السلفية الربانية.. والصوفية الربانية
بقلم عمر جركس
لطالما سمعت في صغري هذين المصطلحين في المساجد التي كان والدي جزاه الله خيرا يصطحبني إليها وفي محادثات الكبار ومزاحهم كلما اجتمعوا: هذا مسجد سلفي وهذا مسجد صوفي! هذا شيخ سلفي وهذا شيخ صوفي! هذا يحمل الفكر السلفي وهذا يحمل الفكر الصوفي!
فما السلفية؟ وما الصوفية؟
هل هما فكران أم مذهبان أم طائفتان أم حركتان أم جماعتان من الجماعات الإسلامية؟
ظلت هذه الأسئلة تراودني في سنِّ المراهقة والشباب، وأصبحت تجذب انتباهي وتشغل تفكيري أكثر فأكثر بعد أن تجاوزت العشرين وبدأت ملامح تشكيل الهوية في شخصيتي وكياني تلح علي حتى يستقيم أمرها وتجد لها مرفأً ترسو عليه.
اليوم وقد تجاوزت الثانية والثلاثين من عمري وقد منَّ الله عليّ بأسرة مكونة من زوجة و3 أولاد، وقد منَّ علي أيضا بالتخرج من الجامعة وبسنوات من الممارسة والخبرة العملية في مجالات مختلفة، مما أدى إلى (شبه) اكتمال تشكيل هويّاتي المتعددة كهويتي العقدية، وهويتي الفكرية، وهويتي المهنية، وهويتي الوطنية، أشعر أنني قد توصلت إلى خلاصة بخصوص مفهومي الشخصي للسلفية وللصوفية، وهي خلاصة مرضية على الأقل لنفسي الفضولية اللحوحة التي لا تهدأ إلا إذا فهمت كنه الأشياء.
لذلك أحببت أن أشارككم في هذه التدوينة خلاصة ما توصلت إليه في بحثي عن معنى السلفية والصوفية.
تعريف موجز
لا بد في البداية من تعريف سريع. لا أرغب في أن أعرف بشكل أكاديمي كما هو معتاد في المقالات الأكاديمية، والسبب أنني لن أستند في تدوينتي هذه إلى أي مصدر على الإطلاق. إنما سأكتب من وحي ما قرأته أو سمعته في محاضرة (دون الرجوع والتدقيق) ومن وحي تجربتي الشخصية مع السلفية والتصوف.
- السلفية كما أفهمها هي فهم وممارسة الإسلام كما فهمه ومارسه السلف الصالح من قرون الإسلام الأولى من صحابة وتابعين وتابعي التابعين بلا تغيير ولا تبديل ولا ابتداع.
- التصوف كما أفهمه هو صفاء الروح وممارسة الإسلام بدرجة عالية من الروحانية والحضور.
اعتنت السلفية بالحرص الشديد على التمسك بالكتاب والسنة، وبمعان قرآنية عظيمة كالتوحيد، ورسوخ العقيدة، والتمسك بالنصوص، والابتعاد عن الشبهات.
اعتنت الصوفية بالجانب الروحي لتعاليم الإسلام، وبمعان قرآنية عظيمة كالخشوع، وصفاء القلب، والصلة بالخالق، والروحانية، والحضور، والرقة، والتذلل إلى الله، ومداومة الذكر والأوراد.
الولادة
متى بدأت السلفية ومتى بدأت الصوفية؟
لا أظن أنه يمكن تحديد بداية كل من السلفية أو الصوفية، أو نسبة إحداهما إلى شخص بعينه. إنما ظهر كل من المنهجين في ربوع دول العالم الإسلامي مبكرا كتطور طبيعي لتعاليم الإسلام العظيمة الواسعة الرحبة والتي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها بالتزامن مع الفتوحات الإسلامية الكبيرة.
أما التصوف فهو موجود قبل الإسلام وفي أغلب الأديان على مر الزمان حتى ولادة الإسلام. التصوف أو الروحانية حاجة روحية موجودة عند جميع البشر. وبالتالي فإن التصوف منهج حياة اتخذه كثير من الأفراد على مر الزمان. فمن كان متصوفا أو “روحانيا” قبل الإسلام ثم منّ الله عليه بالإسلام، فمن الطبيعي أن يبحث هذا الشخص عن الروحانية في الإسلام. بل انه سيجد في تعاليم الإسلام روحانية أكثر مما كان يجده في ما كان يدين به قبل الإسلام. فهذه هي حال الإسلام، جاء ليغطي ويلبي ويتفاعل ويضبط جميع الحاجات التي أوجدها المولى جل وعلا في النفس البشرية كالحاجة الروحية والنفسية والمادية والعاطفية.
والسلفية هي تفاعل وتعامل طبيعي مع الإسلام من قبل العلماء. فمن الطبيعي أن يحرص حملة هذا الدين “الجديد” بعد نشوئه أشد الحرص على بقاء تعاليم دينهم صافية منقاة من كل شائبة تشوبه. فمنهم من تلقى هذا الدين مباشرة من ينبوعه الأصيل نبي الله ومصطفاه محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه وهم صحابته رضوان الله عليهم وحملة هذا الدين العظيم إلى سائر خلق الله. ومنهم من تلقى الإسلام من صحابة رسول الله وتعلموا وتتلمذوا على أيديهم وهم التابعون. ومنهم من تلقى الإسلام من هؤلاء التابعين الأخيار وهم تابعو التابعين.
ومع تزايد أعداد المسلمين في شتى بقاع الأرض نتيجة الفتوحات الإسلامية العظيمة واختلاط المسلمين مع ثقافات وفلسفات عريقة ومتأصلة في البلدان الجديدة، ازداد حرص علماء الإسلام على تعاليم دينهم، ونصّبوا أنفسهم حراسا على علوم الدين من أن تشوبها أي شائبة أو تتسلل إليها أي ضلالات من الثقافات والفلسفات الغريبة.
تصنيف
إن أقرب تصنيف انتهيت إليه هو أن كلا من الصوفية والسلفية أسلوب تعامل مع الإسلام. فمن الناس من تعامل وتفاعل مع الإسلام بالأسلوب أو المنهج السلفي، ومنهم من تعامل وتفاعل معه بالأسلوب أو المنهج الصوفي.
ويبقى السؤال الأكثر تداولا هو: هل هناك تعارض بين المنهجين؟ هل هما ضدان متنافسان؟
من المؤسف أن ظاهر الأمر وما يشاع بين عامة الناس في مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات المرئية أن السلفية والصوفية ضدان متعارضان متنازعان لا يلتقيان بأي حال من الأحوال إلا في انتساب كل منهما إلى الإسلام.
ومن المؤسف أيضا أن غالبية من ينتسبون إلى المنهج الصوفي يرون السلفية ضدا لهم وأنهم أهل تشدد وتعصب في الدين، والعكس صحيح، فالغالبية من المنتسبين إلى المنهج السلفي يرون أن الصوفية ضدٌ لهم وأنهم أهل ابتداع وضلالات وشعوذات.
وبالتالي فإن الانطباع العام لدى عامة المسلمين هو أن السلفية والصوفية منهجان متعارضان متناحران لا يلتقيان.
ولكن حقيقة الأمر -في اعتقادي- أن هذه الصورة وهذا الانطباع العام وهذا المنظور خاطئ. ولا ينبغي أن ننظر إلى السلفية والصوفية نظرة أبيض وأسود أو نظرة يمين ويسار.
فلكل من المنهج السلفي والصوفي علماؤه الأفذاذ الثقات، ولكل منهما تاريخه وتأثيره الإيجابي في الأمة الإسلامية عبر التاريخ وحتى يومنا هذا.
علماء السلفية والصوفية قدموا للأمة وللعلوم الشرعية ما يثري كل بيت مسلم وكل طالب علم. ولا ينكر علمهم وفضلهم إلا جاحد أو جاهل بالإرث والأثر العظيم الذي خلّفوه قبل رحيلهم عن هذه الدنيا.
الشذوذ والتطرف
كما هي الحال في كل فرقة أو جماعة أو منهج إسلامي أو غير إسلامي، فإنك تجد من يتطرف في فكره ويشذ في سلوكه حتى ينحرف عن الطريق القويم بسبب ارتباكات في فكره وشخصيته، وليس بسبب المنهج الذي انتهجه هذا الشخص. فإنك تجد في الصوفية من انحرف كل الانحراف عن الصوفية الحقيقية وصار سلوكه أقرب إلى الشعوذة والطقوس التي لا تمت للإسلام بصلة. وإنك تجد في السلفية من انحرف كل الانحراف عن السلفية الحقيقية وصار سلوكه أقرب إلى التشدد والغلظة في الدين المنفرة.
ولا يصح أن نعمم وننسب شذوذ أفراد إلى منهج بكامله.
الاختلاط بالسياسة
إن من أكبر أسباب تشويه صورة كل من المنهج السلفي والصوفي لدى عامة المسلمين عبر التاريخ وحتى يومنا هذا، هو استغلال السلطات السياسية للدين، وتوريط بعض علماء السلفية والصوفية في انخراطهم وجرهم إلى مستنقع السياسة المليء بالمخاطر والفتن.
ولا يصح أن نتهم منهجا بكامله بالخيانة لمجرد قيام بعض علماء السلطان ببيع آخرتهم من أجل إرضاء الحكام.
التصوف السلفي والسلفية الصوفية.. هل يلتقيان؟
برز في ميدان الدعوة والعمل في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مجموعة من العلماء الربانيين الذين أحدثوا تغييرا جذريا في النظرة المباعدة بين السلفية والصوفية. يطلق عليهم البعض اسم رواد الحركة الاصلاحية أو رواد التيار الوسطي. جمع دعاة هذا التيار بين خيري الصوفية والسلفية في طرحهم.
من أبرز رموز هذا التيار الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وابن باديس وابن عاشور والإمام حسن البنا الذي عرف عنه مقولته الشهيرة معرفا بجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها في عشرينيات القرن الماضي: “نحن دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية”.
فكان من عبقرية الدعاة إلى هذا التيار المبارك رحمهم الله تعالى أنهم جمعوا بين خيري السلفية والصوفية، وكانوا دائما يركزون على الجانب الروحي في دعوتهم، وكانوا في الوقت نفسه حريصين كل الحرص على أن لا يُخرَجَ عن المصدرين الأساسيين من مصادر التلقي في الإسلام: كتاب الل،ه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فخرج من رحم هذا التيار المبارك والطرح الجديد الموفق جمعٌ غفير من علماء الإسلام الربانيين، سلفيون في تمسكهم بالكتاب والسنة وصوفيون في روحانيتهم وخشوعهم وصلتهم بالله عز وجل كالشيخ محمد الغزالي، وسيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي، ومحمد البشير الإبراهيمي، ومصطفى السباعي، ويوسف القرضاوي، ومحمد الحسن ولد الددو الشنقيطي وغيرهم كثير.
السلفية الربانية والصوفية الربانية
خلاصة ما انتهيت إليه في بحثي عن معنى السلفية والصوفية أن كل صوفي رباني هو سلفي في طبيعة الحال والعكس صحيح. إن كل سلفي رباني هو صوفيٌّ في طبيعة الحال. ولا بد للسلفي من صوفية وروحانية ترقق قلبه وتستدعي في وجدانه أجمل مشاعر الحضور والخشوع والتذلل والحب الإلهي. ولا بد للصوفي من سلفية تضبط روحانيته بالنصوص الصحيحة الصافية المنقاة من أي شبهة.
فالسلفية شرط للصوفية الربانية، والصوفية شرط للسلفية الربانية.
المصدر: مدونات الجزيرة