السلطة القضائية في الفكر السياسي الاسلامي
القضاء منصب عظيم وسلطة خطيرة، له مكانة مهمة في الدين، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء، نص عليه الكتاب والسنة والإجماع، وسُلْطَة القضاء تتمثل في قوة أحكامه وفي عدالته من حيث كونه يرفع الظلم والجور عن المظلومين، كما أن سُلْطَة القضاء تضمن للقاضي القدرة على القيام بمهامه، حيث إن عدالة القضاء ونزاهته في كل بلد لهو دليل على رقيه الأَخْلَاقي، وعلى استتباب الأمن فيه، وفيه دليل على مدنية متحضرة متمسكة بمبادئها مخلصة لوطنها، لذلك تحرص الأمم على قوة القضاء وعدالة القضاة، وإبعاد مؤثرات أصحاب النفوذ عنهم من أي جهة كانت، سواء كانت من أصحاب السُلْطَة القائمين بالوظائف أو أرباب الأموال وبعيدًا عما يصرفه من أداء واجبه في مهنته على الوجه المشرف المنوط به، والمتمثل في تحقيق العدل بين النَّاس ولا تأخذه في الله لومة لائم، ومن أجل ذلك وضعت حصانة القضاة وعدم جواز عزلهم ونقلهم وتأديبهم، إلا في الإطار القانوني من قبل مجلس يؤلف من كبار القضاة، وذاك حتى لا يتعرضون لأي انتقام أو غضب من وزير أو مسؤول إذا حكموا في مسألة تخالف هواهم أو مصلحتهم.
أما شروط القَاضِي فهي: ألا يولَّى قاض حتى تجتمع فيه شروط البلوغ والعدل والإسلام والحرية والذكورة وسلامة الحواس، والعدالة، والاجتهاد من معرفةٍ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والاختلاف، والقياس، ولسان العرب، أي اللُّغَة العربية. وذلك على خلافٍ بين الفُقَهَاء في بعض هذه الشروط.
والقضاء من أجّل الوظائف وأسمى الأعمال، وهو من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله تعالى، وقد قام الله به جل جلاله، وبعث به رسله، فقاموا به صلوات الله وسلامه عليهم أتم قيام، وقام به من بعدهم أئمة العدل.
فوظيفة القضاء وظيفة سامية يراد منها إقامة العدل بين النَّاس، ولا يستقيم حالهم إلا به دفعًا للظلم، وكبحًا للشر؛ لأن الظلم في الطباع، فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم، ويسعى لإقامة العدل الذي هو قوام الأمر وحليته،
كفالة الشريعة الإِسْلَامِيَّة لحق التقاضي
منحت الشريعة الغراء لكل إنسان داخل دار الإسلام الحق في أن يتداعى أمام القضاء الإِسْلَامِيّ لإنصافه، ودفعًا لأي ظلم يقع عليه، وجميع الأفراد متساوون في ذلك، لا فرق بينهم بسبب الأصل، أو الجنس، أو الطبقة، أو اللون، أو الثروة، ولا يقتصر هذا الحق على المُسْلِمين فقط، بل هو للذميين أيضًا، بل لقد منحته شريعة الإسلام للمستأمنين، وهم في الأصل من رعايا دار الحرب.
وتمتع كل إنسان داخل دار الإسلام بحق التقاضي بلا تفاضل بين النَّاس في ذلك، إنما ينبثق من عدالة هذه الشريعة وإعلانها لمبدأ المساواة بين بني الإِنْسَان، إذ إن مَنْعُ الفردِ من اللجوء للقضاء للمحافظة على حقوقه يمثل انتهاكًا خطيرًا لمبدأ المساواة الذي يعتبر سمة من سمات الشريعة الإِسْلَامِيَّة كما أن هذا المنع في ذاته أيا كان سببه ظلمٌ تأباه عدالة الإسلام.
ففي شريعة الإسلام لا يوصد باب التقاضي أمام البعض ويفتح أمام البعض الآخر، ولا يجوز إنشاء محاكم خاصة بفئات خاصة أو طبقات معينة من النَّاس على أساس إنشاء امتياز لهذه الفئات أو الطبقات على غيرهم من الأفراد، لما يمثله ذلك من إخلال بمبدأي العدل والمساواة.
وتاريخ القضاء الإِسْلَامِيّ قاطع في أن القضاة كانوا دائمًا مستقلِّين في عملهم، لا سلطان لأحدٍ عليهم إلا لله، ولا يخضعون في قضائهم إلا لما يقضي به الحق والعدل.
والشريعة الإِسْلَامِيَّة شريعة المساواة والعدل، وأساسها القوي الذي تعتمد عليه في تشريعها الأحكام، والإلزام بها هو العقيدة الدِّينِيّة.
ومن هذا المنطلق كانت معاملتها للمسلم حسبما تقتضي عقيدة الإسلام، ولغير المسلم كما تقضي عقيدته الدِّينِيّة.
ومن هنا اختلف تطبيق بعض النصوص، ولم يكن إلزام المسلم والذمي بها على حد سواء.
وليس هذا من باب الاستثناء الذي يرد دائمًا في القوانين الوضعية، وإنما هو من باب تأكيد مبدأ العدالة، إذ كيف أن تسوي بين اثنين بالحكم عليهما في قضية واحدة لارتكابهما فعلًا واحدًا بحكم متماثل، بينما عقيدة أحدهما تبيح بالفعل، وعقيدة الآخرة تجرمه.
وعلى سبيل المثال لا يمكن أن تحكم بحكم متماثل ومتساو على كل من مسلم وذمي شربا خمرًا؛ إذ إن عقيدة المسلم تجرم ذلك تجريمًا حديًا، أما غير المسلم فقد يعتقد طبقًا لما تعلم إباحة شرب الخمر، وعدم تجريمه.
(المصدر: ساسة بوست)