السعودية.. من تكفير العلمانيين.. إلى شيطنة الإسلاميين
بقلم د. فتحي الفاضلي
نُثَمنُ ونُقَدرُ ونَحترمُ دورَ العلماءِ الأفاضلِ الأجلَّاءِ من أيِّ بلادٍ كانوا، وبِدونِ استثناء، على أن يكونوا فقهاءَ وعلماءَ ومُفتين للوطن، لا مفتين للسلطان. وأحترمُ وأقدرُ شيوخَ وعلماءَ أفاضلَ أعتبرَهم قمةً وقامة في العالم الإسلامي، ومنهم العالم الجليل ابن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين وغيرهم من العلماء الأجلَّاء الذين شهدت لهم الأمة بالتفاني والعلم والإخلاص. لكن الحقيقة أن فقهَ السعودية قد حيَّرني، وحيَّرني جدا جدا.
لقد ضَخَّت السعودية أطنانا من الكتب ضد الشيعة، أثناء الحرب الإيرانية العراقية، كُتب تطعن في كل ما له علاقة بالشيعة، وكيف أنهم رافضة ويطعنون في عائشة (رضي الله عنها)، والصحابة الكرام، وأنهم مجوس الأمة، وعَبدةُ النار، ولا يغيب عنا كتاب “وجاء دور المجوس”، ولا يفوتنا- أيضا – التنويه إلى الفضائيات والإذاعات المسموعة التي كانت تَصُب في هذا الاتجاه ليلا ونهارا ولسنوات ودون توقف، ثم فجأة تجد حكام السعودية يَتغزَّلون في النظام الإيراني ورجالاته السياسيين والدِّينيِّين منهم!
كما تَحدَّث علماءُ السعودية، ولأكثرَ من نصف قرن، عن الولاء والبراء، ثم وبكل بساطة يذهب النصف قرن هباءً منثورا، فتقوم الحكومة السعودية بإدخال أكثر من نصف مليون جندي من أنحاء العالم لتدمير دولة عربية أخرى، وبالتأكيد لا نُقر جريمة غزو الكويت من قِبَل الجيش العراقي، بل نَعتبرها جريمةً لا يمكن قَبولها أو تبريرها أو التغاضي عنها، ولكن – مرة أخرى – ذهب نصف قرن وأكثر من فقه الولاء والبراء مع رياح الصحراء.
وليست قصةُ قيادة المرأة للسيارات عنا ببعيد، فمن التجريم والتحريم والتبرير، إلى السماح للمرأة بالقيادة، ولا اعتراض على السماح للسيدات بقيادة السيارة، ولكن جاء هذا الانقلاب فجأة أيضا، كغيره من الانقلابات الفقهية، وبعد عقود من الضخ الهائل لفقه وفتاوى تُعارض قيادة المرأة للسيارات، بل وبعد زيارة وضغط من رئيس دولة أخرى غير مسلمة.
ولا يَغيب عن القارئ الكريم – هذه الأيام – صوت المحبة والمودة تُجاه إسرائيل من قبل حكام السعودية، ولا بأس بالسلام والأمن والأمان، على أن يكون سلاما عادلا، ولكن هذا التقارب وهذا التطبيع وهذا الغَزَل، صاحَبَه شيطنة للضحِيَّة، وتأليه للظالم والقاتل والمحتل، وضياع لحقوق الفلسطينيين. بل صاحَبَ هذا التقاربَ (الجديد القديم) تصنيفُ الصهاينة كملائكة، وتصنيفُ الإسلاميين كشياطين وإرهابيين وجلَّادين.
التقاربُ مع إسرائيل صاحَبَه الجفاء مع أبناء المسلمين، بل وتجريمهم، فبَعد عقود من شيطنة إسرائيل، اتجهت السعودية إلى شيطنة الفلسطينيين، وشيطنة المقاومة بالذات، متمثلة في “حماس” التي تذود عن مقدسات المسلمين من جهة، وتقاوم لإرجاع حقوق الفلسطينيين من جهة أخرى.
ليس ذلك فحسب، بل صاحب هذا التقارب مع إسرائيل عداوةٌ لدول مسلمة، بل لدول مجاورةٍ تربطها مع السعودية روابط عقائدية وتاريخية ومصيرية وروابط مودة وقرابة ومعروف، وصاحب- هذا التقارب أيضا – حرب شعواء تشنها السعودية على بلد مسلم، تدور رحاها حتى يومنا هذا. كما لا يخفى على أحد المجهوداتُ الجبارة الجديدة، التي تجري من أجل عَلمنة الدولة السعودية، وذلك بعد عقود من تكفير العلمانية، بل منذ تأسيس المملكة.
ولا يغيب عنا مصلحة المملكة فيما تفعله، أو مصلحة أي دولة غيرها، ولكن إذا كانت مصلحة الحكام أو الحكومة أو المملكة أو الملوك أو السلاطين، مُقدَّمة على مصلحة الأمة ومصلحة الإسلام والمسلمين، وإذا كانت توجهات العلماء وفتاويهم تميل أينما تميل مصلحة الحاكم، فمِن حقنا أن نُصاب بالحيرة، ومن حقنا أن نفقد الثقة في علماء السلاطين، وأن نقاطع الفقه الذي يدور أينما تدور مصلحة الحكام والأمراء والملوك. من حقنا أن نُقاطع الفقه الذي يتغير بتغيُّر قناعات السلاطين، لا بتغير اجتهادات العلماء، فالمؤمن لا يُلدغ من جُحر ألف ألف ألف مرة ويزيد.
بل ونؤكد في هذا الصدد أيضا، ونُذكِّر بضرورة الالتزام باتباع فتاوى علماء الوطن (كلٌّ حسب بلاده)، لجَمْعهم بين العلم الشرعي وعلم الواقع، وخاصة أولئك الذين لا يُفتون لمصلحة الحاكم أو الحكومة أو السلطان، بل يفتون لمصلحة الأمة والوطن والإنسان. فالإسلام رسالة حضارية عظيمة راقية، أنزلها الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان لا لخدمة الحكام.
(المصدر: مدونات الجزيرة)