مقالاتمقالات مختارة

السلف بين الخروج إلى السلطان وعليه

بقلم إخليهن محمد الأمين – مدونات الجزيرة

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن أي مسألة دينية لم يتم الاتكاء عليها في تدعيم الاستبداد السياسي، والتحذير من معارضته والوقوف في وجهه، كما تم الاتكاء مسألة “الخروج” على “ولي الأمر” وموقف السلف أهل “السنة والجماعة” من السلطان، التي كثيرا ما تم رفعهما في وجه المعارضة السياسية من أجل تجريم فعلها المعارض وتبرير قمعها ومصادرة حقها في الكلام وفي نقد السلطان، في نوع غريب من المغالطة والخلط.

لهذا فقد بدا لي أن أدون عن موقف السلف من “الخروج” على “ولي الأمر” وعن علاقة العالم بالسلطة، وذلك على شكل ملاحظات ثلاث:

أولها: أن “الخروج على السلطان غير الشرعي” رأي فقهي معتبر، واعتباره بدعة وضلالة ومخالفة لمنهج “أهل السنة” فيه تجن على العلمية والموضوعية وتغيب لنصف الحقيقة، فمن هم أهل السنة، حتى يكون الخروج على الحاكم الظالم الشرعي مخالفا لمنهجهم؟ أليس الصحابة هم أعرف الناس بالسنة وألزمهم لها؟ وهم الأصل الذي يتفرع عنه “أهل السنة”؟

إذا كان الأمر كذلك فإن “الخروج” على فاقدي الشرعية هو منهج سبط رسول الله وريحانته سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي رضي الله عنهما وهو منهج ابن حواري النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن الزبير، بل هو مذهب عامة الصحابة، فلم تكن الفتنة التي وقعت في زمن عثمان والنزاع على السلطة بين فريق معاوية وفريق علي رضي الله عنهم أجمعين إلا تعبيرا عن هذا الموقف، فقد كان كل من الفريقين يرى في الآخر أنه فاقد للشرعية، وبالتالي فالموقف الشرعي يقضي بعدم إقراره في الحكم، هذه هي الخلاصة التي أشار لها ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل تلميحا لا تصريحا.

وما يقال عن إجماع فهو غير دقيق، من ناحيتين:

أولهما: أنه لو صح فهو مقابل لرأي عامة الصحابة، ورأيهم في فهم وتفسير الشريعة معتبر لا يمكن أن يلغيه أي رأي مهما كثر قائلوه، وبالتالي فالإجماع من دونهم لا يعتبر إجماعا متوافر الشروط والأركان وله قيمة الإجماع العلمية، ومن ناحية ثانية هذا الإجماع المُدَّعَى غير صحيح، فلم يخلو أي عصر من فقيه يرى القول بالخروج على الحاكم الظالم، ومن ذلك مواقف التابعين وأبرزها ما سمي في كتب التاريخ بـ”ثورة الفقهاء” وذلك لكثرة من شارك فيها من فقهاء التابعين، ومثلها مواقف أئمة المذاهب الأربعة، فموقف مالك معروف بدعم محمد النفس الزكية في الانقلاب الذي كان يعد له ضد العباسيين وفتواه بأنه “ليس على مستكره طلاق” التي فسرت على أنها تحمل في طياتها تَشْكِيْكٌ في شرعية الحكم، وتم سجنه وتعذيبه بسببها حتى انخلعت كتفه.

وموقف الإمام الشافعي وما أشيع عنه من دعم للثورة التي كان يعد لها موسى الكاظم معلوم مشهور، كما أن موقف أبي حنيفة في معارضة السلطة ورفضه تولي القضاء وما أشيع عنه من دعمه للنفس الزكية في ثورته على المنصور شهير معروف.

والصحيح في محنة خلق القرآن أنها كانت تحمل في خفاياها مواقف سياسية غير معلنة، وكان امتحان الإمام أحمد بتهمة فساد عقيدته مجرد غطاء ديني وتضليل للرأي العام عن السبب الحقيقي للمحنة -كما أو ضح ذلك الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية.. محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد”-، فقد أشيع أن ابن حنبل كان على صلة بالفقيه المحدث أحمد بن نصر الخزاعي الذي كان يحضر لثورة ضد العباسين فانكشفت خيوطها فتم اعتقاله وقتله، وصلبه لا بتهمة الثورة وإنما بتهمة فساد العقيدة والقول بخلق القرآن!! وقال عنه الإمام أحمد “ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له” (البداية والنهاية، ج10 ص392).

ثانيا: من الخطأ الشائع الذي يروج له علماء السلطان إطلاق مصطلح الخروج على كل فعل معارض “لولي الأمر” حتى ولو كان في أقصى درجات السلمية، والحقيقة أن الخروج في مصطلح الفقهاء يطلق على المعارضة المسلحة، “وأن لا ننازع الأمر أهله” (البخاري ومسلم)، أما المعارضة السلمية فهي تدخل في نطاق الأمر بالمعروف والنصح الذي حَرَّضَتْ عليه النصوص “وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم” (البخاري ومسلم)، ولهذا نص ابن حجر على مشروعية منازعة الحاكم “في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف” إذا قدر على ذلك (فتح الباري، ج13 ص8).

وأما مصطلح “ولي الأمر” فقد تعرض هو الآخر لمستوى كبير من التشويه حتى أصبح يطلق على كل حاكم ولو كان هذا الحاكم تم تنصيبه من طرف أمريكا وإسرائيل، ولا يحوز أي شرط من شروط المشروعية!!

ليس كل من وصل إلى الحكم بالغلبة، يصبح “ولي الأمر” بالمفهوم الشرعي، ففي حديث البخاري أن من أشراط الساعة “إذا وسد الأمر إلى غير أهله…”، وهذا يدل على أن هناك سلاطين ليسوا من “أهل الأمر” لفقدهم للشرعية أو للأهلية أو لهما معا، ويؤكد هذا ما رواه الإمام أحمد “سيلي أموركم من بعدي رجال يُعَرِّفُونَكُمْ ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله”، وفي لفظ ابن أبي شيبة “فليس لأولئك عليكم طاعة”.

ولهذا عَرَّفَ ابن علي الحصفكي من الحنفية البغاة بأنهم “هم الخارجون عن الإمام الحق بغير حق”، وقال ابن عرفة من المالكية في تعريف البغي بأنه “الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته في غير معصية بمغالبة ولو تأولا”. فدل ذلك على أنهم يرون أنه يوجد إمام حق وإمام غير الإمام الحق، وإمام ثبتت إمامته وإمام لم تثبت إمامته.

ثالثا: لم يكن من سمت علماء السلف وهديهم الخضوع للسلاطين المنقوصي الشرعية ومداهنتهم، بل كان السمت السائد عندهم هو التحذير من الدخول على السلاطين الظلمة ورفض تولي المسؤوليات لديهم، مثل القضاء والفتيا، ولم يكن ذلك بسبب الخوف من “الحكم بين اثنين” أو رهبة من “التوقيع عن رب العالمين” كما تصور ذلك بعض الوعاظ، وإنما كان لأجل ألا يضفي توليهم لتلك المسؤوليات مستوى من الشرعية على حكم أولئك السلاطين المنقوصي الشرعية.

فلم يكن أبو حنيفة وهو يرفض تولي القضاء في دولة المنصور إلا مُسْتَحْضِراً أن قبوله بذلك سيضفي مصداقية على شرعية المنصور المنقوصة، ولم يكن رفض ابن المسيب -قبل ذلك- أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك ومبادرته بتزويجها من أحد تلامذته استباقا لأي إكراه قد يلجأ إليه عبد الملك لتزويجها من الوليد، لم يكن ذلك إلا مجانبة للسلاطين وبعدا عن أي شيء قد يضفي نوعا من الشرعية والمصداقية عليهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى