح اسبانيا.. ولكن الخليفة استدعى موسى، ورفض توغل المسلمين، في أراضي ومجاهل، غير آمنة، ولكن فكرة غزو ما وراء اسبانيا، ظلت تتردد في النفوس، حتى ولي الأندلس السمح بن مالك الخولاني، وهو من خيرة الولاة الذين تولوا أمر الأندلس.
ولذلك، فإنه عندما تذكر حملات المسلمين، إلى فرنسا يذكر معها اسم السمح بن مالك الخولاني، فهو القائد العسكري الفذ، الذي وجه جهده إلى مد نشاط المسلمين إلى جنوبي فرنسا، ففتح الطريق لهم، إلى هذه البقاع، ومهدها لهم، ليكرروا المحاولات، فيما بعد، سيرا على خطاه، ومستفيدين من الانجازات، التي حققها للإسلام والمسلمين فيها، بما فيهم القائد الشهير عبد الرحمن الغافقي، صاحب معركة “بلاط الشهداء”، سنة 114هـ. ويمكن القول أن حملة السمح بن مالك، على جنوب فرنسا، تكتسب أهميتها، ليس لكونها الحملة العسكرية الجدية الأولى، في هذه البلاد، فحسب، وإنما لكونها أيضا، أولى الحملات، التي حققت نتائج ملموسة وباهرة في جنوب فرنسا، واسست لاستقرار المسلمين هناك لأكثر من أربعين عاما.
ومن هنا، فإنني لم أضف عليه صفة “الرائد[1]”، الذي يحمل معاني الاقدام والجرأة والتحدي، اعتباطا، وبدون مسوغ، أو من باب إضفاء الألقاب، على من لا يستحقها، وإنما تقريرا عما رأيت أنه حقيقة، دلت عليها الحوادث والأحداث، وشهدت بها الوقائع والاحوال.
والله تعالى أعلم!
[1] الرائد في اللغة: الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث. وقال الشيخ محمد عبده: هو من يتقدم القوم، ليكشف لهم مواضع الكلأ، ويتعرف سهولة الوصول إليها من صعوبته. وفي المثل “لا يكذب الرائد أهله، يأمر الهداة والدعاة الذين يتلقون عنه ويوصيهم بالصدق في النصيحة”. [انظر: شرح “نهج البلاغة”، للشريف الرضي، دار الفجر للتراث-القاهرة، 1426هـ/2005، ص213: حاشية].
(المصدر: مجلة البيان)