السلطان الذي دقت أجراس كنائس أوروبا فرحا لموته
بقلم نسرين نعيم البرغوثي
“لتُفتَحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”. بشَّر به النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل قرون من مولده، وبشر بالحدث الذي غير تاريخ الإسلام وأوروبا معاً. إنه محمد الثاني سابع الخلفاء العثمانيين، المعروف تاريخياً باسم الفاتح.
ولد السلطان محمد في 20 نيسان من عام 1429 ميلادية، ابناً للسلطان مراد الثاني، في مدينة أَدِرنة. حرص السلطان مراد الثاني على تربية وتعليم ابنه لتأهيله ليكون سلطاناً في المستقبل. وكان لتربيته في سنواته الأولى، أبلغ الأثر فيما آل إليه مستقبله. لقد تولى الأمير محمد في سنواته الأولى، نخبة من الشيوخ والعلماء، الذين عملوا على تعليمه العلوم الإسلامية، واللغات، والتاريخ وغيرها من العلوم الدينية والدنيوية، وعلى الرغم من هذه النشأة، إلا أنَّ الأمير محمد كان متمرداً في طفولته، وقد عانى أساتذته معه. فطلب السلطان مراد من الشيخ المولى الكوراني أن يعمل على تأديبه. فكان له دور كبير في تغيير مجرى حياته. لقد بثَّ فيه روح الجهاد منذ الصغر، وكان دائماً ما يوحي إليه بأنه الأمير المقصود في بشرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فنشأ متديناً تقياً مثقفاً وملماً بشؤون الحرب والسياسة.
تولى الأمير محمد الخلافة للمرة الأولى بعمر الرابعة عشرة. بعد أن تنازل السلطان مراد الثاني له عن العرش، واعتزل الناس، بعد وفاة ابنه البكر علاء الدين، فحزن عليه حزناً شديداً، إلا أن هذه العزلة لم تدم إلا شهور. فقد اضطر للعودة لاستلام السلطة، بسبب اندلاع مناوشات مع دولة المجر، بعد نقضها للهدنة مع الدولة العثمانية. فلم يستطع السلطان الصغير في حينها التصدي لهم، خصوصاً مع استصغار قادة الجيش له، وتمردهم عليه. فقام السلطان مراد بتأديبهم بعد عودته للحكم، وبقي سلطاناً للدولة العثمانية حتى وفاته رحمه الله.
عندما أصبح الأمير محمد سلطاناً للمرة الثانية كان في عمر 21، كان قد أصبح أكثر استعداداً للحكم. وكان أول أهدافه عند تولي السلطنة هو فتح القسطنطينية. بعد أكثر من 10 من محاولات فاشلة لفتحها من قبل المسلمين. وقد كانت القسطنطينية هدفاً للمسلمين منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، واستمرت المحاولات على مدى القرون، نظراً لأهميتها التاريخية والاستراتيجية.
تأسست القسطنطينية في عام 330م، على يد قسطنطين الأول. وأصبحت من أكبر وأهم مدن العالم، لكونها عاصمة الامبراطورية البيزنطية. لذلك فقد كانت مركزاً للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لمدة طويلة. كما تكمن أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية في موقعها البحري والمطل على مضيق البسفور، الذي كان يربط بين قارتي آسيا وأوروبا، وتمر من خلاله الحركة التجارية بينهما.
بدأ السلطان محمد الثاني استعداداته لهذا الفتح العظيم على الفور، فبدأ بالجيش، حيث وصل تعداد الجيش العثماني في حينه إلى ربع مليون عسكري، وقد كان هذا العدد هائلاً مقارنة بأعداد جيوش تلك الفترة. واعتنى بتجهيزهم بأحدث الأسلحة. وطلب من المهندس المجري أوربان، بأن يصنع مدفعاً ضخماً وحديثاً، بمكنه فتح فجوة في اسوار القسطنطينية الحصينة. وخلال ثلاثة أشهر كان المدفع الذي أطلق عليه المدفع السلطاني جاهزاً، بوزن 700 طن. وكان أضخم مدفع من نوعه في ذلك الزمان، وقد احتاج إلى شهرين، و100 ثور، و100 رجل، لسحبه من أدرنة حتى اسوار القسطنطينية. وحرص السلطان على تمهيد الطريق من أدرنة إلى القسطنطينية، لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة.
كما شيَّد السلطان محمد قلعة روملي حصار (وتعني قلعة الروم)، على الجانب الأوروبي للبسفور. وكانت قلعة محصنة، أصبحت قادرة من خلال نيران مدافعها، على منع أي سفينة من الوصول للقسطنطينية، فتقطع الإمدادات عن المدينة. وأولى السلطان محمد الثاني عناية خاصة بالأسطول العثماني، فزوده بالسفن ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، كونها مدينة بحرية. وبعد سنتين من استلامه الحكم، في عام 1453 ميلادي، توجه السلطان محمد نحو القسطنطينية، بصحبة جيشه المكون من ربع مليون مقاتل. مستغلاً ضعف الدولة البيزنطية، في تلك الفترة، نتيجة لحروبها الداخلية ونزاعها مع جيرانها. وبفضل استعداداته العسكرية، بدأ حصاره لمدينة القسطنطينية، لم يكن اقتحام القسطنطينية أمراً سهلاً، فهي تُعَد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما يحيطها من أسوار وقلاع، إضافة لأنها محاطة بالمياه البحرية من ثلاث جهات: مضيق البسفور، وبحر مرمرة والقرن الذهبي.
بدأ السلطان محمد حصاره بنصب المدافع أمام الاسوار، وانتشرت السفن العثمانية حول المدينة. استمات البيزنطيون في الدفاع عن المدينة، واحكموا تحصيناتها. إلا أنَّ استمرار ضرب المدفعية العثمانية اوقع الرعب في قلوب العسكر والسكان على حد سواء. حاولت أوروبا امداد الدولة البيزنطية بالعون. ولكن إحكام الحصار من قبل العثمانيين دفع قسطنطين، إمبراطور بيزنطة، إلى تقديم عروض للسلطان محمد لعله يفك الحصار عن المدينة، إلا أن عروضه قوبلت بالرفض، لحقت بالأسطول العثماني عدد من الهزائم، أدت إلى عزل قائد الأسطول خلال الحصار. وحاول بعض مستشاري السلطان، حضه على فك الحصار والتراجع. لكن خطرت للفاتح خطة عبقرية، تقضي بنقل السفن براً نحو القرن الذهبي، لتجنب السفن الحربية البيزنطية والاوروبية، وإيجاد ثغرة للمدينة من منطقة أكثر أماناً. وخلال ليلة واحدة تمكن العثمانيون من سحب 70 سفينة، وإنزالها في القرن الذهبي على غفلة من البيزنطيين. وقد أشرف محمد الثاني شخصياً على هذه العملية. وكانت خطة لم يسبقه اليها أحد، دلت على براعة ومهارة العثمانيين.
في صباح اليوم التالي، فوجئ البيزنطيون بوجود السفن العثمانية على شواطئهم بدون أي حاجز، فانتشر اليأس بين أهل المدينة، وكثرت الشائعات حول سقوطها. فضعفت الروح المعنوية، ودبت الفوضى بين المدافعين، الذين تركوا الأسوار الأخرى للتوجه نحو القرن الذهبي للدفاع عن المدينة، مما سبب الخلل في المنظومة الدفاعية بأكملها، فاستغل العثمانيون ذلك بمضاعفة قصف الأسوار بالمدافع ليلاً ونهاراً. في هذه الفترة أشار معاونو الإمبراطور قسطنطين عليه بالخروج من المدينة، والتوجه نحو الدول الأوروبية لطلب المساعدة بنفسه، لكنه رفض رفضاً قاطعاً الخروج.
لقد استخدم السلطان محمد جميع فنون القتال المعروفة والمبتكرة، فكان يفاجئ العدو كل يوم بخطة جديدة لم يحسب لها حساب. في النهاية أرهق الحصار أهل المدينة، وضعفت المقاومة، وانتشرت الشائعات، وانحدرت الروح المعنوية. فأدرك محمد الثاني أن هذه فرصته، وسارع بإرسال رسالة إلى الإمبراطور يدعوه فيها للاستسلام، وتسليم المدينة دون إراقة دماء، مع تقديمه وعداً بحقن دماء كل من في المدينة، وتأمين خروج من يريد مغادرتها. لكن الإمبراطور رفض هذا العرض، وأصر على الدفاع عن المدينة حتى آخر نفس، فزاد الجيش العثماني من ضرب المدافع وشدد الحصار. ثم بدأ هجوم شامل على المدينة براً وبحراً، ومن كل الجهات، وسقط نتيجة لذلك عدد كبير من الضحايا من الطرفين. واستمر الهجوم إلى ان تمكن العثمانيون من اقتحام أحد اسوار المدينة وتدفقوا نحوها، فنزل قسطنطين بنفسه ليشارك بالقتال، فقاتل حتى قتل.
ظهر الثلاثاء 29 أيار من عام 1453 ميلادية، وبعد مرور حوالي شهرين على الحصار، كان محمد الفاتح وجيشه في وسط المدينة، وقال لهم “لقد اصبحتم الجيش الذي بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم”. وكان أول ما قام به بعد الفتح، أن سجد سجدة شكر لله عز وجل، ثم أمر بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد. وأمن النصارى ورجال الدين المسيحي على أنفسهم ودينهم، فأعلن الكثير منهم إسلامه. بعد أن تغيرت نظرتهم للعثمانيين والإسلام على حد سواء، فقد كانوا يتوقعون أن يكون مصيرهم القتل. فلم تمض أيام حتى استأنف الناس حياتهم اليومية، واستمر المسيحيون بممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية. وهكذا، وبعد مرور أكثر من ثمانية قرون على بشرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تحقق هذا الفتح العظيم.
توفي السلطان الفاتح، بعد حياة حافلة أمضاها بالجهاد والفتوحات، بعمر 53 عاماً، بعد أن تم دس السم له من قبل طبيبه الخاص يعقوب باشا، اثناء حملة عسكرية يُعتقد أنها كانت لإيطاليا. وصل خبر موت السلطان إلى البندقية بعد 16 يوماً، في رسالة احتوت على جملة واحدة “لقد مات العقاب الكبير”. فانتشر الخبر في البندقية ثم إلى باقي أوروبا، وراحت الكنائس في أوروبا تدق أجراسها لمدة ثلاثة أيام بأمر من البابا.
(المصدر: مدونات الجزيرة)