مقالاتمقالات مختارة

السلطان مراد الأول

بقلم شريف عبدالعزيز الزهيري – موقع الألوكة

السلطان مراد الأول

بطل كوسوفا وقاهر الصرب

مقدمة:

عندما قام أعداء الاسلام “الصرب” الملقبين بخنازير أوروبا بحربهم الشعواء على المسلمين بالبوسنة، تعجب الناس في كل مكان حتى في أوروبا نفسها ومن الأعداء مثلهم من بشاعة المجازر التي اقترفها هؤلاء الخنازير في حق المسلمين، ومدى القسوة والشراسة والتنكيل الذي فعلوه بالمسلمين، حيث لم يتركوا صغيرًا ولا كبيرًا ولا رجلًا ولا امرأة، والصور المروعة للتمثيل بالجثث وما فعل بالمسلمين ما زال لطمة قوية على وجه أوروبا التي تدعي ليل نهار رعاية حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات، ولما سئل الصرب عن ذلك قالوا: إننا ننتقم مما أصابنا في معركة كوسوفا على يد المسلمين!!

فما هذه المعركة؟

ومن هو بطلها الذي ظل كابوسًا يقلق مضاجعهم حتى يثأروا من إخوانه بعد أكثر من ستمائة سنة؟

هو البطل الذي لا يعرفه معظم المسلمين الآن وهو ما سنتحدث عنه.

السلطان مراد الأول:

كانت منطقة آسيا الصغرى أو الأناضول من البقاع الهامة والخطيرة في نفس الوقت من العالم القديم حيث كانت تربط بين العالم الإسلامي والدولة البيزنطية العدو التقليدي والقديم للدولة الإسلامية، وكانت منطقة الأناضول منقسمة لعدة إمارات في أغلبها ضعف وتفرق، ولربما متحارب مع الجيران، وحالها أشبه ما يكون بحال دولة الطوائف بالأندلس، فقيض الله عز وجل للأناضول الدولة العثمانية التي ستوحد هذه الإمارات المتفرقة وذلك ابتداءً من قيام الدولة العثمانية سنة 699 هجرية.

كان أول من قاد الدولة العثمانية هو “عثمان بن أرطغرل” الذي حكمها من سنة 699 هجرية حتى سنة 726 هجرية، ومن بعده “أورخان الأول” الذي حكمها من سنة 726 هجرية حتى سنة 761 هجرية، وخلال هذه الفترة اهتم القائدان بتثبيت أركان الدولة الناشئة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وإداريًا، لذلك كان حجم الدولة العثمانية ما زال صغيرًا ولم تحقق شيئًا من أهدافها المعلنة وذلك لمراعاة سنة التدرج في قيام الدول والمجتمعات القوية التي سيناط بها بعد ذلك أعظم المهام الجسام.

استلم السلطان “مراد الأول” قيادة الدولة العثمانية سنة 761 هجرية وحجمها ومساحتها خمسة وتسعين ألف كيلو متر مربع، ولم يكن للدولة العثمانية أي قواعد بأوروبا ما عدا ميناء “غاليبولي” ولم تكن أية إمارة أناضولية انضمت للدولة العثمانية سوى إمارة “قره سي”.

لذلك كان على السلطان “مراد الأول” العمل على جهتين:

الأولى: توحيد الأناضول الذي يعتبر ثغر الإسلام.

والثانية: أوروبا النصرانية حيث الدولة البيزنطية.

والهدف المنشود الذي قامت من أجله الدولة العثمانية هو “فتح القسطنطينية”.

الضربة الخاطفة:

من أول عام تسلم فيه “مراد الأول” القيادة عمل على إيجاد نقطة استراتيجية للعثمانيين بأوروبا، وبالفعل استولى على مدينة “أدرنة” البلقانية سنة 762 هجرية في ضربة خاطفة للدولة البيزنطية؛ لأن هذه المدينة كانت من أهم المدن بعد العاصمة القسطنطينية، وفورًا اتخذ مراد الأول قرارًا استراتيجيًا في غاية الذكاء والحكمة السياسية والعسكرية، حيث جعل هذه المدينة “أدرنة” عاصمة للدولة العثمانية، وذلك من أجل الاستفادة من موقع “أدرنة” الاستراتيجي ودفاعاتها الحصينة في نقل الحرب إلى قلب الجبهة الأوروبية وظلت “أدرنة” عاصمة الدولة العثمانية حتى فتح القسطنطينية سنة 857 هجرية.

