مقالاتمقالات مختارة

السرقات العلمية.. شيءٌ من مفاسدها الدنية

السرقات العلمية.. شيءٌ من مفاسدها الدنية

بقلم وائل البتيري

السّارق في عُرف العامّة هو الذي يصاحب الليل، يستفيد من ظُلمته ليستخفي عن الأنظار، فيسطو على بيت أو محل تجاري أو سيارة، يسرق مالاً أو متاعاً، تساعده على ذلك سرعة حركته، وخفة يده، وقوة انتباهه، وجرأته على الإقدام والمواجهة.

لو سرقَ هذا ما سرق؛ فلن يكون ما يسرقه أغلى وأثمن من العلم الذي تبدعه العقول والأحاسيس والجوارح؛ التي تشارك الإنسان نتاجَه العلميَّ الذي يسهر من أجله الليالي الطوال، يغالب النوم، ويصارع الهموم، ويستعلي على متطلبات الحياة الأرضية، ويهجر العوائد والملذات، ويُعرض عن الأماني والشهوات، في صراعٍ لا يقدر على حسمه إلا أصحاب العزائم الباسقة، والهمم العالية.

هذا العلم الذي يتمخض عن مكابدةٍ تفتت الأكباد؛ أصبح اليوم نهباً لتجار الكتب، وطلاب الدنيا الذين يشترون بالعلم ثمناً قليلاً.. تنتفخ به جيوبهم وكروشهم، في غفلة عن يومٍ يسألهم الله تعالى فيه عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها.

إن الذي يسرق كتاباً لواحدٍ من المسلمين؛ هو في الحقيقة يسرق أمة الإسلام كلَّها، لأن المسلمين كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فلا ينبغي أن يُسكَت عن هؤلاء السارقين الناهبين لجهود إخوانهم؛ بحجة الستر وعدم إثارة الفتنة.. والحق أن الفتنة في صورتها الجلية؛ تتمثل في السكوت عن هؤلاء الذين يتكسّبون بالعلم، ولا يجدون رادعاً يردعهم، ويضع حداً لشنيع فعلهم، وقبيح جُرمهم.

إن الذي يسرق كتاباً لواحدٍ من المسلمين؛ هو في الحقيقة يسرق أمة الإسلام كلَّها، لأن المسلمين كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فلا ينبغي أن يُسكَت عن هؤلاء السارقين الناهبين لجهود إخوانهم؛ بحجة الستر وعدم إثارة الفتنة

وإن من الواجب على علماء الأمة ومفكّريها أن يضعوا حدّاً لهذه السرقات التي تملأ ساحة التأليف والتصنيف، وأن يتعاملوا مع هذه الظاهرة بجدية وحزم.. فإن سارق المال والمتاع مرتكبٌ كبيرةً توجب إقامة الحد إذا لم يكن ثمة مانعٌ شرعي لإقامته، فما حُكم الشرع فيمن يسرق العلم الذي قال فيه الإمام أحمد رحمه الله: “الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس”؟!

وكي نجلّي قبيحَ صنيعِ سُراق العلم؛ نسوق شيئاً من المفاسد والمخالفات الشرعية التي تصدر عن عديمي الحياء هؤلاء..

أولاً: الكذب الصريح، فالمؤلّف يقول: “هذا كلامي.. أبدعتُه بعقلي وقلبي ووجداني” وهي دعوى كاذبة تصادم الحقيقة والواقع.

ثانياً: التشبع بما لم يُعطَ، وفي الحديث المتفق عليه؛ يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “المتشبّع بما لم يُعطَ كلابسِ ثوبَي زور”، وقد يشمل هؤلاء المتشبعين بعِلْم غيرهم قولَ الله تعالى: {لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتَوْا ويحبّون أن يُحمَدوا بما لم يَفعَلوا فلا تحسبنَّهُم بمفازةٍ من العذاب ولهم عذابٌ أليم} (آل عمران: 188).

قال ابن كثير في تفسيره: “يعني بذلك المرائين المتكثّرين بما لم يُعطَوا، كما جاء في (الصحيحين) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ادّعى دعوى كاذبة ليتكثّر بها؛ لم يزدْهُ الله إلا قلّة)”.

ثالثاً: السرقة؛ بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ دنيئة؛ من أظهرها أنها اعتداءٌ شنيع على حقوق الآخرين وحرماتهم.

رابعاً: خيانة القراء الطيبين الذين استأمنوا هذا المؤلّف على مسائل العلم.

خامساً: التسبب بما يمكن تسميته بـ”الفوضى العلميّة”، فلربما لزم طالباً أو كاتباً أو باحثاً أن ينقل نصّاً لا يعلم أنه مسروق؛ فيعزو هذا النصّ لهذا (المؤلف = السارق) المعاصر، ويكون هذا الأخير قد سرقه من مؤلّف آخر، وربما الثاني سرقه من ثالث… وهكذا. ولا يظنّ أحدكم أنني أبالغ، فقد وقفت على كثير من هذا النوع !

سادساً: احتمالية أن تتضمن هذه السرقات سرقة كلام لأناس فارقوا الحياة، وأفضوا إلى ما قدّموا، فمن أين لنا أن نتحلّل من حقوقهم، ونستسمح منهم، وقد قال ابن رشد: (من شروط التوبة من مظالِم العباد؛ تحلُّلهم)؟

سابعاً: الذي يسرق نصوصَ غيره “يُلزم نفسه بأن يحملَ أخطاء الآخرين الذين نقلَ أقوالهم، واستشهد بآرائهم” كما قال أحد السراقين جزاه الله بما يستحق!

ثامناً: قد تنتج عن هذه السرقات صدمة نفسية لدى القراء والمعجَبين والأتباع، حينما يكتشفون أن الذين كانوا يظنونهم علماء ودعاة يُقتدى بهم؛ ما هم إلا عصابة من لصوص النصوص!!

تاسعاً: تشويه صورة العلماء والملتزمين، وصدّ العامة عن الالتفاف حولهم، والاقتداء بهم.

عاشراً: العاقبة السيئة للسارق، فقد يُكتشَفُ أمرُه، ويُفتضَحُ جُرمُه؛ فيُشَهَّرُ به على رؤوس الأشهاد، وقد يؤول أمرُه إلى الحبس مع المجرمين؛ هذا في الدنيا، أما في الآخرة؛ فذاك يومٌ تُرَدُّ فيه الحقوق إلى أصحابها، وينالُ كلُّ سارق عقابَه.

أيصلُح بعد هذه المفاسد كلها؛ أن يُسكَت عن هذه الظاهرة، وأن توارَى السّرقات خلف دعوى الانتساب للدعوة والدعاة، وأن يُستَرَ على أصحابها – وهم مصرُّون على إفكهم، غير تائبين منه – بحجّة “مصلحة الدعوة!” و”عدم تجريء الناس على أهل العلم!”؟.. تباً لدعوة تقبل أن يكون هؤلاء من أعلامها، وسحقاً لعلمٍ لا يورث عملاً وخشية.

وأختم بخبر قرأته في صحيفة يومية، جاء فيه أن لصاً لم يتمكّن من الفرار بحاجيات سرقها من مجمع تجاري في إحدى مناطق العاصمة الأردنية عمان، حيث إنّه أُصيب بنوبة قلبية أثناء محاولته الفرارَ بالمسروقات.. وكشفت التحقيقات أن هذا السارق من ذوي الأسبقيات في قضايا السرقة.

وقرأت خبراً عن حادثة شبيهة وقعت في مصر المنكوبة بالانقلاب قبل يومين !!

أضعُ هذين الخبرين بين يدي أولئك المؤلفين والمحققين السارقين؛ لعلّهم يستيقظون من غفلتهم، ويعيدون الحقوق إلى أصحابها، ويعتزلون فنّ التأليف والتحقيق و(التلفيق)، ويدَعون الميدان لأصحاب الأقلام الصادقة، الذين لا يتخذون من العلم مطيّة للوصول إلى متاع الدنيا الفانية.

وليتذكروا أنهم إنْ أصروا على ما هم عليه؛ لربما يقعون يوماً ضحية جلطة قلبية أثناء اقترافهم سرقة علمية، ثمّ يُردّون إلى مَعاد.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى