إعداد نور الدين قلالة
منذ تأسست الحركة السلفية في اليمن في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وهي تسعى إلى تعزيز حضورها السياسي والثقافي، حيث شهدت انقسامات كثيرة وتباينات في الأطروحات، فمنها من اكتفى بالنشاط الاجتماعي ومنها من اتجه نحو العمل الحزبي ومنها من التحق بالفكر الجهادي المتطرف، وقد أثّرت الأحداث السياسية والعسكرية في اليمن على واقع التيار السلفي في اليمن من حيث الرؤى والمواقف.
وفي إطار البحث عن الوضع الراهن للحركة السلفية في اليمن بخلفياتها وأبعادها ناقش المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في جلسة السيمنار الأسبوعي بالدوحة موضوع “السلفية في اليمن: بين نقد الحزبية، والعنف، والتسييس”، قدمه لوران بونفوا، الباحث في مركز البحوث الدولية بمعهد الدراسات السياسية في باريس، وهو مختص في العلاقات الدولية، وله العديد من المقالات والكتب تتناول بالدرس شبه الجزيرة العربية والحركات الإسلامية.
عباءة الشيخ مقبل الوادعي
في البداية، قدم الباحث في محاضرته تعريفًا مختصرًا لمفهوم السلفيّة، وأنواعها، ومدارسها الفكرية، وارتباطاتها. وقد نوّه إلى أن التعاريف التي تهتم بالسياق أكثر من العقيدة من شأنها أن تساهم في توضيح طبيعة الحركة السلفية، وطبيعة الفوارق بين أنواعها وتمظهراتها، ذلك أن المدرسة السلفية بصفة عامة تقوم على “الالتزام بالنص” كما جاء في القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة، ورفض البدعة. كما أن غالبية المدارس السلفية وخاصة “السلفية الدعوية” تنظر إلى السياسة بعين الريبة والشك، وتحبذ الابتعاد عنها، كما ترفض “الأحزاب” و”الحزبيّة” لأنها في نظرها تقسّم الأمّة. ولا شك في أن السلفية الجهادية تشارك “الدعوية” في كثير من الأفكار، لكنها تفضّل تحقيق أهدافها لإحداث التغيير في المجتمع عن طريق العنف.
تطرّق الباحث فيما بعد إلى نشأة الحركة السلفية في اليمن بداية الثمانينيات من القرن المنصرم على يد الشيخ مقبل بن هادي الوادعي الذي ينحدر من محافظة صعدة شمال اليمن، إذ عمل على بناء شبكة من المؤسسات السلفية داخل اليمن من خلال “دار الحديث” التي تأسست في دماج، جنوب شرق مدينة صعدة، كنواة لاحتواء المذهب الزيدي، وخرجت منها كل المدارس السلفية المنتشرة في أماكن عديدة في اليمن.
ويبدو أن كل الجماعات والتكتلات السلفية في اليمن خرجت من تحت عباءة الشيخ مقبل الوادعي الذي توفي في العام 2001 تاركا وراءه الآلاف من الطلاب والأتباع الذين نقلوا فكره إلى كل مكان في اليمن، قبل أن يتفرقوا شيعا إلى جمعيات وأحزاب، فمنهم من فضل البقاء على ذات طريقة الشيخ الوادعي في الاكتفاء بالتدريس، ومنهم من قرر التحول إلى النشاط الثقافي والاجتماعي من خلال الجمعيات كما هو حال جمعية الحكمة اليمانية، في حين اتجه البعض الآخر إلى إنشاء أحزاب وتنظيمات سياسية كما هو الحال مع حزب الرشاد الذي يصنف بأنه الأقرب إلى الإخوان المسلمين في اليمن مع مسحة سلفية، وحزب النهضة الذي يتكون من سلفيين من جنوب اليمن.
من الحلقات العلمية إلى جبهات القتال
ويقول مراقبون لمسار الحركة السلفية في اليمن، إن معظم طلاب الوادعي أو الذين تخرجوا في معهده ببلدة دماج بمحافظة صعدة شمال اليمن، منخرطون اليوم في قتال الحوثيين، غير أن القليل منهم فضل النأي بنفسه وعقد صفقته الخاصة مع الحوثيين، كما هو الحال مع محمد الإمام صاحب المعهد السلفي الشهير في مدينة معبر بمحافظة ذمار، ومحمد المهدي في محافظة إب، وفي كل الأحوال بات السلفيون في اليمن ينقسمون إلى ثلاثة تيارات رئيسية بحسب الباحث المتخصص في الجماعات الإسلامية أحمد محمد الدغشي، مؤلف كتاب “السلفية في اليمن: مدارسها الفكرية ومرجعياتها العقائدية وتحالفاتها السياسية”. وتتمثل الأقسام الرئيسية للحركة السلفية في اليمن بصورة عامة إلى ثلاثث تيارات رئيسية هي كالتالي:
التيار الأول: ويعد امتدادا لفكر المؤسس نفسه، وهي الحركة السلفية التقليدية التي توصف بالعلمية أحيانا، وبالماضوية أحيانا أخرى، وتتمثل في مدرسة الشيخ الوادعي وما تفرع عنها مثل مركز معبر بمحافظة ذمار التابع للشيخ محمد الإمام، ومركز الشيخ أبي الحسن السليماني المصري في مأرب، ومراكز مماثلة في محافظات أخرى.
التيار الثاني: ويتمثل في السلفية الجديدة، كجمعيتي الحكمة اليمانية والإحسان الخيرية، وما تفرع عنهما على نحو مباشر أو غير مباشر من أطر سياسية، فالحكمة خرج من عباءتها حزب “السلم والتنمية” الذي أعلن عن الاعتراف به رسميا في 2014، والإحسان خرج من عباءتها كذلك حزب “اتحاد الرشاد اليمني” الذي أعلن عن نفسه في 2012.
التيار الثالث: أما القسم الثالث بحسب الدغشي، فتعبّر عنه السلفية المقاتلة أو الجهادية، وتمثلها “القاعدة”، وهي التي تبلورت في ما بعد وأعلنت عن نفسها مطلع شهر يناير 2008 باسم “تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب”. وهي سلفية المعتقد والمصدر ومنهج الاستدلال، وإن نزعت نحو التأويل الجامح والمتعسف للنصوص لتنسجم مع عقيدتها القتالية.
وعلى مدار العقود الماضية، كان للشبكة السلفية التي أسسها الوادعي دور ملحوظ في الصراعات مع الهويات أو المعتقدات الدينية القائمة ضمن المجتمعات المحلية اليمنية، ولم يقتصر نشاطها على احتواء الزيدية فقط، بل امتد إلى الشافعية، والصوفية، وغيرها من التوجهات بما فيها المدرسة الفكرية المرتبطة بالإخوان المسلمين.
وركزت السلفية اليمنية في بدايتها، خلال الثمانينيات، على الدعوة وكان التيار التقليدي فيها هو المهيمن، لكن مع بداية التسعينيات، بدأت تظهر محاولات للدخول في مجال السياسة تحت عنوان “العمل الخيري”. وتعدّ “جمعية الحكمة اليمانية الخيرية” أبرز العناوين على هذه المحاولات التي فشلت في تحقيق اختراق حقيقي. لكنها ألقت بتداعياتها لناحية الانقسام داخل الحركة السلفية في اليمن، لوجود رافضين لهذه المحاولات، انطلاقًا من مبدأ رفض العمل الحزبي. وهو ما فرض وجود تيارات وتصنيفات مختلفة ومتنافسة داخل المدرسة الفكرية الواحدة.
خلافات ومخاوف
وبحسب الباحث لوران بونفوا فقد أفرزت الاحتجاجات الشعبية اليمنية عام 2011 تصنيفات جديدة، ووفرت وجهات نظر تختلف عما كان سائدًا، داخل القوى السياسية اليمنية وعلى مستوى الحركة السلفية التي انقسمت ما بين تيار تقليدي يعارض الاحتجاجات، ويحاول رفع الشرعية عن هذا الحراك من باب رفض التدخل في السياسة، وآخرين كان لهم موقف مغاير راغبين في المشاركة السياسية من مداخل فقهية مختلفة. وقد دشن تأسيس اتحاد الرشاد السلفي عام 2012 بداية انخراط السلفيين في العمل الحزبي، وقد كانت تجربة حزب النور في مصر تجربة ملهمة لهم حاولوا استنساخها. لذلك، اضطلع اتحاد الرشاد بدور فاعل عادي في الحياة السياسية، وشارك في جلسات الحوار الوطني. وعلى الرغم من انقساماتهم، حظي هؤلاء بدعم من بعض القطاعات المجتمعية وكذلك تمتعوا بدعم سياسي من علي عبد الله صالح؛ وهذا ما جعلهم ضحية للحوثيين الذين رغبوا في القضاء عليهم انطلاقًا من حسابات مذهبية وطائفية فدخلوا في مواجهة مسلحة معهم.
و ركز بونفوا في محاضرته على التطورات السياسية والحرب اللاحقة في اليمن، بعد انطلاق عاصفة الحزم التي كان لها دور في إعادة ترتيب الأولوية والتموضعات ضمن فوارق تراوح بين الأيديولوجية والهوية بمختلف أشكالها وتعريفاتها. وميّز بعد عاصفة الحزم بين أنواع للسلفيين في اليمن، على النحو التالي:
التيار المتمأسس (Institutionalization): يعبّر عنهم تيار هاني بن بريك في جنوب اليمن، وهو يعدّ أحد أبرز المتحالفين مع عاصفة الحزم، ويتبنى توجهات انفصالية.
التيار الجهادي (Jihadization): يعبر عنها أبو العباس، وكان أحد طلاب الوادعي في دماج، ويقود فصيلًا ضد الحوثيين في المدينة.
تيار نقد الحزبية (Re-quietisation): ويعبّر عنه يحيى الحجوري أحد أنصار التيار التقليدي. وعلى الرغم من مواقفه المحافظة لجهة الانخراط في السياسة، فإن له موقفًا عدائيًّا واضحًا وسابقًا تجاه الحوثيين؛ ما جعله يؤيّد عاصفة الحزم.
تيار التهميش (Marginalization): ومن أبرزهم عبد الوهاب الحميقاني الذي صُنّف على لائحة الولايات المتحدة الأميركية للإرهاب.
تحولات كبيرة
من جهة أخرى، يرى الباحث اليمني أحمد الدغشي أن الحركة السلفية في اليمن شهدت تحولا كبيرا في مسارها التنظيمي لتتجزأ إلى فرق وجماعات شتى تتباين في ما بينها حول البقاء على الشكل التنظيمي القديم الذي أسسه الوادعي.
ويقول أن السلفية في اليمن تفرقت بعد رحيل مؤسسها، ويؤكد أن الافتراق حصل بين السلفية التي تقبل الحزبية وبين تلك التي ترفضها بعد عقد من التأسيس، أي في 1991، حيث لاحظ بعض طلبة الشيخ الوادعي وأنصاره الذين أضحوا يعيشون في المدن، الحركة الاجتماعية وأوضاع الناس الصعبة، وأهمية الإدارة والسياسة، ومدى تأثير العمل الخيري، مما يساعد في جذبهم إلى السلفية، فبدأوا في ذلك التاريخ بإنشاء جمعية الحكمة اليمانية الخيرية، تلتها بعد عامين جمعية الإحسان الخيرية، ليعدّ ذلك دعوة للتحزب وخروجا من دعوة السلف وأهل السنة التي لا تبيح ذلك في نظره، ومن ثم شن عليهم حملة اتهمهم فيها بكل نقيصة، مما قاد إلى افتراق تام بين أصحاب الجمعيتين والمؤسس الوادعي ومن ظل معه. ثم حصل انشقاق كبير بين أتباعه بعد وفاته، حيث خلف الشيخ الوادعي تلميذه يحيى الحجوري، والذي لحقته آثار الصراع السياسي والعقائدي إلى معتزله في قرية دماج حيث قام الحوثيون في 2011 بحصار القرية حتى انتهى الأمر بخروج الشيخ الحجوري وطلابه منها، وهو ما عده البعض أول حادثة تهجير في تاريخ اليمن الحديث.
(المصدر: إسلام أونلاين)