وكان لنقل الوجود الإسلامي إلى الجبهة الأوروبية أثر شديد ورنة كبيرة عند نصارى أوروبا، وسرعان ما سقطت عدة مدن: “فليبه”، “كلجمينا”، “وردار”، وبالتالي صارت القسطنطينية محاطة بالدولة العثمانية من كل مكان في الجبهة الأوروبية.

السلطان مراد وتوحيد الأناضول:

كان الهدف المعلن الذي قامت من أجله الدولة العثمانية هو فتح القسطنطينية ونشر الإسلام بأوروبا، لذلك كانت كل تحركات سلاطين هذه الدولة من أجل تحقيق هذا الهدف، فلما اعتلى “مراد الأول” سدة الحكم العثماني جعل أولى مهامه توحيد الأناضول، أي الجبهة الداخلية وقاعدة الانطلاق الأولى للتمكين والظفر على أوروبا واتبع “مراد الأول” سياسة حكيمة من أجل هذا التوحيد، حيث عمل على مصاهرة ومعاهدة أمراء الأناضول من أجل الضم السلمي لمقاطعاتهم.

اصطدم “مراد الأول” بعدو لدود اسمه “علاء الدين” وكان أمير القرمان الذي وقف سدًا منيعًا أمام محاولات “مراد التوحيدية” واستنهض هذا الأمير باقي أمراء الأناضول من أجل محاربة “مراد الأول” فاضطر “مراد” لأن يقاتلهم مع كراهيته لهذا القتال لكونه ضد مسلمين ولكنهم للأسف كانوا عقبة كؤودًا في طريق التمكين والفتح الإسلامي، وأنى لصف متفرق ومختلف أن يتمكن أو ينتصر.

استطاع “مراد الأول” أن يحشد جيشًا قويًا لمنازلة أمراء الأناضول الرافضين للوحة، وهزم “مراد” “علاء الدين” ودخل مدينة أنقرة عاصمة “القرمان”، وعفا “مراد الأول” عن عدوه “علاء الدين” وحاول استمالته بأن تزوج من ابنته ليضمن أمن شره ومكره، ولكن هذه المصاهرة لم تطفئ نار الحقد في قلب علاء الدين، فتآمر مرة أخرى مع بعض الأمراء المستقلين في الأناضول وشنوا حربًا قوية ضد “مراد الأول” ولكنه انتصر عليهم مرة أخرى في معركة “سهل قونية” ووقع “علاء الدين” في الأسر وعفا “مراد الأول” عنه مرة أخرى، وقام “مراد” بتزويج ابنه “يزيد” من ابنة أمير كرميان، فقدم الأب مدينة “كوتاهية” لابنته، فضمت إلى الدولة العثمانية، ثم ألزم أمير دويلة الحميد بالتنازل عن أملاكه للدولة العثمانية.

وهكذا نرى كم استهلك “مراد الأول” من الوقت والجهد والمال من أجل توحيد الصف المسلم، ولو أن أمراء الأناضول كانوا على نفس المستوى الإيماني والأخلاقي والشعور بالمسؤولية تجاه قضية دعوة الإسلام ونشرها لسارعوا بالانضمام تحت لوائه في حربه ضد أوروبا، ولكن الأطماع والأهواء وحب الرياسة والدنيا دائمًا ما تكون صخرة صلدة تتحطم عليها آمال وأحلام المخلصين من هذه الأمة.

وبعد هذا الجهد الجهيد استطاع “مراد الأول” أن يوحد الصف الداخلي استعدادًا للهدف الحقيقي والجهاد الأكبر على الجبهة الأوروبية.

الفتوحات الأوروبية:

بعدما وحد “مراد الأول” الجبهة الداخلية للمسلمين، يمم “مراد” وجهه إلى الجهة الأصلية حيث أوروبا والدولة البيزنطية، وبعد الضربة الخاطفة التي قام بها “مراد” بالاستيلاء على مدينة “أدرنة” البلقانية وحولها إلى عاصمة للدولة العثمانية لجعلها قاعدة الانطلاق على أوروبا، قام “مراد” بضربات سريعة وخاطفة في منطقة البلقان، فاستولى على مدينة “فليبه”، و”كلجمينا” و”وردار” وكان هذا السقوط نذير خطر لدى الدولة البيزنطية التي أصبحت عاصمتها القسطنطينية محاطة بالعثمانيين من كل اتجاه.

أدخلت هذه الضربات السريعة والخاطفة الرعب في قلوب نصارى أوروبا فجددوا العزم على إعادة شعار الحملات الصليبية وقد توقفت منذ قرن وزيادة من الزمان، وأرسل أمراء أوروبا المجاورين للدولة العثمانية رسائل استغاثة وطلب شرعية لقتالهم ضد المسلمين من بابا روما، بل ذهب إمبراطور القسطنطينية “يوحنا باليوج” لأبعد من ذلك حيث ذهب بنفسه إلى البابا وركع أمامه وقبَّل يديه ورجليه وبللهما بالدموع وطلب منه إعلان الحرب الصليبية المقدسة ضد المسلمين، هذا على الرغم من الخلاف المذهبي العميق بين الطرفين؛ فهذا أرثوذكسي وذلك كاثوليكي، والعداوة بينهما قديمة وشديدة ولكنهما على الإسلام والمسلمين يدًا واحدة، فوافق البابا على طلب إمبراطور القسطنطينية شريطة أن تخضع الكنيسة الشرقية “الأرثوذكسية” للكنيسة الغربية “الكاثوليكية” واضطر “يوحنا باليوج” للقبول لهذا الشرط المذل.

عاقبة التهور:

أدى إعلان البابا “أوربان الخامس” الحرب الصليبية على المسلمين العثمانيين لاشتعال الحمية والحماس في قلوب ملوك وأمراء شرق أوروبا والمجاورين للدولة العثمانية، هذا الحماس جعل ملك “المجر” الحاقد “أوروك الخامس” بالاتحاد مع أمراء من الصرب والبوسنة ورومانيا، يقرر الهجوم على الدولة العثمانية دون انتظار لما سوف يرسله البابا من إمدادات، ليكون له قصب السبق ونيل الشرف في الانتصار على الدولة العثمانية، واستغل فرصة انشغال السلطان “مراد الأول” في قمع بعض الحركات الداخلية في منطقة الأناضول وهجم بجيش يقدر بستين ألف مقاتل على مدينة “تشيرمن” عند نهر “مارتيزا”.

كان قائد الحامية العثمانية في المدينة بطلًا مشهورًا في صفوف العثمانيين اسمه “لالا شاهين” وكان صاحب دهاء وخبرة عسكرية كبيرة وشديد الثبات والتمرس في قتال الأوروبيين، فاستطاع هو وجنوده البواسل أن ينزلوا بالتحالف الصليبي هزيمة ساحقة رغم الفارق الكبير بين الجيشين، وغرق أمراء الصرب عند فرارهم من المعركة في نهر “مارتيزا” ونجا ملك المجر الصليبي “أوروك الخامس” بشق الأنفس، وعاد إلى بلده يجر أذيال الخيبة ويضمر نية المعاودة إذا سنحت له الأقدار.

مراد المرعب:

كان انتصار العثمانيين على التحالف الصليبي الذي قاده ملك المجر “أوروك”كابوسًا يقلق مضاجع نصارى أوروبا عمومًا وملوك وأمراء البلقان خصوصًا، وكان الكابوس يزداد سوءًا عليهم لأن أحد قادة الجيش العثماني هو الذي انتصر عليهم وليس السلطان مراد نفسه، مما ألقى الرعب في قلب “أوروك الخامس” وجعله يحجم عن أدنى مشاركة في القتال ضد العثمانيين خشية أن يقتل هو نفسه هذه المرة.

عندما رأى أمراء البلقان إحجام “أوروك” عن معاودة القتال ضد المسلمين، اتفق رجلان على تولي زمام المبادرة ضد العثمانيين، وهما ملك الصرب “لازار بليانوفيتش” وأمير البلغار “سيسمان” وقد جمعهما الحقد والكراهية والعداوة المتجذرة ضد المسلمين عمومًا والعثمانيين خصوصًا، وجمعهما أيضًا الخوف من ضياع ملكهم وبلادهم.

أعد الرجلان جيشًا كبيرًا لقتال العثمانيين في منطقة جنوب البلقان، ولكن بعد مناوشات خفيفة مع الحميات العثمانية بالبلقان، أدرك الصليبيون مدى ضعفهم مقارنة بالأسود العثمانيين، فاضطروا إلى قبول الخزي والصغار ودفعوا الجزية للسلطان “مراد الأول”، وحتى يأمن “سيسمان” جانب العثمانيين قدم ابنته الأثيرة زوجة لسلطان “مراد الأول”، وبالفعل تزوجها “مراد” مما يوضح مدى الرعب الذي دخل في قلوب نصارى أوروبا من ناحية “مراد الأول”.

نتيجة لتأخر الصرب والبلغار في دفع الجزية السنوية، اندفعت الجيوش العثمانية لتأديب المتمردين وقامت بفتح بعض المدن الصربية في جنوبي “يوغوسلافيا” اليوم، ثم قامت بفتح مدينة “صوفيا” سنة 784 هجرية بعد حصار دام ثلاث سنوات، ثم فتحت مدينة “سالونيك” المقدونية وهي تقع الآن في اليونان، وهكذا نرى الرد العثماني القوي والرادع للخارجين والمتمردين.

استحق السلطان “مراد الأول” بحق لقب مرعب أوروبا وكابوسها الأول بعدما بلغت درجة الرعب من سطوة وقوة “مراد الأول” درجة جعلت إمبراطور “بيزنطة” “يوحنا باليوج” يقوم بقتل ولده “أندرونيكوس” خوفًا من بطش “مراد الأول” ذلك لأن “أندرونيكوس” تحالف مع بعض الخارجين على “مراد الأول”.

بين المطرقة والسندان:

في عز الانتصارات التي يجني المسلمون ثمارها على الجبهة الأوروبية، وقعت عدة حوادث خطيرة على الجبهة الداخلية للدولة العثمانية، ذلك أن الأمير “علاء الدين القرماني” الذي ذاق مرارة الهزيمة من “مراد الأول” عدة مرات وكل مرة يعفو عنه ويصفح، كان ما زال يقتات على أحقاده وضغائنه ضد العثمانيين حتى امتلأ بالسواد وانعقد على التمرد والثورة مرة أخرى رغم العفو والصفح والمصاهرة من جانب “مراد الأول”، واستغل “علاء الدين” انشغال العثمانيين بالجهاد على الجبهة الأوروبية، وشن عدة هجمات قوية بالاشتراك مع أمراء مقاطعات “منتشا، إيدين، صاروخان” وحقق عدة مكاسب محدودة.

عاد مراد الأول مسرعًا للأناضول للقضاء على هذه الفتنة الناشئة قبل أن يستفحل أمرها وتهدد الكيان العثماني كله، وهذا من فقه الحاكم بترتيب الأولويات، ذلك لأن ترك هؤلاء المتمردين بالداخل يعصف بالدولة العثمانية وهيبتها أمام عدوها الخارجي وكلما كان الصف المسلم ملتحمًا ومتماسكًا كلما كان أقوى وأجدر على منازلة عدوه الخارجي.

استغل الصليبيون بدورهم هذه الحادثة الخطيرة وانشغال “مراد الأول” بحرب الأناضول، وقرروا إعداد تحالف صليبي جديد لاسترداد ما استولى عليه العثمانيون بالبلقان، فتحالف الصرب والبلغار والبوسنيون، وأعدوا جيشًا كثيفًا، واستطاعوا تحقيق عدة مكاسب محدودة على الحامية العثمانية في جنوب الصرب، وهكذا أصبح العثمانيون بين المطرقة والسندان.

مراد الأول بطل كوسوفا:

كان الموقف عصيبًا والأحوال مضطربة، وكان لا بد من اتخاذ موقف حازم وحاسم، لا يقدم على فعله إلا رجل من طراز بطلنا المغوار “مراد الأول” الذي قرر وبسرعة العمل على جبهتين وفتح عدة محاور قتالية ضد أعداء الإسلام من الطرفين، ونظرًا لخبرة القادة العثمانيين في قتال الأوروبيين فلقد أرسل “مراد” بعض قادته المغاوير لقتال التحالف الصليبي بالبلقان، واتجه هو بنفسه لقتال “علاء الدين” ومتمردي الأناضول، ذلك لأن جنوده كانوا يكرهون قتال المسلمين بالأناضول، فكان حتمًا عليه أن يقود الجيش بنفسه ليقنع جنوده بعدالة قتالهم وشرعيته ضد الخارجين والمفرقين لوحدة الصف المسلم.

كانت الانتصارات الصغيرة التي حققها التحالف الصليبي بالبلقان دافعًا ومشجعًا لأمير البلغار “سيسمان” لأن ينقض عهده مع المسلمين ويحاول الهجوم على حدود الدولة العثمانية نفسها، ولكنه فوجئ بما ليس له به طاقة من الجيوش العثمانية الجرارة التي داهمته كالإعصار الهادر، ففر كالفأر المذعور ناحية الشمال، واعتصم بمدينة “نيكوبلس” في شمال بلغاريا، ولاحقته الجيوش العثمانية وضربت على المدينة حصارًا محكمًا، حاول هو فكه عدة مرات ولكنه فشل، وفي النهاية وقع أسيرًا بيد المسلمين وكان الواجب على “مراد الأول” أن يقتله جزاءً لخيانته ولكنه وكعادته عفا عنه بعدما أخذ نصف بلاده وضمها للدولة العثمانية.

لم يكن عفو “مراد الأول” عن “سيسمان” إلا لعلمه أنه أحمق ومجرد أداة في يد المحرض الأول والحقيقي ضد المسلمين، ونعنى به رأس الأفعى الصليبية “لازار” ملك الصرب، وكان هذا الحاقد قد أعد جيشًا قويًا وأسرع به لنجدة “سيسمان” المحاصر بمدينة “نيكوبلس”، ولكنه وصل متأخرًا بعدما وقع “سيسمان” أسيرًا، فانسحب بجيوشه ناحية الغرب بسرعة ليدخل بلاده ويحتمي بحصونه قبلما يصل إليه العثمانيون.

في هذه الفترة كان “مراد الأول” قد انتهى من حروب الأناضول وتحول مسرعًا إلى الجبهة الأوروبية واشترك في حصار مدينة نيكوبلس، لذلك بعدما فرغ من تأديب “سيسمان” وتقليم أظافره أسرع بجيوشه لإدراك “لازار” قبل دخول بلاده، وبالفعل أدركه العثمانيون عند سهل “قوص أوه” أو كوسوفا الآن، ودارت حرب عنيفة بين الجيشين على غيظ وحنق من كليهما للآخر، وصبر المسلمون صبرًا بليغًا حتى أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين وقتل الكلب الخبيث “لازار” بسبب ما فعله من شناعات ومذابح للأسرى المسلمين، وكانت هذه المعركة في 15 شعبان سنة 791 هجرية.

استشهاد مراد الأول:

بعد الانتصار الساحق الذي حققه المسلمون على الصرب الملاعين، قام السلطان مراد الأول بتفقد ساحة المعركة ليتعرف على أحوال جنوده وهكذا يكون القائد الحكيم، ويدور بنفسه بين صفوف الشهداء وهو يترحم عليهم ويدعو للجرحى بالشفاء، وفي أثناء ذلك قام جندي صربي خسيس اسمه “مليكو فيتش” وكان قد تظاهر بالموت ليفلت من سيوف المسلمين، وأسرع نحو السلطان متظاهرًا برغبته في الإسلام ومحادثة السلطان وتمكن الحراس من القبض عليه، ولكن السلطان “مراد الأول” أشار للحرس بأن يطلقوه لينال ثواب إسلام الرجل على يديه، فلما اقترب هذا الكلب الصربي من السلطان تظاهر بأنه يريد تقبيل يد السلطان وبمنتهى الغدر والخسة أخرج هذا الكافر من كمه خنجرًا مسمومًا وطعن به السلطان “مراد الأول” طعنة قاتلة، وانقض الحراس على الكلب فمزقوه بسيوفهم، ولكن ذلك لم يفد شيئًا فقد استشهد “مراد الأول” رحمه الله في نفس يوم المعركة 15 شعبان 791 هجرية، وكان عمره وقتها 65 عامًا.

ومما يدل على مكانة هذا البطل العظيم وفضله وإيمانه العميق بالله عز وجل أنه قد طلب الشهادة من الله عز وجل ليلة المعركة وكأنه قد شعر قبل هذه المعركة أنها ستكون الأخيرة في سلسلة معاركه الطويلة والتي بلغت سبعًا وثلاثين معركة كلها لإعلاء كلمة الله عز وجل ونشر دعوة التوحيد في بلاد أوروبا لذلك تكللت كلها بالنصر والظفر، وكان من دعائه ليلة المعركة: “يا الله، يا رحيم، يا رب السموات، يا من تتقبل الدعاء، لا تخزني يا رحمن يا رحيم، استجب دعاء عبدك الفقير هذه المرة، أرسل السماء علينا مدرارًا، وبدد سحب الظلام، فنرى عدونا، وما نحن سوى عبيدك المذنبين، إنك الوهاب ونحن فقراؤك، أفديك روحي فتقبل رجائي ولا تجعل المسلمين يبوء بهم الخذلان أمام العدو، يا إلهي، إنني أقسم بعزتك وجلالك إنني لا أبتغي من جهادي هذه الدنيا الفانية ولكنني أبتغي رضاك، ولا شيء غير رضاك، يا إلهي إنني أقسم بعزتك وجلالك إنني في سبيلك فزودني تشريفًا بالموت في سبيلك”.

فاستجاب الله عز وجل له وختم حياته الجهادية الطويلة بأغلى وأثمن ما يرتجيه أي مجاهد في سبيل الله وفاز بالدرة المنشودة ونال أعلى المقامات، وانضم لطابور القادة الشهداء الذين قادوا الجيوش وسألوا الله الشهادة مثل: “أنس بن النضر”، و”البراء بن مالك”، و”النعمان بن مقرن” رضي الله عنهم أجمعين.

شهادة الأعادي:

إذا أطرى المسلمون على بطل من أبطالهم أو زعيم من زعمائهم فهذا أمر طبيعي ومتوقع وقد يظن البعض أن فيه مزيد مبالغة ومحاباة بدافع الدين والعصبية، ولكن أن يثني أعداء الإسلام على بطل من المسلمين طالما ذاقوا على يديه مرارة الهزيمة، فإن هذا هو قمة الفضل وتمام المكانة وهذا ما حدث بالفعل مع السلطان “مراد الأول” واسمع شهادات الأعادي:

قال المؤرخ البيزنطي “هالكو ندبلاس” عن “مراد الأول”:

“قام مراد بأعمال هامة كثيرة ودخل 37 معركة سواء في الأناضول أو في البلقان، وخرج منها جميعًا ظافرًا، وكان يعامل رعيته معاملة شفوقة دون النظر لفوارق العرق والدين”.

وقال المؤرخ الفرنسي “كرينارد”:

“كان مراد واحدًا من أكبر رجالات آل عثمان وإذا قومناه تقويمًا شخصيًا، نجده في مستوى أعلى من كل حكام أوروبا في عهده”.

المصادر:

1- تاريخ الدولة العثمانية، د. علي حسون.

2- تاريخ الدولة العلية، محمد فريد وجدي.

3- الدولة العثمانية المفترى عليها، د. عبد العزيز الشناوي.

4- عوامل نهوض وسقوط الدولة العثمانية، د. علي الصلابي.

5- أطلس تاريخ الإسلام، حسين مؤنس.

6- التاريخ الإسلامي، محمود شاكر.

7- شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي.

8- أيام الإسلام، شريف عبد العزيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى